ستيفن هوكينغ: عجز العقل عن الاستسلام

ستيفن هوكينغ: عجز العقل عن الاستسلام


15/03/2018

"إن فكرة الموت قريباً كانت صدمة بالنسبة إليّ، ولكنّي أذكر صبياً كان في سرير مجاور لسريري يحتضر لإصابته بسرطان الدم، فأحسستُ أنّ هناك من هم في أوضاع أسوأ من وضعي؛ فمرضي على الأقل ليس مؤلماً".. بكل هذه البساطة والواقعية اختار أن يتابع ستيفن هوكينغ حياته، بعد أن أخبره الأطباء أنّه يعاني من داء عضال يتمثّل في تلف متدرج ومستمر لجهازه العصبي سيؤدي إلى وفاته خلال 5 أعوام على أبعد تقدير.

حتى العام 1974 ظل هوكينغ قادراً على تناول الطعام والنهوض من سريره بنفسه

الأعجوبة الثامنة 

كان ذلك العام 1963 بعد أيام من احتفال أشهر فيزيائي عرفته البشرية بعد أينشتاين بعيد ميلاده الحادي والعشرين، وقبلها أخذت قدراته البدنية تتراجع، وخسر ببطء قدرته على الكتابة؛ صدقت أقوال الأطباء باستمرار انهيار جسده تدريجياً، ولكنه خيّب حتميات رحيله المبكر عندما تمسك بالحياة حتى بلغ 76 عاماً، مقدماً إنجازات مذهلة في حقل تخصصه، الفيزياء النظرية، تتجاوز معجزته الطبية بمراحل.

حتى العام 1974 ظل هوكينغ قادراً على تناول الطعام والنهوض من سريره بنفسه، ولكن أوضاعه أخذت تسوء أكثر فأكثر؛ فاتفق مع بعض تلامذته على مساعدته مقابل إيوائهم مجاناً، وبعد العام 1980 صار يعتمد على ممرض خاص لساعة أو ساعتين صباحاً ومساءً .

في العام 1985 أصيب بالتهاب رئوي استدعى إجراء جراحة في صدره أودت بصوته تماماً، بعد أن كان على الأقل يتحدث بشكل ضعيف جداً ويلقي المحاضرات بمساعدة مترجم يكرر بصوت عالٍ ما يفهمه من كلامه.

خالف هوكينغ توقعات رحيله المبكر عندما تمسك بالحياة حتى بلغ 76 عاماً

ولحسن حظ هوكينغ أنّ هذه الحادثة تزامنت مع بلوغ شهرته العلمية الآفاق؛ فهبّت جهات عديدة لتمويل الخدمات التي يحتاجها، ولعلّ أهمها جهاز الحاسوب الذي صممه له دايفيد مايسون ودمجه بكرسيه المتحرك مع نظام معقد رد لهوكينغ القدرة على الكلام؛ حيث عاد يتحدث بسرعة 15 كلمة في الدقيقة من خلال استخدام إصبعه، ومنذ ذلك الوقت أخذت شركة "إنتل" على عاتقها تزويد ستيفن هوكينغ بحواسب معدلة ومنتجة خصيصاً له باستخدام تقنيات معقدة استخدم فيها عضلات خده للتعبير.

كان مشهد جسده المشلول تماماً ورأسه يتدلى على كتفه لعجزه عن إبقائه مستقيماً، مع أجهزة مساعدته على النطق صورة مثيرة للتعاطف، ولكن لمن عرفه كانت هذه الصورة الأيقونية تمثل إلهاماً عز نظيره حتى اعتبره مريدوه أعجوبة العالم الثامنة، وهو الحاصل على 12 شهادة دكتوراه شرف، ونال من الأوسمة والميداليات والجوائز ما لا يمكن حصره، فضلاً عن عضويته في الجمعية الملكية البريطانية، والأكاديمية الوطنية للعلوم في أمريكا.

أخذت شركة "إنتل" على عاتقها تزويد ستيفن هوكينغ بحواسب معدلة ومنتجة خصيصاً له

300 عام بعد جاليليو

ولد ستيفن وليم هوكينغ في أوكسفورد بإنجلترا في 8 كانون الثاني (يناير) العام 1942 الذي صادف الذكرى الـ300 لوفاة جاليليو، الذي وصفه بأنه بمفرده أكثر من أي شخص آخر المسؤول عن ميلاد العلم الحديث.

رغم تحصيله المتوسط في المدرسة، عرف بأنّه كان ذكياً بشكل لا يُصدق، حتى أنّه تمكّن مع رفاقه في مراهقته من بناء جهاز حاسوب من الصفر، كان والده يرغب في أن يسير على دربه ويدرس الطب، أما هو فمال إلى الرياضيات، ولكن في النهاية انصرف إلى دراسة الفيزياء بجامعة أكسفورد، وما هي إلا ثلاثة أعوام حتى حاز شهادة شرف من الدرجة الأولى في العلوم الطبيعية.

في العام 1985 أصيب بالتهاب رئوي استدعى إجراء جراحة في صدره أودت بصوته تماماً

بعد ذلك انتقل هوكينغ إلى جامعة كامبريدج لإجراء دراسات في علم الكونيات، وبعدما نال شهادة الدكتوراه في هذا المجال أصبح باحثاً ثم أستاذاً محاضراً، وراحت شهرته العلمية تنمو مع كل بحث يجريه أو نظرية يطلقها، حتى توصل في العام 1979 إلى شغل كرسي هنري لوكاس لقب أستاذية الرياضيات في جامعة كامبريدج الذي يعد من أرقى المناصب الأكاديمية في العالم، وهو شرف لم ينله قبله سوى قلة على رأسهم إسحاق نيوتن العام 1669.

انصبّت جهود هوكينغ منذ سبعينيات القرن الماضي على دراسة القوانين الفيزيائية التي تتحكم بحركة الكون، مراجعة أهم النظريات العلمية، وتمكن في العام 1974 من أن يثبت نظرياً أنّ الثقوب السوداء تصدر إشعاعاً سمّي باسمه "إشعاع هوكينغ" على عكس ما توصلت إليه نظرية النسبية العامة التي وضعها ألبرت أينشتين، مؤكداً أنّ هذه الثقوب ليست سوداء تماماً.

والطريف من جهة أخرى أنّ ستيفن هوكينغ دخل العام 1997 في رهان مع عالم آخر يُدعى جيم بريسكل بأنّ المعلومات يمكنها أن تضيع في الثقوب السوداء، واعترف هوكينغ في العام 2004 أنّه كان مخطئاً.

كون يفهمه الجميع

العجيب أنّ ستيفن هوكينغ في خضم حالته الصحية وانشغالاته العلمية وضع مجموعة من الكتب التي تهدف لتقريب تخصصه العلمي المعقد من العامة، بأن يكتب لهم قصة الكون بلغة يفهمها الجميع، كان أولها وأشهرها "تاريخ موجز للزمن" العام 1988 الذي تخطت مبيعاته 10 ملايين نسخة خلال 20 عاماً، وبقي ضمن لائحة الكتب الأكثر مبيعاً لمجلة "صانداي تايمز" لأكثر من 4 أعوام، وتُرجم إلى 35 لغة، كما أصدر: الثقوب السوداء والأكوان الناشئة ومقالات أخرى (1993)، الكون في قشرة جوز (2001)، الوقوف على أكتاف العمالقة (2002)، الله خلق الأرقام (2005)، الأحلام التي صنعت منها الأشياء: أكثر أوراق الفيزياء الكمية إدهاشاً وكيف صعقت العالم العلمي (2011)، تاريخي الموجز (2013).

شغل هوكينغ كرسي هنري لوكاس للرياضيات بجامعة كامبريدج أحد أهم المناصب الأكاديمية عالمياً

وامتلك هوكينغ موهبة تأليف قصص الأطفال بالاشتراك مع ابنته لوسي؛ حيث أصدر: "مفتاح جورج السري للكون" (2007)، "بحث جورج عن الكنز الكوني" (2009)، "جورج والانفجار العظيم" (2011)، طجورج والترميز غير القابل للكسر" (2014)، وأخيراً كتاب "جورج والقمر الأزرق" وذلك قبل وفاته بعامين.

كتاب هوكينغ الأشهر "تاريخ موجز للزمن"

محطات مثيرة للجدل

ورغم هذه الحياة العلمية الحافلة، لم يستطع ستيفن هوكينغ أن يتجاوز بعض المحطات دون إثارة الجدل؛ فبعد نشر كتابه الأشهر "تاريخ موجز للزمن" تعرض لعاصفة من الانتقاد نتيجة الملحق الذي وضعه في خاتمته، ووصف فيه إسحق نيوتن الذي ورث عنه كرسي هنري لوكاس بأنّه لم يكن بذلك الشخص اللطيف، "بل يمتلك مواهب في المراوغة والنقد اللاذع"، مستشهداً بصراعاته مع عالم الفلك بالمرصد الملكي جون فلامستد الذي سبق أن أمده بالكثير من المعطيات اللازمة لكتابه "المبادئ".

كما أشار هوكينغ إلى صراع نيوتن الأكثر خطورة مع الفيلسوف الألماني ليبنتز حول ريادة اكتشاف فرع الرياضيات الأهم "التفاضل والتكامل"، وكيف عبّر بعد موت خصمه عن ارتياحه بأنّه "سحق قلبه".

تخطت مبيعات كتابه "تاريخ موجز للزمن" 10 ملايين نسخة خلال 20 عاماً

وفي الكتاب ذاته هاجم أينشتاين لدعمه الصريح للصهيونية، مؤكداً أن ّرفضه للعرض الذي قُدم له لرئاسة إسرائيل العام 1952 لم يكن لأسباب سياسية؛ بل لقناعته أنّ الاشتغال بالعلم أكثر أهمية، مستشهداً بقوله "السياسة تختص بالوقت الحالي، أما المعادلة فشيء يختص بالخلود".

وفي هذا السياق ألغى هوكينغ زيارة كانت مقررة إلى إسرائيل العام 2013 لحضور مؤتمر برعاية شيمون بيريز في مدينة القدس، واعتُبر قراره مؤشراً على تأييده حملة المقاطعة الأكاديمية للجامعات الصهيونية التي تقودها اللجنة البريطانية من أجل الجامعات الفلسطينية.

وشهد العام 2010 إثارة هوكينغ عاصفة جدله الكبرى عندما تراجع تماماً عن آرائه الدينية بأن فكرة الخالق لا تتعارض مع الفهم العلمي للكون التي تضمنها كتابه "تاريخ موجز للزمن"، وذلك عندما أصدر بالاشتراك مع الفيزيائي الأمريكي لينارد ملوديناو كتاب "التصميم العظيم" الذي قدم فيه نظرية جديدة شاملة تفضي إلى أن الإطار العلمي الكبير لا يترك حيزاً لوجود الإله.

وفي الوقت الذي رحب البعض بهذا التحول كعالم الأحياء البريطاني الملحد ريتشارد دوكينغز الذي اشتهر بكتابه "وهْم الإله"، فإنّ علماء آخرين أبدوا حماسة أقل، مثل؛ رئيس "الجمعية الدولية للعلوم والدين" البروفيسير جورج إيليس، الذي قال: "مشكلتي الكبرى مع ما ذهب إليه هوكينغ هي أنه يقدم للجمهور أحد خيارين: العلوم من جهة والدين من الجهة الأخرى، وسيقول معظم الناس: "حسنا.. نختار الدين"، وهكذا تجد العلوم أنّها الخاسرة".

حلم ستيفن هوكينغ بالوصول إلى نظرية شاملة للفيزياء تفسر كل مظاهر الكون أسماها "نظرية كل شيء"

نظرية كل شيء

حلم ستيفن هوكينغ بالوصول إلى نظرية شاملة للفيزياء تفسر كل مظاهر الكون أسماها "نظرية كل شيء"، وقد نشر أفكاره هذه العام 2002 في كتاب حمل هذا الاسم، وهو يضم عدة محاضرات له حول الكون وتفسيره.

وقد اختار المخرج جيمس مارش أن يعنون بهذا الاسم فيلم السيرة الذاتية لهوكينغ العام 2014 بالاستناد إلى كتاب زوجته السابقة جين وايلد هوكينغ "من مذكرات السفر إلى اللانهاية: حياتي مع ستيفن"، الذي يركز على علاقتها مع زوجها السابق، وتشخيصه بداء العصبون الحركي ونجاحه في الفيزياء، وقد مازح هوكينغ بطل الفيلم الذي أدى دوره، إيدي ريدماين، بعد فوزه بجائزة الأوسكار لأفضل ممثل العام 2015 بقوله "إنّ إيدي لم يجسد شخصيتي الجميلة بشكل كامل".

تراجع تماماً عن آرائه الدينية السابقة القائلة إنّ فكرة الخالق لا تتعارض مع الفهم العلمي للكون

ويذكر أنه ظهرت أعمال فنية أخرى سبقت هذا الفيلم مستلهمة من قصة حياة ستيفن هوكينغ مثل: هوكينغ (2004)، ما وراء الأفق (2009) وهو يدور حول قصة صحافية تجري مقابلة مع هوكينغ، الذي فاجأها بأخذها في رحلة غير متوقعة عبر الزمان والمكان، وقدم لها إجابات مذهلة حول تساؤلاتها، ووضع سيناريو هذا الفيلم 5 كتّاب، من بينهم هوكينغ نفسه.

في أول مشاركة لستيفن هوكينغ على فيسبوك، لخّص فلسفته بالحياة بقوله: "لقد تساءلت دائماً ما الذي يجعل الكون موجوداً، فالزمان والمكان يبقيان لغزاً إلى الأبد، ولكن ذلك لم يمنع سعيي أبداً لإدراك الحقيقة، ولقد تطورت كثيراً الاتصالات بين بعضنا البعض بلا حدود، والآن لديّ فرصة وأنا حريص على مشاركتها معكم. ابقوا فضوليين للمعرفة، أنا أعلم أنني سوف أظل كذلك إلى الأبد".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية