حكم الغلبة..كيف رسخ الإسلاميون نزعة الاستبداد السياسي؟

حكم الغلبة..كيف رسخ الإسلاميون نزعة الاستبداد السياسي؟


27/04/2020

محمد يسري

إذا ما نظرنا إلى التاريخ السياسي للدول الإسلامية ، لوجدنا أن الاستبداد كان حاضراً على الدوام في البنية السياسية لِما يعرف بدول الخلافة الإسلامية، وهو السلوك الذي انطبعت به أدبيات التنظيمات الإسلامية بالتبعية، حيث كان الأمويون هم أوّل مَن استحدثوا نظام المُلك البعيد عن المعايير الأخلاقية، ثم تبعهم في ذلك العباسيون، ثم الدول الحاكمة المتعاقبة على الديار الإسلامية، مثل الفاطميون والأيوبيون والمماليك والعثمانيون.

أولاً- التراث السياسي: ثمرة تلاقح الدين والسياسة
تحظى العلاقة الجدلية بين الدين والسياسة في الحالة الإسلامية باهتمام الكثير من الباحثين المتخصصين، ففي حين يرى أكثرُ الباحثين أن الدين والسياسة في الإسلام لا ينفصلان عن بعضهما البعض، بينما يقلل بعضُ الباحثين من حجم تلك العلاقة، ويرون أن الإسلام لم يفكرْ بالدولة أو بالتنظيمات السياسية بشكلٍ أساسيّ، وإن كانت الدولة هي – بلا شكّ – أحد منتجات الإسلام الجانبية الحتمية. فأن أصحاب الرأي الثالث، يرون أن السياسة بالنسبة للإسلام لم تزدْ على أن تكون مجرد مرحلة تاريخية وقتية، ليس لها أي نوعٍ من القداسة أو التميز، ومن هنا، يمكن القول إن التراث السياسي الإسلامي كان ثمرة تلاقح بين الدين والسياسة في التجربة الإسلامية الممتدة على مدار ما يربو عن الأف وأربعمائة عام.

رغم كثرة التعريفات التي عملت على إيجاد معاني منضبطة لمصطلح التراث، إلا أن الكلمة مع ذلك تبقى غامضة وعسيرة على الاستيعاب في أغلب الأحوال، ويمكننا أن ندعي أن التراث هو الحمولة المعرفية التي وصلتنا من عصور قديمة، واستمرت فاعلة ومؤثرة في حياتنا اليومية، وذلك على الأصعدة السياسية والاجتماعية والدينية.

ارتباط التراث بالقداسة والاعتبار في الحالة الإسلامية، كان بسبب تكونه وتشكله على يد مجموعة من العناصر المهمة في الثقافة الدينية، ونقصد بهم الساسة ورجال الدين، وهم الفرعين الذين عرفتهم الثقافة الإسلامية بأولي الأمر.

على صعيد التجربة العلمية، كان الساسة سواء خلفاء، سلاطين، أمراء أو وزراء، هم الذين أسسوا النموذج الإسلامي السياسي التراثي، فيما كان معاصروهم من رجال الدين سواء الفقهاء، العلماء، أو المتكلمين  هم الذين شرعنوا لتلك التجربة على الصعيد النظري.

من هنا، فإننا عندما نتحدث عن التراث السياسي في الإسلام، فإننا نقصد به نوع من الاقتران الحادث بين السلطتين الزمنية والدينية، وهو ما تشكل من خلال تجربة عملية و نظرية، تم الربط فيها بين الدنيوي والمقدس، والنسبي والمطلق، والدنيوي والميتافيزيقي، ورغم انتهاء تلك التجربة بشكل رسمي مع اسقاط الخلافة العثمانية في 1924م، إلا أن أصدائها لا تزال فعالة إلى اللحظة في معظم المجتمعات الإسلامية.

ثانياً- تأصيل نظرية حكم المتغلب في التراث الإسلامي
إذا كان التراث السياسي في الإسلام قد شغل حيزاً متميزاً من الدرس والبحث، فإن نظريات الحكم والخلافة قد استأثرت بالمساحة الأكبر منه، ولا سيما نظرية حكم المتغلب، والتي تم التأسيس لها مع بدايات الدولة الأموية، ثم جرت شرعنتها في المدونات السياسية الأهم في القرنين الرابع والخامس الهجريين، لتصير منذ ذلك الوقت النظرية السياسية الأهم والأكثر تطبيقاً في التاريخ الإسلامي.

المقصود بحكم المتغلب، هو أن ثمة اعترافاً ضمنياً يتحقق بشرعية حكم الأمير الذي يتمكن من الوصول إلى كرسي الحكم بشوكته وقوته، وذلك بغض النظر عن كونه من أهل البر والتقوى أو كونه من أهل الفجور والمعاصي، وأنه يجب على جميع المسلمين أن ينقادوا لحكمه ويعترفوا بسطوته، وذلك حقناً للدماء وتجنباً للفتنة والاختلاف.

هذه النظرية التي صارت النظرية السياسية الأهم في تاريخ الإسلام، لم تظهر إلا مع تأسيس الدولة الأموية في أربعينيات القرن الأول الهجري، واحتج المؤيدون لها بمجموعة من الوقائع التاريخية، منها على سبيل المثال: –

1- عدم النص على خليفة للرسول
إذ يذهب أغلبية المسلمين من أهل السنة والجماعة –بعكس الشيعة الإمامية- إلى أن الرسول لم يوص لأحد من أصحابه بالخلافة من بعده، وهو الأمر الذي يفتح الباب واسعاً أمام اختيار الخليفة والحكم بما يتناسب مع الصالح العام للمسلمين.

2- اختلاف سبل اختيار الخلفاء الراشدين
فقد عُيّن “أبو بكر” بعد شدٍّ وجذبٍ من قِبَل المهاجرين والأنصار، و”عمر” – وإن كان قد تولى الخلافة بعهدٍ مباشرٍ من سلفه – إلا أنه قد حظي بقبولٍ من جانب عموم الصحابة، الذين وافقوا الخليفة الأول على اختياره. أما “عثمان”، فقد تقلّد السلطة بعد عملية الشورى، وكذلك أُعلنت خلافة “علي بن أبي طالب” عقب مبايعة أهل المدينة، والكثير من وُجهاء الصحابة ومقدميهم، ومن هنا، فلم يكن هناك طريقاً وحيداً لاختيار الحاكم، بل تعددت الطرق بتعدد الحالات.

3- انقياد الصحابة للحاكم المتغلب
والمقصود هنا، أن الكثير من الصحابة من أمثال عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك وغيرهم، لم يجدوا بأساً في الاعتراف بسلطة الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وكان قد خرج على سلطة الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير وقتله وأعلن خلافته في عام 73ه. ولما كان المذهب السني يعتبر أفعال الصحابة، ويرى أنها تتفق مع الشريعة، فأن العلماء قد ذهبوا إلى أن انقياد الصحابة العدول لعبد الملك، دليلاً على شرعية حكم الأمير المتغلب.

4- تواتر المدونات العقائدية والسياسية على الاعتراف بحكم المتغلب في العصرين البويهي والسلجوقي
مع ضعف وترهل السلطة العباسية، وسيطرة العناصر الأجنبية (البويهية الفارسية، ومن بعدها السلجوقية التركية) على السلطة بشكل فعلي، تم الإقرار بسلطة الحكام المتغلبين من جمهور الفقهاء والأصوليين، وتواتر ذلك الاعتراف في مدوناتهم ومنها على سبيل المثال، الأحكام السلطانية لأبي الحسن الماوردي المتوفي 429ه، وغياث الأمم في التياث الظلم لأبي المعالي الجويني المتوفي 478ه، هذا فضلاً عن الإقرار بتلك النظرية في المدونات العقائدية، ومن أشهرها، متن العقيدة الطحاوية؛ إذ جاء فيه “ونرى الصلاة خلف كلّ برٍّ وفاجرٍ من أهل القِبلة”.

ثالثاً-  كيف تسببت  نظرية حكم المتغلب في عرقلة تقدم الإسلاميين بعد اندلاع الثورات في المنطقة العربية؟
لعبت نظرية الحاكم المتغلب دوراً كبيراً في افشال المشروع السياسي -الثوري للإسلاميين، وسوف نتناول – في عجالة – أهم تجليات تلك النظرية، تلك التي أثرت كثيرًا في عرقلة تطور ثورات الربيع العربي، وإفشالها في أكثر الأحيان.

حيث أنه وبعد الثورات التي اندلعت، اصطدم الإسلاميون بحقيقةٍ أنهم لا يملكون طرحًا سياسيًّا إسلاميًّا مؤدلجًا يصلح كبديلٍ قوي للأنظمة الاستبدادية التي أُسقطت من جهةٍ، أو للأطروحات السياسية الأيديولوجية القومية والليبرالية الحداثية التي طُرحت وعُرضت من قِبَل باقي الفصائل الثورية من جهةٍ أخرى.

المشكلة الحقيقية أن الفصل التام الذي حدث على مدار التاريخ الإسلامي، ما بين المنظومة الأخلاقية الإسلامية المعيارية من جهةٍ، والواقع السياسي المعقد من جهةٍ أخرى، قد أدى إلى غيابٍ أي أسسٍ أو مرتكزات تراثية قوية، قد تصلح لإقامة أي طرحٍ لرؤيةٍ سياسية تستطيع أن تتلاءم مع متطلبات الواقع والعصر من ناحيةٍ، وأن تصطبغ بالصبغة الإسلامية الواضحة من ناحيةٍ أخرى.

وقد أدى ذلك بطبيعة الحال إلى أن الأنظمة المصبوغة بالصبغة الإسلامية، والتي استطاعت أن تصل إلى سُدة الحكم في عددٍ من دول الربيع العربي، أنه سرعان ما فقدت أرضيتها المجتمعية، واتُّهمت بالازدواجية والنفاق؛ مما سهل من عملية الانقلاب عليها، والإطاحة بها في ما بعد.

وبالتالي، يمكن القول إن نظرية حكم المتغلب -ورغم كونها نظرية مستمدة من التراث السياسي الإسلامي بالمقام الأول- قد لعبت دوراً فاصلاً في إثبات عدم فاعلية مشروع الإسلام السياسي بعد ثورات  2011م ، وتبدو المفارقة هنا في أن الأحزاب والقوى السياسية الإسلامية التي لطالما نادت بإحياء التراث الإسلامي والاحتكام إليه من قبل، قد لاقت فشلاً ذريعاً في تجربتها العملية الأولى في الحكم بفعل الآثار المترتبة على بعض نظريات هذا التراث.

عن "مركز الإنذار المبكر"

الصفحة الرئيسية