المغرب - أفغانستان: الإسلاموية الحائرة!

المغرب - أفغانستان: الإسلاموية الحائرة!


16/09/2021

محمد قواص

يشير الانهيار الصاعق لحزب "العدالة والتنمية" في المغرب في الانتخابات التشريعية التي أجريت في 8 أيلول (سبتمبر) الجاري، إلى مسار انحداري جماعي، لا استثناءات فيه، أصاب كل تجارب السلطة والحكم التي خاضتها أحزاب الإسلام السياسي في المنطقة. سقط حكم عمر حسن البشير في السودان، وقبله حكم محمد مرسي في مصر، وتراجع الحجم البرلماني لحزب "حركة النهضة" في تونس وصولاً إلى الإجراءات الحاسمة الأخيرة للرئيس التونسي قيس سعيّد الضاغطة في السياق نفسه. فقدَ الإسلام السياسي اندفاعته التي حظي بها لمناسبة "الربيع العربي" على نحو يطرح على تلك الأحزاب أسئلة وجود وديمومة وبقاء.

سقط شعار "الإسلام هو الحل" في ميادين التجربة والعمل بعد أن كان شعاراً يسهل رفعه بشعبوية غير بريئة في خنادق المعارضة. سبق للشيخ عبدالفتاح مورو، الذي كان يشغل منصب نائب رئيس حركة "النهضة" في تونس، أن عارض الشعار واعتبره أجوفَ ولا يعالج مشاكل وأزمات واقعية تتعلق بالتنمية والطاقة وإدارة الموارد الاقتصادية. ولأن تتدافع التحليلات لتفسير أسباب هزيمة "إخوان المغرب" بعد عشر سنوات على وجودهم في الحكم، إلا أن الحدث يأتي مجبولاً بمجموعة من العناصر التي سيصعب أن تفسّر سرّ الحدس العام الذي فجّر مفاجأة تاريخية خرجت من صناديق الاقتراع.

ويربك الواقع الجديد لأحزاب الإسلام السياسي قيادات ومفكري هذا التيار في تمرين تبرير هذا التشرذم الذي أدى إلى مشهد الخيبة الراهن. ولأن يذهب بعض إسلاميي فلسطين 48 -من خلال القائمة العربية الموحدة بقيادة منصور عباس- إلى عقد تحالفات مع أحزاب إسرائيلية لانتاج الحكومة الحالية، ويخوضون الانتخابات قبل ذلك بعد انشقاق عن القائمة العربية الموحدة، تسعى بعض التفسيرات الإسلاموية إلى تعليق الإخفاق "الإخواني" في المغرب على مشجب اتفاقات التطبيع مع إسرائيل التي وقّعت عليها الحكومة التي يرأسها الأمين العام لحزب "العدالة والتنمية" سعد الدين العثماني (المستقيل). وعلى هذا فإن الاهتداء إلى البوصلة الحقيقية للفشل يشوبها تخبط ولغط وديماغوجية.

والأخطر أن بعض ما بدأ يصدر عن منابر إسلاموية - "إخوانية" يعتبر أن خطيئة أحزاب الإسلام السياسي هي أنها قبلت المشاركة في الحكم وفق "مؤامرة" لحرقها واستنزافها وإنهاء دينامياتها، أو في أنها سلكت الطرق الديموقراطية عبر اللجوء إلى لعبة الانتخابات وأحكام صناديق الاقتراع، فيما الصحيح، وفق ما يصدر، هو التمثّل بتجربة حركة "طالبان" في أفغانستان في استخدام العنف والجهاد وإسقاط خيار الديموقراطية، الذي سبق لقيادات إسلاموية أن اعتبرته "بدعة غربية كافرة غريبة عن الإسلام". هنا فقط تطلّ تجربة حركة "طالبان" كبديل للفشل، ودعوة للخروج من العمل السلمي، وفتاوى لاعتماد السلاح وسيلة وحيدة للسيطرة على السلطة.

وتكمن المفارقة السوريالية في أن عوارض تدهور حال الإسلام السياسي تزامن خلال السنوات الماضية في المسار والمصير مع عوارض تصاعد موقع حركة "طالبان" في أفغانستان. وقّعت الحركة مع الولايات المتحدة (في عهد الرئيس دونالد ترامب) في 29 شباط (فبراير) 2020 اتفاقاً ينظّم الانسحاب الأميركي من أفغانستان. وتولّت، بعد قرار واشنطن تطبيق الانسحاب (في عهد الرئيس جو بايدن)، السيطرة التامة على مقاليد الأمور في البلد. وفيما يرى الإسلام السياسي "التقليدي" في انتصار "طالبان" انتصاراً له وأملاً في إنعاشه وتعويض خيباته، فإن حركة "طالبان" تبثّ غموضاً حول آفاق خياراتها في الحكم على نحو يقلق الجماعات "الإخوانية" كما تلك الجهادية في العالم.

لم يصدر عن حركة "طالبان" إلا تكرار الحرص على تطبيق الشريعة الإسلامية في أفغانستان. وحتى لا تفسّر "طالبان" ماهية تلك الشريعة ومدى اقترابها أو ابتعادها من نماذج شهدتها بلدان إسلامية عديدة في التاريخ الحديث، فإن تيارات الإسلام السياسي لم تفهم بدقة مدى اتّساق الحدث الـ"طالباني" مع مشروع الإسلاموية العابر للحدود. فالإرهاصات الأولى التي يمكن رصدها مما يصدر عن المتحدثين باسم حركة "طالبان" لا توحي بأي طموحات إسلاموية أممية تلتقي مع جماعات "الإخوان المسلمين" ودوائرهم التابعة في العالم. كما أن توجّه حركة "طالبان" ينزع، حتى الآن، نحو المحلية الأفغانية وينأى بنفسه، عن قناعة أو براغماتية، عن أي جماعات إسلامية خارج حدود أفغانستان.

والحال، وقبل سنوات من تأكيد "طالبان" أنها محلية أفغانية فقط، روّج رئيس حزب "النهضة" راشد الغنوشي لحزبه بصفته يمثّل إسلاماً تونسياً محلياً فقط. كان الرجل يسعى لإبعاد شبهة انتمائه إلى التنظيم الدولي لـ"الإخوان". حتى أنه صاحب نظرية فصل ما هو دعوي عما هو سياسي، وقد أقرّ حزب "النهضة" الأمر في مؤتمره عام 2015. وسواء كان التحوّل حقيقياً أو شكلياً، فإن في الأمر إقراراً باسقاط شعار "الإسلام هو الحل" في السياسة وإدارة البلد وشؤون "العباد". هذا التوجه تمّ أيضاً في المغرب في ما كتب سعد الدين العثماني عام 2015 بصفته مفكراً إسلامياً، عن الفصل بين الديني والدنيوي، قبل أن يقوده الصراع السياسي إلى تولي رئاسة الحكومة في المغرب بديلاً عن زعيم الحزب السابق عبدالإله بنكيران.

على هذا فإن منابر الإسلام السياسي الكبرى، بما في ذلك ما دعا إليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في القاهرة في أيلول (سبتمبر) 2011 من دعوة إلى العلمنة وفصل الدين عن الدولة، يعتبر في جانب منه سابقاً على استغراق حركة "طالبان" الحالي في محلية تقطع مع دعوية سياسية أممية عابرة للحدود تستوحي من التاريخ مشاريع لاستعادة حكم الخلافة بالنسخ المعتمدة في الشكل والجغرافيا في قرون سابقة. ولأن تجعل حركة "طالبان" من الإسلام شريعة الدولة والناس، فإن تيارات الإسلام السياسي المأزومة تعوّل كثيراً على إعادة التأثير بالحركة وإخراجها من محليتها (ومن عقائدها الصّوفيّة الطرقيّة كما هو شأن الحركة الديوبندية عموماً) على منوال ما جرى بُعيد ظهورها في تسعينات القرن الماضي. وفي هذا التعويل تتوخى تلك التيارات الحذر من اقتراب متعجّل يحرج "طالبان" ومن نوستالجيا حالمة قد تصطدم بواقعية سياسية ترفع سدوداً أفغانية أمام أهواء وهوايات إسلامية خارج هذا الزمن.

يبقى شعار "الإسلام هو الحل" أجوفَ، وفق رؤية الشيخ مورو في تونس. الدين يُستخدم من أجل الوصول إلى السلطة سواء من طريق "بدعة غربية كافرة" اسمها الديموقراطية أو من طريق "جهادية" تمثل حركة "طالبان" واحدة من واجهاتها الأبرز هذه الأيام والأكثر إثارة عالمياً للجدل. غير أن مناورات حركة "طالبان" وتأكيدها احترام القوانين والمواثيق الدولية (في الأغلب نضجاً أو مكرهةً)، توحي بأن الشعار آيلٌ للسقوط في أفغانستان كما سقط في بلدان أخرى، ذلك أن إدارة الشأن العام وقضايا الاعتراف الدولي ووصل أوردة أفغانستان بالمنظومة الاقتصادية والمالية تحتاج إلى تدابير وسبل وخيارات بشرية ليست من وظائف الدين في أي زمان ومكان.

عن "النهار" العربي

الصفحة الرئيسية