الإعجاز العلمي للقرآن الكريم وإشكالية التأويل بالإكراه

الإعجاز العلمي للقرآن الكريم وإشكالية التأويل بالإكراه
القرآن الكريم

الإعجاز العلمي للقرآن الكريم وإشكالية التأويل بالإكراه


06/05/2018

ينقسم المسلمون في موضوع التفسير والإعجاز العلمي للقرآن الكريم إلى فريقين: أحدهما يرى في هذا اللون من التأويل خروجاً بكتاب الله عن الهدف الذي أنزل من أجله، وإقحاماً له في مجال اجتهاد للعقل البشري، يجرّب فيه، ويصيب ويخطئ، وفريق آخر يجيزه، ويدعو إليه، ويرى فيه فتحاً جديداً وتجديداً في طرق الدعوة، وهداية الناس إلى دين الله في عصر العلم، وهم الغالبية التي استطاعت فرض نفسها تدريجياً مستغلة بشكل خاص ثورة المعلومات، حتى غدا هذا الأمر عندهم أصلاً من أصول الدين، يورد المشكك فيهإلى المهالِك.

نظرة تاريخية

كان أول من أنجز تفسيراً علمياً كاملاً للقرآن (بمعنى ربطه بالعلوم البحتة أو التطبيقية)، هو الشيخ الأزهري طنطاوي جوهري (ت 1940م) في كتابه "الجواهر في تفسير القرآن الكريم" الذي ظهر بين العامين 1932 و1935 في 25 مجلداً، ويقوم على فكرة محددة مفادها رفض أن يظل تفسير القرآن مقتصراً على الناحية اللغوية، "كيف لا، وفي القرآن من آيات العلوم ما يربو على سبعمئة وخمسين آية، فأما علم الفقه فلا تزيد آياته الصريحة عن مئة وخمسين آية".

غلاف كتاب "الجواهر في تفسير القرآن الكريم" لطنطاوي جوهري

إنّ حداثة انتشار دعوى الإعجاز العلمي أعطت فكرة خاطئة عن تاريخ مدرسة التفسير العلمي لآيات القرآن، فالواقع أنّ هذه المسألة قديمة؛ فبعض علماء الإسلام المتقدمين عرفوا كروية الأرض كابن حزم (ت 456هـ) وأبي حامد الغزالي (ت 505هـ) وابن طفيل أبي الوفاء (ت 513هـ) ومن أتى بعدهم؛ كالفخر الرازي وابن تيمية وابن القيم وابن كثير وغيرهم، ففي فصل اسمه "مطلب بيان كروية الأرض" من كتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) يقول ابن حزم: ".. وذلك أنّهم قالوا إن البراهين قد صحّت بأنّ الأرض كروية والعامة تقول غير ذلك وجوابنا وبالله تعالى التوفيق إنّ أحداً من أئمة المسلمين المستحقين لاسم الإمامة بالعلم -رضي الله عنهم- لم ينكروا تكوير الأرض". ويقول في موضع آخر منه "وقد نصّ تعالى في غير موضع من كتابه على أصول البراهين وقد نبهنا عليها في غير ما موضع من كتابنا هذا وحضّ تعالى على التفكر في خلق السموات والأرض ..".

يرى أنصار الإعجاز العلمي فيه تجديداً في طرق الدعوة وهداية الناس إلى دين الله في عصر العلم

إلا أنّ هنالك من المسلمين قبل علماء الدين من ذكر كروية الأرض وجذبها للثقل وخط الاستواء فيها؛ يقول المؤرخ والجغرافي ابن خرداذبة (ت 280هـ) في مقدمة كتابه (المسالك والممالك)، والرحالة محمد بن أحمد المقدسي (ت 375هـ) في كتابه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم): "صفة الأرض أنها مدورة كتدوير الكرة، موضوعة في جوف الفلك كالمحّة في جوف البيضة.. والأرض جاذبة لما في أيديهم من الثقل، لأنّ الأرض بمنزلة الحجر الذي يجذب الحديد.. والأرض مقسومة بنصفين بينهما خط الاستواء، وهو من المشرق إلى المغرب، وهذا طول الأرض، وهو أكبر خط في كرة الأرض".

وقد أسّس بعض علماء الإسلام قاعدة جديدة في التفسير لمن أتى بعدهم فقالوا إنّ تعارض المعنى الظاهري مع صريح العقل وجب تأويل النص وصرفه عن ظاهره،لكن علماء التفسير ليسوا في هذا الأمر سواء فبعضهم أخذ بظاهر القرآن، فيقول القرطبي (ت 671 هـ) في معرض تفسيره لآية "وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وجَعلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً.." (الرعد 3) "فِي هَذه الآيَة ردّ عَلَى مَن زعم أَنَّ الأرض كالكرَة" ثم يقول "وَاَلذي عليه المسلِمون وأَهل الكتاب القَول بوقوف الأرض وَسكونهَا ومَدّها، وَأَنّ حركتهَا إنما تكون فِي العادة بزلزلة تصِيبهَا". ويقول ابن عطية (ت 546 هـ) في تفسيره: "(مد الأرض) يقتضي أنها بسيطة لا كرة - وهذا هو ظاهر الشريعة وقد تترتب لفظة المد والبسط مع التكوير، والله أعلم".

هل هو إعجاز فعلاً؟

يقول الدكتور عبدالله بن عبدالعزيز المصلح، الأمين العام للهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنّة في كتابه (الإعجاز العلمي في القرآن والسنة: تاريخه وضوابطه): "المعجزة في الاصطلاح أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة.. وإعجاز القرآن يقصد به إعجاز الناس أن يأتوا بسورة مثله مع شدة عداوتهم وصدّهم عنه".

ويقول الطبري في تأويل قوله تعالى "أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً" (الكهف9): يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أم حسبت يا محمد أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً، فإن ما خلقت من السماوات والأرض، وما فيهنّ من العجائب أعجب من أمر أصحاب الكهف، وحجتي بكل ذلك ثابتة على هؤلاء المشركين من قومك، وغيرهم من سائر عبادي".

أول من أنجز تفسيراً علمياً كاملاً للقرآن هو الشيخ الجوهري في كتابه "الجواهر في تفسير القرآن الكريم"

وهذا المعنى ما يذهب إليه جوهري في تفسيره؛فلم يتطرق إلى الإعجاز بل إلى التنبيه إلى عجائب إبداع الله في هذا الكون "لقد وضعت في هذا التفسير ما يحتاجه المسلم من الأحكام والأخلاق، وعجائب الكون، وأثبت فيهغرائب العلوم وعجائب الكون مما يشوق المسلمين والمسلمات إلى الوقوف على حقائق الآيات البينات: في الحيوان والنبات والأرض والسماوات".

لكن ما لبث هذا الأمر أن تحوّل من إشارات علمية في القرآن الكريم، إلى ما يُعرف اليوم بالتفسير العلمي، الذي وُجدت له عدة تعريفات لعلّ أشهرها ما أثبته زغلول النجار في كتابه (من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم)بقوله: إنّه "توظيف كل المعارف المتاحة لحسن فهم دلالة الآية القرآنية"، إلى أن وصلنا إلى الإعجاز العلمي الذي عرّفه عبدالمجيد الزنداني في كتابه "تأصيل الإعجاز العلمي في القرآن والسنة" بأنّه "إظهار صدق الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- بما حمله الوحي إليه من علم إلهي ثبت تحققه ويعجز البشر عن نسبته إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- أو إلى أي مصدر بشري في عصره".

غلاف كتاب "من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم" لزغلول النجار

ووصل الأمر مع فهد الرومي في كتابه "اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر" إلى تأكيده أنّ الإعجاز العلمي "قضية مسلمة لا جدال فيها أجمع عليها المسلمون"! بل إنّ زغلول النجارصرّح في محاضرة له بفرع نقابة المهندسين في مأدبا بالأردن في حزيران (يونيو) 2017 أنّ "الإعجاز العلمي في القرآن الكريم سبيلنا الوحيد في الوقت الحاضر للدعوة للإسلام"!

رغم أنّ علماء اللغة والتفسير خلصوا إلى أنّ إعجاز القرآن يكمن في نظمه وتأليفه الذي تحدى الله سبحانه وتعالى الناس أن يأتوا بمثله، إلا أنّ معظم دعاة الإعجاز العلمي يسعون إلى تشويه هذا التعريف، بأن يتلقّفوا قضية علمية (غالباً لا تتجاوز مجال النظرية غير المقطوع بصحتها)، والبحث في القرآن الكريم عن آيات يمكن تحميلها المعنى المطلوب حتى لو اضطرهم ذلك إلى التجنّي على لغة العرب باصطناع معانٍ لمفردات الآيات لم تكن معروفة زمن نزول الوحي؛ أي تحوّل الإعجاز اليقيني للقرآن مع الإعجاز العلمي إلى ظني، بما ينفي عنه صفة الإعجاز بالضرورة"وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً".

زغلول النجار: الإعجاز العلمي في القرآن الكريم سبيلنا الوحيد في الوقت الحاضر للدعوة للإسلام

المعضلة الأخرى أنّ الإعجاز العلمي يفترض أنّ المعلومة التي يستنبطونها لا يمكن لبشر أن يحصلها زمن النزول وإلا انتفت صفة الإعجاز، فيغدو عندهم إعجاز القرآن مشروطاً؛ أي إنّ الإعجاز لديهم ليس الآيات الكونية ذاتها التي دعانا الله إلى التفكر فيها دلالة على قدرته سبحانه، كما في قوله تعالى: "أفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ {17} وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ {18} وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ {19} وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ {20}" (سورة الغاشية)، بل وقت العلم بها.

ولكن مع ذلك، ثمة "دعاوى إعجاز محدثة" يتباهى بها دعاة الإعجاز اليوم، ثبت أنّها كانت معروفة قبل ظهور الإسلام، ككرويّة الأرض مثلاً، ولا شك أنّ هذه المعرفة قد نُقلت عن فلاسفة اليونان عن طريق الترجمة التي نشطت في القرن الثالث الهجري؛ إذ يصرح المقدسي في مقدمة كتابه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) بهذا الشأن: "فوجدت بطليموس (ت 170م) قد أبان الحدود وأوضح الحجة في صفتها بلغة أعجمية فنقلتها عن لغته باللغة الصحيحة".

تحوّل الإعجاز اليقيني للقرآن مع الإعجاز العلمي إلى ظني بما ينفي عنه صفة الإعجاز بالضرورة

وبذا، فليس من الإنصاف اليوم القول إنّ علماء الإسلام هم أصحاب السبق في تلك المعرفة وعدم الإشارة إلى دور من سبقوهم؛ ففيثاغورس (ت497 ق.م) آمن بكروية الأرض، وأرسطو (ت322 ق.م) قدم دليلين متينين على كروية الأرض أحدهما خسوف القمر؛ أي وقوع الأرض بينه وبين الشمس والظل الدائري الذي تلقيه الأرض دائماً على صفحة القمر، وإيراتوستين الاسكندري (ت 194 ق.م) توصّل إلى قيمة لمحيط الأرض تبلغ 24500 ميل وهي قريبة جداً من القيمة الحقيقية التي تبلغ 24840 ميلاً. فهل يعقل أن نقول إنّ هؤلاء أتوا بإعجاز علمي لمجرد أن العلم الحديث أثبت ما ذهبوا إليه؟!

ومن المعضلات أيضاً أنّ دعاة نظرية الإعجاز العلمي لم يتمكّنوا حتى الآن من استنباط إعجاز واحد قبل ثبوته علمياً، فكما هو معروف فإنّ صحة أي نظرية علمية تقوم على أساسين: تفسير ظواهر سابقة والتنبؤ بظواهر مستقبلية، كما فعل إينشتاين مثلاً عندما تنبأ في نظريته النسبية العامة بانحناء الضوء تحت تأثير الجاذبية، ولكن ما يحصل مع دعاة الإعجاز هو العكس دوماً بأن يضعوا القرآن في مرتبة ثانية بعد العلم "الظنّي" باعتباره حاكماً على إعجاز كتاب الله.

انفلات الضوابط

يبدو أنّ كثيراً من المحدثين وممن تصدوا للإعجاز العلمي، لم يعتبروا من أخطاء علماء السلف، الذين يُلتمس لهم العذر لتواضع المعلومات العلمية في زمانهم (كقولهم بدوران الشمس حول الأرض)، فلم يلتزموا بضوابط هذا التفسير (التي وضعوها) وتحديداً الدقة اللغوية، وعدم الاعتماد على النظريات العلمية غير الثابتة، فساقتهم الحماسة والنوايا الطيبة أو حب الشهرةوالتكسب أحياناً، إلى الوقوع في أخطاء واضحة لا يُعذرون فيها، وهذا ما يمكن ملاحظته في الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي،أو بتصفح مواقع كثيرة على الإنترنت تختص بالإعجاز العلمي؛ إذ إنّها تحوي كثيراً من التهافت فلا يكاد يضبطها ضابط، لذلك انتشرت عندهم تفسيرات عجيبة متكلفة لَوَوا فيها أعناق المعاني لتتوافق مع إعجاز مزعوم، وألصقوا فرضيات علمية لم تثبت صحتها بآيات القرآن الكريم، وأسرفوا في التأويل الناتج عن جهل علمي ولغوي على السواء، وتسببوا بتهجم كثيرين من أعداء الدين على القرآن والسنّةمن خلال تصيّدهم لهذه الأخطاء.

ثمة "دعاوى إعجاز محدثة" يتباهى بها دعاة الإعجاز اليوم ثبت أنّها كانت معروفة قبل ظهور الإسلام

هذا ما يفعلونه مثلاً مع الآية 3 من سورة الروم "فِي أَدنَى الأَرضِ وهُم من بعد غَلَبهم سيغلِبُونَ" التي يريدون أن يثبتوا من خلالها أنّ القرآن الكريم أشار إلى أن منطقة غور الأردن التي هُزم فيها الروم على يد الفرس في بداية الدعوة الإسلامية هي أخفض بقعة على وجه الأرض، فيدّعون أن من معاني "أدنى" أخفض بقولهم إن هذه الكلمة تعني أقرب وأقل وأخس، ويحشرون معنى رابعاً هو "أخفض" لم تذكره المعاجم مطلقاً ولم تقل به العرب عند نزول القرآن، إنما هو معنى محدث عند علماء الرياضيات والطبيعيات وغيرهم.

زغلول النجار.. إعجاز الفرضيات

ولعلّ زغلول النجار أشهر من روّج مثل هذه الادعاءات بعد أن يمهّد لها دوماً بمقدمة علمية ولغوية طويلة تشد المتلقي وتبتزه عاطفياً بكلام علمي لا يتصل غالباً بشكل مباشر بالنتيجة التي يريد الوصول إليها؛ فيقول مستشهداً بلسان العرب "الأدنى هو السَّفِل" أي الأخفض، وهو لو بحث في المعجم نفسه عن كلمة السَّفِل لوجد أنها تعني الخسيس أو الدنيء، وقد ضمّن هذا الكلام في مقال له نشرته صحيفة الأهرام المصرية في 28 كانون الثاني (يناير) 2002، إذ يقول: "يعبر بـ‏(‏الأدنى‏)‏ تارة عن الأقرب في مقابل الأبعد ‏(أو الأقصى‏)‏، وتارة ثانية يعبر بها عن الأخفض ‏(‏أو الأحقر)،.. وتارة ثالثة تأتي بمعني الأقل في مقابل الأكثر"‏.

المشكلة هنا أنّ النجار يستند إلى فرضيتين لا واحدةلإثبات هذا الإعجاز؛ الأول أنّ الأرض التي حصلت فيها المعركة المشار إليها هي غور الأردن تحديداً وهو ما لم يثبت تاريخياً وما يزال موضع خلاف، وفق ما تذكر التفاسير، والفرض الآخر لغوي غير صحيح بالمطلق، فلو كان المقصود إثبات أنّ الواقعة تمت في أخفض بقعة على سطح الأرض كما يزعم، فلماذا لم يعبّر القرآن الكريم عن ذلك صراحة بكلمة "أخفض" التي تؤدي المعنى المطلوب؟ ومفردات القرآن مغرقة في الدقة، وهذا من مكامن إعجازه؛ فزوجة الرجل غير امرأته، والوالد غير الأب، والرؤيا ليست الحلم، وكذلك النأي والبعد، وحلف وأقسم.. فهل يعقل أن يكسر القرآن هذه القواعد اللغوية الصارمة كما يزعمون؟

ويقول الدكتور زغلول النجار في موقعه الرسمي في تفسيره للآية الكريمة "وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة" (الإسراء 12): "وقد دفع ذلك ببعض المفسرين إلى القول باحتمال كون القمر في بدء خلقه ملتهباً‏،‏ شديد الحرارة‏،‏ مشتعلاً‏،‏ مضيئاً بذاته تماماً كالشمس‏،‏ ثم انطفأت جذوته وخبت، وهذا الاحتمال لا تدعمه الملاحظات العلمية الدقيقة‏". ثم يشرع بتوضيح تفسيره الذي يصعب على غير المتخصصين استيعابه استناداً إلى مجرد نظرية غير مثبتة انتقاها دون غيرها، والعجيب أنّهيورد في موقعه الرسمي كلاماً يدعم الرأي الذي نفاه تحت عنوان (القمر كان كوكباً مشتعلاً) منسوباً إلى ندوة بين الشيخ عبدالمجيد الزنداني والدكتور فاروق الباز مدرب رواد الفضاء في وكالة الفضاء الأمريكية ناسا!

من يتصدّى لهذا المجال غالباً من غير أهل الاختصاص العلمي الذي يتحدث فيه فضلاً عن تواضع معلوماته اللغوية

وفي مقال له نشرته الأهرام أيضاً بتاريخ 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2002 يدور حول تفسير الآية 92 من سورة الأنعام "هذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون"‏، يتكلفمن كلمتي "ومن حولها" إعجازاً مفاده توسط مكة المكرمة لليابسة تماماً.. "بمتابعة جهود الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين رحمه الله برحمته الواسعة وجدت أنه في كل الحالات واليابسة قطعة واحدة‏،‏ وبعد تفتتها إلى القارات السبع مع قربها من بعضها البعض وفي كل مراحل زحف هذه القارات ببطء شديد متباعدة عن بعضها البعض حتى وصلت إلىأوضاعها الحالية‏،‏ في كل هذه الحالات كانت مكة المكرمة دائماً في وسط اليابسة‏"، ولم يذكر الدكتور زغلول النجار كيف استند إلى هذا التأكيد الواثق لأحداث جيولوجية حصلت قبل ملايين السنين، وعلى افتراض صحة ما ذهب إليه، فإسباغ معنى الوسطية المكانية المطلقة بالاستناد إلى كلمة "حولها" لا تقبله المعجمية العربية.‏

وفي موقعه الرسمي يقول النجار في معرض تفسيره الآية 25 من سورة الحديد "وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس‏" إنّه "إلى أواخر الخمسينيات من القرن العشرين لم يكن لأحد من العلماء إمكانية التصور‏ (‏ولو من قبيل التخيل‏)‏ أن هذا القدر الهائل من الحديد قد أنزل إلى الأرض من السماء إنزالاً حقيقياً!"، متجاوزاً المعنى الذي ذكره هو نفسه عندما قال "و‏(‏إنزال‏)‏ الله‏ تعالى‏‏ نعمه ونقمه على الخلق هو إعطاؤهم إياه" كما في قوله تعالى "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" (الزمر6)، مع أنّه هنا أيضاً يصرّح أن هذه "الحقيقة العلمية" مجرد نظرية وذلك بقوله "من هنا ساد "الاعتقاد" بأنّ الحديد الموجود في الأرض والذي يشكل35.9%‏ من كتلتها لابد وأنّه قد تكوّن في داخل عدد من النجوم المستعرة من مثل العماليق الحمر‏،‏ والعماليق العظام والتي انفجرت علي هيئة المستعرات العظام فتناثرت أشلاؤها في صفحة الكون ونزلت إلى الأرض على هيئة وابل من النيازك الحديدية"!

مصطفى محمود.. بيت العنكبوت

وقد انتشرت بينهم مقولة إنّ القرآن قد قرّر حقيقة علمية في آية "كَمَثَلِ العَنْكَبُوتِ اتَّخَذَت بَيْتاً" (العنكبوت 4) بزعمهم أنّ العلم أثبت أنّ أنثى العناكب فقط هي التي تنسج، لذا استخدم القرآن صيغة المؤنث في الآية، إذا تم الافتراض صحة هذه المعلومة؛ أي اقتصار النسج على الأنثى، فلا إعجاز علمياً في ذلك لأن العرب، كما قالت بنت الشاطئ في كتابها (القرآن والتفسير العصري) رداً على مصطفى محمود الذي روّج هذه الأسطورة في كتابه (حوار مع صديقي الملحد): "تؤنث العنكبوت وهو تأنيث لغوي لا علاقة له بالتأنيث البيولوجي كما تؤنث العقرب وغيرها من الحشرات".

غلاف كتاب "حوار مع صديقي الملحد" لمصطفى محمود

والطبيب مصطفى محمود رائد ترويج الإعجازات العلمية الغريبة بلا منازع؛ فيستنبط مثلاً إعجازاً علمياً من قوله تعالى "لا يَعْزُبُ عَنهُ مِثقَالُ ذَرَّةٍ في السَّماواتِ ولا في الأرضِ ولا أَصغر مِنْ ذلك ولا أَكبر" (سبأ 3) فيكتشف إشارة علمية إلى "الجسيمات دون الذرية" كالإلكترون والبروتون والكوارك! فيقول في كتابه السابق: "قديماً، كانوا ينظرون إلى مثقال الذرَّة على أنَّه أصغر مثقال، وكانوا ينظرون إلى الذرَّة على أنَّها مادة غير قابلة للانقسام؛ أي إنَّها لا تتألَّف مِنْ جسيمات أصغر، وها نحن نرى في هذه الآية إشارة قرآنية إلى ما هو أصغر مِنَ الذرَّة".

لكن الذرَّة، لغةً، هي الهباء المنتشر في الهواء، والقدر الضئيل مِنَ التراب أو غيره، وعند بعض المفسرين هي أصغر نَمْلة. والقرآن في تعبيره عن "أقل شيء"، أو عما لا قيمة له، يستخدم تعبيرَي مثقال ذرَّة، ومثقال حبَّةٍ مِنْ خردل، إن "الذرَّة" في الآية المذكورة بالتأكيد ليست هي ذاتها "الذرَّة" في المفهوم العلمي الحديث؛ لأنّه عندما اكتُشفَت الذَّرة Atom حار اللغويون العرب في تعريب الكلمة إلى أن اتَّفقوا على اتخاذ هذا اللفظ، فهل يعقل استنباط إعجاز علمي استناداً إلى مصطلح علمي للذرة اتفقت عليه مجامع اللغة والمختصون في القرن العشرين وكان يمكن أن يتخذوا لفظاً آخر تسميةً لها؟!

نجومية مضمونة

ونظراً لما يحققه الإعجاز العلمي من شهرة و"نجومية" لصاحبه، أخذ الدعاة الجدد بالدخول على هذا الخط الجديد بعد إحيائه، ووصل الأمر بالداعية المصري الشهير عمرو خالد، في سبيل استعادة بريقه، في رابع حلقات برنامجه "بالحرف الواحد"، الذي يتحدث عن العلاقة بين العلم والدين والحياة، أن يفسر الآية الأولى لسورة النور "الله نور السماوات والأرض.." باستخدام نظرية الكم (الكوانتم وفق تعبيره) التي تعد من أعقد نظريات الفيزياء الحديثة وهو المتخصص في العلوم المالية، "إذاً لم يكن متاحاً قبل القرن العشرين التوصل إلى حقيقة أن زيت الزيتون يضيء بنفس الكمية التي يضيء بها كوكب الأرض في الفضاء، قبل أن يتم تأكيد ذلك بفضل نظرية الكوانتم"!

 

 

ويبدو أنّ عمرو خالد استهوته هذه اللعبة، إن جاز التعبير، حتى شطّ فيها إلى أبعد الحدود حين ذهب أنّ القرآن "سبق" آينشتاين بأكثر من 13 قرناً في الكشف عن مصدر الجاذبية، وذلك في قوله تعالى "وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ" (مخالفاً زغلول النجار نفسه!)، زاعماً أنّ هذا "ما أكده العالم الشهير في نظريته النسبية في بدايات القرن العشرين، التي أبهرت العالم، وعرّف من خلالها الجاذبية بأن مصدرها الفضاء وليس الأرض، على عكس نيوتن". واختتم خالد أولى حلقات برنامجه "بالحرف الواحد" بقوله: "أنا لم ألوِ آياتٍ، القرآن حق وليس هزلاً، أنا قلت حقائق علمية بأسماء علماء وفسرت وقلت معاني الكلمات القرآنية كما هي، وظهر ذلك بالحرف الواحد، وهو أنّ العلم والدين ليس بينهما صدام"!

نظراً لما يحققه الإعجاز العلمي من "نجومية" أخذ الدعاة الجدد بالدخول على هذا الخط بعد إحيائه

ومن الأسماء التي لمعت في سماء الإعجاز المهندس"المعماري" السوري علي كيالي، وبلغ فيها العجائب أيضاً عندما حاول تفسير ظواهر يوم القيامة نفسه وعلاماته تفسيراً علمياً، ففي مقطع شهير له على "يوتيوب" بشأن تفسيره للآيتين الكريمتين من سورة النازعات "يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة"، يقول "حدثين هائلين بحادث سير كوني رهيب سوف يمر على الأرض.. يوم ترجف الراجفة ستقوم هذه القذيفة بضرب الأرض من جانبها، فتعكس دوران الأرض وتشرق الشمس من مغربها"، ويمكن ببساطة إدراك إلى أي درجة يستخف كيالي بهذا الكلام بعقول مستمعيه؛ إذ من المعروف أنّ سرعة الأرض التي يزعم أنها ستعكس اتجاه دورانها (حتى تشرق الشمس من مغربها في آخر الزمان) هي 1670 كيلومتراً في الساعة (أسرع من الصوت)؛ أي لن يبقى أي إنسان (أو مخلوق) حياً على سطح الأرض إذا سارت الأمور كما يدعي! فضلاً عن خلطه بين علامات الساعة ومشاهدها كما يفعل مع ظهور الشمس من مغربها.

 

 

ويحدد كيالي صاحب موسوعة "القرآن علم وبيان" المؤلفة من 10 مجلدات، التي شرح فيها حقائق من القرآن الكريم حسب وجهة نظره أنّ "الحرارة على سطح الارض تصبح عند قيام الساعة 16 ألف درجة مئوية!"، وهذا كلام لا يحتاج إلى تعليق.

العجيب أنّ من يتصدّى لهذا المجال غالباً لا يكون أصلاً من أهل الاختصاص العلمي الذي يتحدث فيه، فضلاً عن تواضع معلوماته اللغوية معتمداً آلية التأويل بالإكراه، والانتقائية في اختيار الآيات والنظريات العلمية والمعاني التي تخدم الإعجاز الذي يراد الوصول إليه، وينتشر الاختلاف بين دعاته حول المسألة نفسها، بل قد يقع التناقض بين أقوال الشخص نفسه أحياناً، والأعجب في هذا العالم انعدام الأمانة العلمية، فلا يكاد أي منهم يشير إلى سابقة غيره فيما يقول.

ردت عائشة بنت الشاطئ على مصطفى محمود رائد ترويج الإعجازات العلمية الغريبة بلا منازع

يقول تعالى في سورة الجن "قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)"؛ القرآن الكريم كتاب هداية بالدرجة الأولى ، معجز بذاته، ولا يجدر التعامل معه على أنّه كتاب علمي وإن وردت فيه إشارات علمية.

تقول عائشة بنت الشاطئ في كتابها (القرآن والتفسير العصري) "فقد تصدّيت لهذه القضية ونشرت فيها ما نشرت، وأنا أتوقع سلفاً ما يواجهني من سخط الذين لا يرضيهم أن يفهموا كتاب الإسلام إلا كما يبينه لهم مفسر عصري، يخايلهم بما لا تعرف مدرسة النبوة من غيب الساعة والحياة الآخرة، وما لا عهد لها به من نظرية التطور وجيولوجيا القمر وديناميكا الصلب، والإلكترون والكهرومغنطيسية، .. ويفتيهم في الحلال والحرام بما يعطل حدود الله ويلغي قانون السببية، لكني توقعت مع ذلك أن تمس كلماتي ضمائر من يؤمنون بكرامة العلم وحرمة القرآن".

غلاف كتاب "القرآن والتفسير العصري" لعائشة بنت الشاطئ

الصفحة الرئيسية