جذور مكتسبات المرأة التونسية تعود لعصر مبكّر من التاريخ الإسلامي

جذور مكتسبات المرأة التونسية تعود لعصر مبكّر من التاريخ الإسلامي

جذور مكتسبات المرأة التونسية تعود لعصر مبكّر من التاريخ الإسلامي


18/10/2017

تتمتع المرأة التونسية بمكانة وقدر من الحقوق والحريات، يفوق ما تحظى به قريناتها من نساء المجتمعات العربية والإسلامية، ولا يبدو الأمر -كما يروق للبعض اختزاله- محض تأثرٍ معاصرٍ بالاحتلال الفرنسي والقيم والعادات الغربية؛ بل لقد حظيت المرأة التونسية بخصوصية من السهل ملاحظتها عبر التاريخ الإسلامي ليس فقط ممارسةً، وإنما كذلك تشريعاً فقهياً يعكس مدى المرونة التي تعامل بها كثيرٌ من الفقهاء حيال تعاطيهم مع ما يخصّ المرأة من قضايا وأحكام، كما يعكس الرؤية التنويرية التي خوّلت المرأة تلك المكانة في تلك العصور.

إنّ الحالة المتفردة للمرأة التونسية لا تعود إلى عصر الاحتلال الفرنسي، وإنما هي ضاربة في القدم وتعود جذورها إلى عصر مبكر من التاريخ الإسلامي، فتصفّح التاريخ التنويري المتعلق بقضايا المرأة نجد "أروى" القيروانية، تحديداً في مطلع القرن الثاني الهجري، أواخر العهد الأموي وبداية العصر العباسي؛ إذ إنّ أروى بنت منصور بن عبد الله الحميري حين تزوجها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، وقت أن كان هارباً متوارياً ببيت أبيها من ملاحقة الأمويين، اشترطت عليه في عقد زواجها ألا يتزوج عليها ولا يتّخذ معها جواري وإماء، فإن فعل شيئاً من ذلك كان لها أن تطلّق نفسها منه، وقد وافق أبو جعفر على هذا الشرط ولم يكن يعلم أنّه بعد سنواتٍ قليلة سيصبح الخليفة في بلاط مليء بالجواري والإماء.

وقد حاول أبو جعفر بعد أن صار الخليفة أن يتحلل من هذا الشرط فأرسل للعديد من الفقهاء ليفتوا له بجواز التسرّي والتعدد إلا أنّ أحداً لم يفتهِ بذلك، ويُروى أنه سأل الإمام أبا حنيفة أمام زوجته "أروى": كم يحل للرجل الحر من النساء؟ فقال الإمام: أربع، فقال أبو جعفر لها: اسمعي يا حرة، فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين لا تحل لك إلا واحدة، فغضب الخليفة وقال: الآن قلت أربع، فقال الإمام: ﯾﺎ أﻣﯿﺮاﻟﻤﺆﻣﻨﯿﻦ، ﻗﺎل ﷲ ﺗﻌﺎﻟﻰ "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة"، ﻓﻠﻤﺎ ﺳﻤﻌﺘُﻚ ﺗﻘﻮل:"اﺳﻤﻌﻲ ﯾﺎ ﺣﺮة" ﻋﺮﻓﺖُ أﻧّﻚ ﻻ ﺗﻌﺪل، ﻓﻠﮭﺬا ﻗﻠﺖ ﻻ ﯾﺤﻞ ﻟﻚ إﻻ واﺣﺪة، فظلّ المنصور وفياً لها إلى أن توفيت.

تثبت المصادر التاريخية أنّ عقود الزواج بالقيراون تضمّنت اشتراطاتٍ للمرأة، كأن يكون أمر طلاقها بيدها إن تزوّج عليها زوجها

وما يستدعي الوقوف عنده أمام أروى هو ما ذكرته بعض المصادر -مثل كتاب شهيرات التونسيات لحسن حسني عبد الوهاب- من أنّه منذ ذلك العهد أصبحت كل نساء قيروان يشترطن هذا الشرط في عقد الزواج، وامتد الأمر بعدها إلى غيرها من البلاد المجاورة، كما أنّ أروى كانت صاحبة أول وقفٍ على بنات جنسها، على نحو ما يذكر الجاحظ في "المحاسن والأضداد"، فقد أوقفت قطعة أرضٍ يُخصص ريعها للجواري اللواتي يلدن إناثاً من دون الذكور؛ إذ لا يحظين بمكانة كأمهات الذكور فيحتجن إلى رعاية، ولم تكن أروى استثناءً من بنات جنسها، بل ثمة العديد من النماذج التي كان للمرأة فيها دورٌ فعّال، ففي بعض مناطق المغرب الأوسط كان ثمة نساءٌ من أهل العلم يمتحن الرجال المرشحين للقضاء -كما ذكر الوسياني في السير-، وتذكر بعض المصادر -منها تاريخ أفريقيه في العهد الحفصي لروباربرنشفيك-، أن امرأة كانت تدعى "سوط النساء" -لعلها سميت بذلك لسطوتها وهيبتها- قد أصلحت بين بطونٍ متناحرة من عرب المغرب وحالفت بينهم.
هذه النماذج وغيرها تعكس جوهرية الدور الذي لعبته المرأة في شتى المجالات، وما تمتع به العقل الفقهي آنذاك من تفتح واستنارة جنّبته صداماً -مع الأعراف والعادات الشائعة- كاد أن يكون محتوماً إذا استشرى الجمود في خلايا ذلك العقل الفقهي.

اشتراطات المرأة والعقل الفقهي

ولم تشترط المرأة في القيروان في تلك الحقبة عدم الزواج عليها فحسب؛ بل تثبت المصادر التاريخية أنّ عقود الزواج آنذاك تضمنت اشتراطاتٍ عدة، كأن يكون أمر طلاقها بيدها إن أضرّ بها الزوج، أو تغيّب عنها أربعة أشهر، وبعضهن اشترطن إن تزوج عليها أن يكون طلاق الزوجة الثانية بيد الأولى تطلقها منه وقتما شاءت، كذلك اعتادت بعض النساء اشتراط أن يقيم معها في بيت أهلها ولا يخرجها إلا برضاها، أو ألا يمنعها من عملها إن كانت عاملة.
واشترطت بعضهن على الزوج إخدامها بخادم مدة زواجهما، إلى غير ذلك من الشروط التي لا يتسع المقام لذكرها، وقد دار سجالٌ فقهيٌ حيال تلك الشروط، فذهب بعضهم إلى بطلان تلك الشروط، ومال آخرون إلى استحباب الوفاء بها، كما ذهب غيرهم إلى الرأي الذي اعتمده وعمل به أهل قيروان -وغيرهم من البلاد غير البعيدة عنهم كالأندلس- من وجوب الوفاء بتلك الشروط والتزام الزوج بها، وهنا نرى صورةً ماتعة من صور التعايش والاستنارة التي تمتع بها فقهاء بعض المذاهب -لاسيما فقهاء المذهب الحنفي والمذهب المالكي والذي كان شائعاً وقتها في تلك البلاد- إذ إنّ قواعد مذاهبهم تقتضي عدم وجوب الوفاء بتلك الشروط، إلا أنّهم وافقوا أهل بلدتهم في العمل بها ولزوم الوفاء بها خلافاً لمذهبهم حين تعارض مع التقاليد والأعراف التي سادت تلك البلاد، وهذا ينبئنا ما تمتع به العقل الفقهي الأفريقي من مرونة وسلاسة إزاء تعاطيه مع قضايا مجتمعه ومعاصرتها.

وحسب ما ذكر ابن ناجي في كتاب "معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان" أنّ أقدم أثرٍ بلغنا متضمناً منع الزواج بثانية هو زواج والي قيروان عبد الرحمن بن حبيب بن عقبة بن نافع؛ إذ اشترطت عليه زوجته في العهد الأموي -وكانت قيروانية- أنّه إن تزوج بأخرى أو تسرّى فإنّ أمر طلاقها بيدها.

والمطالع لكتب التاريخ والسير والتراجم يجد العديد من هذه الأمثلة، فها هو الإمام المالكي أبو القاسم البرزلي قد اشترطت عليه زوجته الشرط القيرواني بعدم الزواج عليها، وحين أصدر أحد القضاة حكماً أباح فيه لرجل الزواج على زوجته رغم اشتراطها استناداً إلى حيلة فقهية، كتب ابن عظوم الكبير القيرواني رسالة رداً على ما ذهب إليه ذلك القاضي، ولا يمكن، بهذا الصدد، نسيان القاضي أبو كريب جميل بن كريب الذي شكت إليه امرأة الأمير زوجها؛ إذ تسرّى -اتخذ جواري- رغم اشتراطها عليه ألا يتسرّى وإلا كان أمرها بيدها، فدعا الأمير ليسأله، فأقر الأمير بالتسري وبالشرط فقضى أبو كريب أنّ أمر طلاق زوجته بيدها، إن شاءت أقامت وإن شاءت طلقت نفسها، فرفع الأمير يده إلى السماء حامداً الله أن وجد قاضياً يحكم بالحق دون أن يهابه.

لا ريب هنا في أن تلك الآراء المناصرة للمرأة وحقوقها لم تكن كلها مبنيةً على رؤية تنويرية منطلقة من رغبة أصيلة في الارتقاء بدور المرأة ومكانتها في المجتمع، وإنما كان بعضها مبنياً على محض إعمال روتيني للقواعد المستخدمة في فهم واستنباط الأحكام الفقهية من النصوص، إلا أن قدراً لا بأس به من تلك الآراء جاء على خلاف القواعد الاستنباطية المذهبية المتبعة -كما أسلفنا- تماشياً مع الأعراف والتقاليد التي أرست للمرأة مكانةً أرقى من تلك التي حظيت بها في بلدان أخرى، فآثر ذلك الفريق المصلحة العامة وتحقيق المقاصد الكلية لمؤسسة الزواج على التضييق والتشبث المذهبي الذي لطالما عانت الأمة الإسلامية منه في عصورٍ وبقاع شتى!

*باحث مصري

الصفحة الرئيسية