أمريكا والإخوان.. تاريخ لا ينتهي

أمريكا والإخوان.. تاريخ لا ينتهي


01/11/2020

أحمد بركات

في الحادي عشر من يوليو 2018، نظمت اللجنة الفرعية للأمن الوطني، التابعة للكونجرس الأمريكي، سلسلة من الجلسات حول «التهديدات العالمية التي تفرضها جماعة الإخوان المسلمين». كان الهدف من هذه الجلسات هو «تحديد المخاطر التي تتهدد المصالح الأمريكية في جميع أنحاء العالم بسبب نشاطات الجماعة». في هذه الجلسات، تم توصيف جماعة الإخوان المسلمين المصرية – التي ينظر إليها الباحثون على مدى عقود طويلة باعتبارها ’التنظيم الأم‘ للإسلاموية الحديثة – بأنها «منظمة إسلاموية راديكالية نشأت عنها شبكة من الحركات في 70 دولة»، بما في ذلك «تنظيم القاعدة». كانت هناك إرادة واضحة لدى كثير من المجتمعين في هذه الجلسات بوسم الجماعة رسميا ’بالمنظمة الإرهابية‘. على غرار ما فعلته حكومة الولايات المتحدة الأمريكية على مدى سنوات ضد حركات إسلامية أخرى، مثل حزب الله وحركة حماس (التابعة لجماعة الإخوان المسلمين). رغم ذلك، حتى الآن، لم تأخذ الحكومة الأمريكية هذه الخطوة.

على مدى عقود، كانت الولايات المتحدة على وعي تام بالأجندة الأيديولوجية والسياسية المناهضة للغرب والمناهضة لليبرالية التي تتبناها جماعة الإخوان المسلمين وقادتها البارزون، بمن فيهم مؤسسها، الشيخ حسن البنا (1906 – 1949). ومع ذلك، لم تقحم الدبلوماسية الأمريكية نفسها في صراع مباشر ضد جماعة الإخوان.

فعندما أسس البنا الجماعة في عام 1928، وصاغ أيديولوجيتها القائمة على الإصلاح والبعث الإسلامي، كانت آراؤه المناهضة للغرب تمثل ردة فعل مباشرة ضد الحكم الإمبريالي البريطاني لمصر. في المقابل، سعت الولايات المتحدة، كدولة ديمقراطية، إلى تقديم نفسها بصورة مغايرة تماما، والقيام بدور مختلف في الشرق الأوسط عن ذلك الذي قامت به القوى الإمبريالية الغربية، وذلك من أجل المحافظة على مصالحها وتعزيز الاستقرار في المنطقة عبر بناء شبكة من التحالفات والشراكات مع دول أخرى ذات سيادة. ونتيجة لذلك، سعت واشنطن على نحو منتظم إلى التواصل مع جماعة الإخوان المسلمين.

وخلال سنوات الحرب الباردة، بدا أن الولايات المتحدة تقيم علاقة وثيقة مع جماعة الإخوان المسلمين، التي بدت، بالنسبة لبعض الأمريكيين على الأقل، مفيدة للغاية، لتعزيز المصالح الأمريكية في مصر، بوصفها الدولة الأكبر على الإطلاق في العالم العربي، وفي غيرها من الدول.

وقد ألقت ملفات وزارة الخارجية الأمريكية التي رُفعت عنها السرية الضوء على التفاعلات بين القوة العظمى الأولى في العالم وجماعة الإخوان المسلمين، وكشفت عن التقلب الأمريكي بين الإحجام والاهتمام في التعامل مع الحركة الإسلاموية المصرية.

الأيديولوجية المتعصبة

برغم تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في عام 1928، لم تُصدر السفارة الأمريكية بالقاهرة تقريرها الأولي عن الجماعة إلا في عام 1944. يبدو أن السنوات الأولى من عمر جماعة الإخوان قد فشلت تماما في جذب انتباه الدبلوماسيين الأمريكيين. ففي ثلاثينات القرن الماضي، كانت العلاقات الأمريكية مع مصر مدفوعة بالأساس بمجموعة صغيرة من المصالح الاقتصادية. ومع نشوب الحرب العالمية الثانية، تراجع الوزن النسبي للمصالح الاقتصادية الأمريكية بشكل لافت لحساب الاعتبارات الاستراتيجية، في كل من أوربا وشمال أفريقيا، وأبدى الدبلوماسيون الأمريكيون في القاهرة في هذا الوقت اهتماما طفيفا بالتوجهات الاجتماعية والدينية في المجتمع المصري.

لكن في نهاية الأربعينات كانت جماعة الإخوان المسلمين قد قدمت نفسها إلى الدبلوماسية الأمريكية، حيث أرسل أعضاء الجماعة ما لا يقل عن 320 خطابا إلى السفارة الأمريكية بالقاهرة، في الغالب للاحتجاج على دعم واشنطن للاستيطان الصهيوني في فلسطين. كما أعربوا أيضا عن معارضتهم لمنح فرنسا الجنسية لبعض المسلمين الجزائريين، حيث ارتأوا أن ذلك خدعة تمارسها باريس للاستمرار في احتلال الجزائر وعدم تحقيق مطلب الاستقلال. تمخضت هذه الخطابات عن تتابع البرقيات الدبلوماسية الأمريكية التي تعترف بنشأة «جماعة إسلامية متعصبة» تسمي نفسها جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر.

وفي بداية الخمسينات- حين كان احتواء المد الشيوعي السوفيتي يمثل أولوية مطلقة في الأجندة السياسية الأمريكية – كان المسئولون الأمريكيون لا يزالون ينظرون إلى جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها جماعة متعصبة تعتنق أيديولوجية تعلّم أتباعها «كراهية غير المسلمين» والدفاع عن تطبيق «الشريعة الإسلامية». كانت الولايات المتحدة أيضا قلقة من أن تتحول جماعة الإخوان إلى انتهاج العنف. لكن، في أعقاب الثورة العسكرية في مصر في عام 1952، وصعود الرئيس جمال عبد الناصر إلى سدة الحكم، بدأ المسئولون الأمريكيون يتخوفون من تقارب القاهرة مع الاتحاد السوفيتي، وهو ما قاد الولايات المتحدة إلى إعادة التفكير بشأن جماعة الإخوان المسلمين، التي لم تعد توصف في الدوائر الرسمية الأمريكية بالمتعصبة، وإنما «مؤمنون متدينون». بعد ذلك، شهدت السفارة الأمريكية في القاهرة اجتماعات منتظمة بين القائم بالأعمال الأمريكي، فرانك جافني، والمرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين وقتها، حسن الهضيبي.

وفي منتصف الخمسينات – وبعدما انهارت العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين والضباط الأحرار عقب أعقاب فترة أولية من التعاون – نظر الدبلوماسيون الأمريكيون إلى تجسير العلاقة مع جماعة الإخوان المسلمين باعتباره ضرورة سياسية وفرصة سانحة للضغط على الحكومة العسكرية المصرية المتحالفة مع موسكو.

رغم ذلك، لم تحتل جماعة الإخوان المسلمين دورا مركزيا في النشاط الدبلوماسي الأمريكي في القاهرة في أثناء سنوات الحرب الباردة. فقد اعترف المسئولون الأمريكيون بالجماعة كحركة سياسية ودينية مهمة في مصر، لكن ظل تأثيرها السياسي أقل بكثير في الميزان الأمريكي من المؤسسة العسكرية والملك وحزب الوفد والشيوعيين. ولم تبدأ واشنطن بالاهتمام جديا بالجماعة إلا مؤخرا بعدما باتت القوة الوحيدة المتبقية في منظومة المعارضة  للنظام الناصري.

لم تشر التقارير الدبلوماسية إلى أن الولايات المتحدة كانت لديها أي سياسة محددة تتعلق بجماعة الإخوان المسلمين، كما لم تذكر صراحة أن الجماعة يمكن أن تكون حليفا محتملا للولايات المتحدة في مواجهة النظام الناصري أو الشيوعية السوفيتية. ورغم ذلك، تبرز هذه التقارير جميع المناسبات التي عارضت فيها جماعة الإخوان النظام المصري. وتبرهن حقيقة إشارة هذه التقارير بشكل منهجي إلى خطاب جماعة الإخوان المسلمين وتظاهراتها ضد النظام العسكري في القاهرة على اهتمام الدبلوماسية الأمريكية بالعداء المتفاقم بين الطرفين.

وبحلول عقد الستينات، اختفت جماعة الإخوان المسلمين تماما من تقارير السفارة الأمريكية في القاهرة، بعد أن احتدم العداء بينها وبين النظام الناصري. في هذا الوقت، بقي تقويض التأثير المتزايد لعبد الناصر أولوية قصوى لدى حكومة واشنطن. لكن الدبلوماسيين الأمريكيين كانوا قد فقدوا كل سبل التواصل مع أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، خاصة بعد أن شددت حكومة القاهرة قمعها واضطهادها للحركة الإسلامية ولغيرها من طوائف المعارضة الداخلية.

تمخضت هذه الحقبة، التي تعرف في الأدبيات الإخوانية «بالمحنة» عن انقسامات أيديولوجية في الإسلاموية المصرية بوجه عام، وأسهمت إلى دفعها نحو مزيد من الراديكالية. ورفض بعض منظري جماعة الإخوان، بمن فيهم «سيد قطب» النهج التدريجي في الإصلاح والبعث الإسلامي الذي – كما يفترض – رسخه البنا والرعيل المؤسس للجماعة. وشرعوا – بدلا من ذلك – في اعتناق أجندة انسحاب راديكالي من مصر «غير المسلمة» القابعة تحت الحكم الناصري، شملت فيما شملت الكفاح القائم على العنف.

وبرغم ذلك، لم يُذكر سيد قطب في السجلات الدبلوماسية الأمريكية سوى في مناسبات قلائل، برغم كونه أهم منظر أيديولوجي في جماعة الإخوان في عقد الخمسينات. ولم تشر المراسلات الدبلوماسية الأمريكية إلى إعدامه في عام 1966 إلا لماما. وبدا أن التقارير الدبلوماسية الأمريكية – في واقع الأمر – غير واعية بالانقسامات التي اعترت الحركة الإسلامية المصرية، أو بالراديكالية المتعاظمة في صفوفها. وبدلا من ذلك، تمثل الشغل الشاغل للولايات المتحدة في القدرة النسبية لجماعة الإخوان المسلمين على ممارسة الضغط على قرارت عبد الناصر، خاصة أن العلاقة بين عبد الناصر والاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت كانت – برغم قوتها – تتهددها بعض المخاطر.

أمريكا وإيران والإخوان

من المثير للاهتمام أيضا أن البرقيات الدبلوماسية الصادرة عن السفارة الأمريكية في القاهرة في بداية الثمانينات لم تجنح على الإطلاق إلى مناقشة الطبيعة الدينية للثورة الإسلامية التي اجتاحت إيران في عامي 1978 – 1979. فقد نظر المسئولون الأمريكيون إلى الأحداث الدراماتيكية التي ضربت طهران والراديكالية المتعاظمة في مصر على أنهما أمران منفصلان، ولم يبدوا أي قلق حيال إمكانية أن تلهم الثورة الإيرانية موجة من الثورات الإسلامية المشابهة في مصر، وفي غيرها من بلدان العالم الإسلامي. وظلت النظرة الأمريكية إلى جماعة الإخوان في بداية الثمانينات تقوم ببساطة على اعتبار الجماعة منظمة إسلامية مصرية خالصة، وليست جزءا من بعث إسلامي واسع النطاق، تمكن فعليا من تغيير المشهد السياسي في العديد من المجتمعات الإسلامية في عقدي السبعينات والثمانينات.

على هذا الأساس، لم يكن انتماء قتلة الرئيس أنور السادات في عام 1981 إلى جماعة الجهاد المصرية، التي خرجت من عباءة جماعة الإخوان المسلمين، موضع نقاش موسع في التقارير الأمريكية الصادرة من قلب القاهرة. إذ لم تشر هذه التقارير إلى جماعة الإخوان على الإطلاق باعتبارها مسئولا محتملا عن مقتل السادات، كما لم تعترف بالتأثير الأيديولوجي لسيد قطب، أو حتى الثورة الإسلامية في إيران، على الراديكالية الإسلامية المصرية. ولم يفهم الكثيرون في وزارة الخارجية الأمريكية حادثة قتل الرئيس المصري سوى باعتبارها «مبادرة شيوعية»، كما عبر عن ذلك مدير سابق لمكتب شئون الشرق الأدنى التابع لوزارة الخارجية الأمريكية، حيث كان تسليح المطالب السياسية الإسلامية على رأس قائمة الأهداف الشيوعية لعرقلة التحول صوب المعسكر الأمريكي الذي توجهت نحوه السياسة المصرية في عهد السادات.   

وهكذا، لم تشهد ثمانينات القرن الماضي ظهور فكرة الإسلام الراديكالي في التقاريرالدبلوماسية الأمريكية، أو في البيانات الرسمية للسياسة الأمريكية حول الشرق الأوسط. وتؤكد المقابلات التي أجريت مع دبلوماسيين ومسئولين أمريكيين رفيعي المستوى أن مفهوم حركة إسلامية عابرة للوطنية كان غائبا بشكل جوهري عن العقل السياسي الأمريكي في ذاك الوقت.

عن "صحيفة أصوات"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية