تحولات مفكري المنطقة بعد أحداث "الفوضى الخلاقة"

تحولات مفكري المنطقة بعد أحداث "الفوضى الخلاقة"


11/03/2020

لم تكن أحداث "الفوضى الخلاقة"، أو "الربيع العربي"، محطة مفصلية في ظهور مراجعات لدى العديد من الفاعلين في الحقلين الديني والفكري فحسب؛ بل كانت محطة لظهور تحولات عدة عند هؤلاء، يصعب حصرها في هذا المقام، ونذكر بعضاً منها؛ لأهميتها من جهة، وتبعاتها على أتباع هذه المشاريع من جهة ثانية.

اقرأ أيضاً: "الفوضى الخلاقة" تهدم نهوض الدول
بل زادت هذه التحولات معالم خطابنا الديني والمعرفي تأزماً، لأنّه كان من المفترض أن تكون هذه الأحداث فرصة للانخراط الجماعي في مراجعات حقيقية، تنتصر لقيم الإصلاح الديني والسياسي والاجتماعي، لولا أنّ تراكم أخطاء الماضي في المنطقة، وعدم أخذ العبرة من تحولات المنطقة، ساهما في تكريس الأزمة المعرضة لمزيد استفحال.

جماهير "الربيع العربي"، وفي مقدمتها الشباب، لم ترفع شعارات "الإسلام هو الحل"، أو بتعبير أدق "الإسلاموية هي الحل"

في هذا السياق، مثلاً؛ نستحضر التحولات التي ميزت العديد من مروجي خطاب "المراجعات" عند الحركات الإسلامية القتالية أو "الجهادية"؛ حيث تميزت حقبة ما قبل "الفوضى الخلاقة"، أي مرحلة ما قبل كانون الثاني (يناير) 2011، بظهور مجموعة "مراجعات" عن هذه الرموز الإسلاموية القتالية في المنطقة، خاصة في مصر، سواء كانت صادرة عن رموز "الجماعة الإسلامية" أو "جماعة الجهاد"، لولا أنّه مباشرة بعد اندلاع تلك الأحداث، اتضحت حقيقة أغلب هذه المشاريع، حتى أنّها توزعت على اتجاهين اثنين: اتجاه بقي متشبثاً بخيار "المراجعات"، رغم إكراه السلطة واقتراب حلم "إقامة دولة الخلافة" وأوهام من هذه الطينة تمّ الترويج لها كثيراً في المنطقة، مقابل اتجاه انقلب على مشروع "المراجعات"، وعاد من جديد إلى مرحلة "المراهقة الجهادية"، كأنّه كان يُمارس التقية في مرحلة الإعلان عن "المراجعات".

اقرأ أيضاً: قراءة في مرجعيات الموجة الثانية من الربيع العربي
كما نستحضر المواقف الحقيقية للعديد من دعاة التيار الإخواني، الذين روَّجوا مراراً خطاب "الوسطية" و"الاعتدال" والدفاع عن "الدولة الوطنية"، عندما تبيّن أنّ العديد رموز هذا التيار، انقلبوا بدورهم عن هذه الشعارات، وتورطوا في تأييد ما كانت تقوم به الحركات الإسلامية القتالية في المنطقة، في عدة دول، ولعلّ استحضار الشعارات الدالة التي رفعت في مؤتمر القاهرة المشهور، المؤرخ في 13 حزيران (يونيو) 2013، يلخص حقيقة هذه الازدواجية التي ميزت العديد من الفاعلين الإسلاميين في المنقطة.
من بين المفاجآت أيضاً، وإن لم تكن كذلك عند متتبعي المشروع الإسلامي الحركي عن قرب، ارتفاع الأصوات الإسلامية الحركية الداعية صراحة إلى إقامة "دولة الخلافة"، ونستحضر هنا المؤتمر الذي نظمه "حزب التحرير" في تونس، يوم 22 حزيران (يونيو) 2013، تحت شعار "التحرير والتغيير: الخلافة سقوط الإمبراطوريات وعودة الإسلام"، كما لو أنّ الجماهير التي خرجت في بعض دول المنطقة، كانت تروج لهذا الخطاب الحالِم، والحال أنّ هذه الجماهير، وفي مقدمتها الشباب، لم ترفع شعارات "الإسلام هو الحل"، أو بتعبير أدق "الإسلاموية هي الحل"، ومن باب أولى لم تتورط في رفع شعار "الخلافة هي الحل"، إلا عند أتباع الإسلاموية، وهم قلة أساساً في المنطقة.

اقرأ أيضاً: كيف استجابت الحركات السلفية رقمياً في ظلّ الربيع العربي؟
وإن كانت هذه التراجعات لدى هذه المرجعيات الإسلاموية متوقعة، أخذاً بعين الاعتبار صعوبة التحرر النهائي من السياج الأيديولوجي عند المتديّن الإسلاموي في مرحلة ما بعد الانفصال عن التنظيم، هذا مع المتديّن الذي كان صريحاً في أخذ مسافة من المشروع، فالأحرى مع المتديّن الذي أعلن عن الانفصال إما من باب التقية أو من باب عدم الوضوح، فالأمر كان مختلفاً، إن لم نقل مفاجئاً عند فئة أخرى من الفاعلين في الخطاب الديني والفكري، ونخصّ بالذكر فئة المفكرين، على الأقل مع أسماء كانت صريحة في أخذ مسافة نظرية وتنظيمية من خطاب ومشروع الحركات الإسلامية، الدعوية والسياسية والقتالية، لكنّها سوف تتورط لاحقاً، مباشرة بعد اندلاع أحداث "الفوضى الخلاقة" أو بضع أعوام بعد ذلك، في إبداء مواقف لا تختلف كثيراً عن مواقف الإسلاميين، أو على الأقل تتقاطع معه، ونستحضر هنا مجموعة من الأسماء، التي كانت تحظى باحترام الجميع، بما في ذلك حكام المنطقة، إلى درجة دعوتها لتحاضر أمام صانعي القرار، ونتوقف هنا عند نموذجين اثنين: المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي، والمفكر المغربي طه عبد الرحمن.

اقرأ أيضاً: "الإخوان المسلمون والانكفاء إلى الظل".. قراءة في مسار حركات الإسلام السياسي بالربيع العربي
فمع أبو يعرب المرزوقي، وبعد أن كان يشتغل في حقل الفلسفة، بعيداً عن الخوض الميداني في العمل السياسي في شقه الحزبي، اتضح أنّه سيُصبح ممثلاً لحزب النهضة الإسلامي الحركي في العمل السياسي مباشرة بعد اندلاع أحداث "الربيع العربي"، في نسخته التونسية، قبل تراجعه لاحقاً عن الانضمام للحزب، ليُحرر رسالة نقدية إلى مؤسسة الحركة والحزب، لكنّه سيعود لنشر مواقف نقدية من أحداث الساحة، لم تحدث قطيعة من المرجعية الإسلامية الحركية، بمعنى أنّ المرزوقي الذي كان المتلقي في المنطقة يتعامل معه في مرحلة سابقة، من منطق اشتغاله على قضايا الإصلاح انطلاقاً من أرضية فلسفية، ومساهمته في تسليط الأضواء على أعمال ابن تيمية وابن خلدون، سيُصبح المرزوقي ذاته المنهمك فيما يُشبه توزيع صكوك الغفران الفكرية والدينية على الفاعلين السياسيين في الساحة.

اقرأ أيضاً: السفير الروسي يعيد الجدل بشأن قطر و"الربيع العربي"
وليس صدفة أن يثير ترشّح أبو يعرب المرزوقي على رأس قائمة حركة النهضة، في غضون نهاية 2011، جدلاً متوقعاً في الأوساط الثقافية والسياسية، لأنّ الأمر كان مفاجأة لم يتوقعها أغلب متتبعي أعماله، قبل أن يضطر لتوضيح هذا المنعطف حينها، بالإشارة مثلاً إلى أنّه نهضوي المرجعية، إذا كان "القصد بالمصطلح النهضة العربية والإسلامية التي عمرها بات مناهزاً لقرنين على الأقل لا الاسم العلم لحركة ذات تنظيم حزبي"، دون أن يعني ذلك أنه يُقزم بالتحزب؛ إذ هو عنده "شرط كلّ فعل سياسي نبيل ومؤثر خاصة إذا صاحبه التزام بقيم روحية من جنس القيم التي يقول بها أهل هذه الحركة".

تميزت حقبة ما قبل "الفوضى الخلاقة"، ما قبل يناير2011، بظهور مجموعة "مراجعات" عن هذه الرموز الإسلاموية القتالية في المنطقة

أما مع طه عبد الرحمن، وبعد أن بقي مصرَّاً على موقفه النقدي من أغلب مواقف أيديولوجيات الساحة من أحداث "الربيع العربي"، كما نقرأ في كتابه "روح الدين"، الصادر بعد عام واحد من اندلاع تلك الأحداث، أي في عام 2012، خاصة أنّ هذا الكتاب يتضمن نقداً صريحاً لأيديولوجيات الحاكمية وولاية الفقيه وبعض رموز الخطاب العلماني، إضافة إلى أنّ أعماله اللاحقة بعد هذا الكتاب، بقيت وفية لخطابه الداعي إلى إصلاح أخلاقي ينهل من مرجعية صوفية، بما في ذلك كتابه الحواري حول العنف، بعنوان "سؤال العنف"، والذي ينتقد فيه مشروع الحركات الإسلامية القتالية، عبر أسلوب حواري ومضمون أخلاقي، إلا أنّه في غضون بضعة أعوام بعد ذلك، سيُظهر موقفاً مغايراً لهذا التراكم النظري الذي طالما نوهنا إليه، على الأقل لأنّه تراكم يأخذ مسافة من خطاب "الفتنة الإسلاموية"؛ حيث أصدر كتاباً بعنوان "ثغور المرابطة"، يتضمن أحكاماً سياسية صريحة لم يتوقعها أغلب قراء ومتتبعي أعماله، خاصة أنّها صادرة عن قلم ينهل من مرجعية صوفية من جهة، ويدافع عن الإصلاح السياسي والديني والمجتمعي من منظور صوفي أساساً، لولا أننا نجد مضامين تلك الأحكام، تقريباً في أدبيات الحركات الإسلامية القتالية، فالأحرى الحركات الإسلامية السياسية، وليس صدفة أنّ الأقلام الإخوانية وحدها في المغرب والمنطقة، من احتفلت بصدور الكتاب، مقابل صمت الأقلام الصوفية.
هذا غيض من فيض، يُفيد بأنّ أحداث "الفوضى الخلاقة" كرّست من الأزمات الفكرية للعديد من أسماء الساحة العربية والإسلامية، عِوَض أن تكون تلك الأحداث فرصة لمراجعة تلك الأزمات.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية