زيارة الرئيس الصيني للإمارات.. ومنطق "عالمٌ ليسَ لنا"

زيارة الرئيس الصيني للإمارات.. ومنطق "عالمٌ ليسَ لنا"


19/07/2018

تنبّهتْ دولٌ عربية منذ زمن إلى أهمية تنويع الشراكات الإستراتيجية مع القوى الدولية، وهي أهمية أصبحت أكثر إلحاحاً منذ ثلاث وقائع مفصلية: الأولى أحداث أيلول (سبتمبر) 2001، والثانية أحداث "الربيع العربي" منذ 2011، والثالثة توقيع الاتفاق النووي الإيراني في تموز (يوليو) 2015. لكنّ هذا التنبّه لم يشتغل بالكفاءة المطلوبة، وظل يعاني اختلالات بنيوية أضعفت ثماره وشككت في جدواه، ما أوقع هذه الدول في "حيرة إستراتيجية" حيال ما يتوافر أمامها من خيارات وبدائل تُمكّنها من التعاطي باقتدار مع تحديات وفرصِ بيئةٍ دوليةٍ وإقليمية لا تنفكّ عن التحوّل وإعادة التشكّل.

اقرأ أيضاً: لماذا اختار الرئيس الصيني زيارة الإمارات؟

"الحيرة الإستراتيجية" بدأت مع تحولات التقدير الإستراتيجي الأمريكي تجاه الشرق الأوسط زمن الرئيس باراك أوباما (2008-2016)، فلم تتكيف الدول العربية، وخاصة دول الخليج، مع فكرة أنّ الالتزام الأمريكي تجاه أمن أصدقائها في المنطقة غير خاضعٍ لمعاهدات دفاعية تصل حدّ "التحالف" الفعلي، بل هو "شراكة" وصلتْ (مع ظروف الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي وموقع الشرق الأوسط والخليج في هذه الحرب، ومع اعتماد أمريكا على نفط الخليج وقبل إسقاط نظام صدام حسين في 2003) إلى صيغة قريبة إلى "التحالف" لكنها لم تكن تحالفاً بالمعنى الدقيق وشروطه القانونية، كما ظنّت دول الخليج، فكانت الحيرة العربية ناجمة من التعاطي مع أمريكا كحليف كامل وليس كشريك له أولويات ومصالح وتوازنات أصابها التغيير مع غزو العراق ومع الوقائع المفصلية الثلاث التي ذكرناها. ومع أنّ النسخة الجديدة من الشريك الأمريكي زمن الرئيس أوباما بقيتْ تعلن أهمية شراكاتها العربية-الخليجية فإنها بدأت تطرح ضرورة أنْ يُحدِث الطرف العربي-الخليجي تحولات في ثلاثة مجالات: الحرب على الإرهاب، والإصلاحات السياسية والاقتصادية الداخلية، والتعاطي مع إيران كقوة إقليمية وكعنصر أساسي في أي صيغة مفترضة لإرساء هيكل أمني جماعي في المنطقة يسمح بإدارة التسويات وإطفاء ملفاتها المشتعلة في غير بلد. بالطبع، كثير من هذا تغيّر مع وصول الرئيس دونالد ترامب إلى السلطة خلفاً لأوباما، وصولاً إلى تبنّيه سياسة الضغط على إيران وانسحابه من الاتفاق النووي.

مع هذه الزيارة يتبلور سياق نوعي لمنطق تنويع الشراكات في إطار "الصبر الإستراتيجي" و"النفَس الطويل"

وفي الحقيقة، لقد ظهرت الاختلالات البنيوية العربية في مقاربة تنويع الشراكات الإستراتيجية مع التوجّه نحو روسيا، وجرى التساؤل الحائر كيف أنّ هذا التوجّه نحو موسكو بالاستثمارات والصفقات والزيارات على أعلى المستويات لم يلعب دوراً في منع التقارب الروسي-الإيراني، ولم يكبح موسكو من الانخراط في سوريا لمصلحة نظام بشار الأسد وداعميه الإقليميين.

مع إدارة الرئيس ترامب جرت تحولات رممتْ العلاقة الإستراتيجية الأمريكية-الخليجية، وتأكد مفهوم أنّ سياق تنويع الشراكات يأتي في إطار أنّ التوجه نحو روسيا أو الصين ليس خصماً من الشراكة مع أمريكا أو أوروبا؛ حيث الأولى، على وجه الخصوص، ما تزال أهم شريك دولي لدول الخليج والأردن ومصر والعراق. لكن كانت ثمة مبالغة في تقدير أن حرص روسيا على عدم استدعاء السُنّة سيدفعها إلى عدم التورط كثيراً في دعم بشار الأسد وتبني مقاربة إيران للحل العسكري وانتهاج سياسة "الأرض المحروقة" في حلب وغيرها من المناطق السورية. ولم تُقرأ جيداً فكرة أنّ إيران ما بعد الاتفاق النووي، في ظل تركيبتها السلطوية القائمة، ستكون أقرب إلى روسيا والصين وليس إلى الغرب، وقد دلّ على ذلك أن المبعوثين الإيرانيين لروسيا والصين كانوا الأقرب لتحالف المرشد علي خامنئي-الحرس الثوري، فيما المبعوثون للغرب هم من الخارجية وطاقم الرئيس روحاني. إيران الآن في مأزق خطير مع سياسة العقوبات الأمريكية التي يفرضها ترامب بعد انسحابه من الاتفاق النووي.

اقرأ أيضاً: أحمد السعيد: زيارة الرئيس الصيني ستجعل الإمارات مركز التعاون في المنطقة

مع زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، التاريخية اليوم إلى دولة الإمارات يتبلور سياق نوعي لمنطق تنويع الشراكات في إطار "الصبر الإستراتيجي" و"النفَس الطويل"؛ فأصبحت المعادلة: لا غنى عن خيار الشراكة العربية مع الصين وروسيا كطرفين دوليين وإقليميين مهمين للغاية، الأولى في شأن "مبادرة الحزام والطريق"، والثانية في حضورها المتزايد في الشرق الأوسط انطلاقاً من سوريا. لكنّ ما يُنتظر من هذه الشراكة لم يُعطِ ثماره المبتغاة بشكل كامل حتى اللحظة، وفيما يتعلق بروسيا كانت سوريا أرضاً لتكسير التطلعات تلك، وإعادة الترنّم لدى كثيرين بمقولة الروائي الفلسطيني، غسان كنفاني "عالمٌ ليسَ لنا". لكنّ السعودية والإمارات والكويت والأردن ومصر... توقفت منذ زمن عن هذا الترنم، وكانت مشاركة أمير الكويت الفاعلة في منتدى التعاون الصيني العربي قبل أيام في بكين دليلاً قوياً على ذلك، واليوم تأتي زيارة الرئيس الصيني إلى الإمارات لتدعم هذا الوعي السياسي. وبالنسبة لموسكو، فقد كانت الزيارات الأخيرة لها من قبل ولي عهد أبوظبي، الشيخ محمد بن زايد، وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مؤشرات إضافية، كما يقول مارك كاتز في تحليل نشره معهد دول الخليج العربية في واشنطن (20/6/2018) على أن السعودية والإمارات مصممتان على زيادة التعاون مع روسيا في وقت تشهد فيه العلاقات بين موسكو والغرب تعقيدات كثيرة. وقد أكد كاتز أنّ الإمارات والسعودية تريدان توطيد العلاقات مع روسيا بشكل أساسي كوسيلة لإرساء التوازن في علاقة هذه الأخيرة بإيران. وفي حين أنّ تقاربهما من بوتين لا يهدف إلى التأثير في أولوية علاقتهما الطويلة الأمد مع الولايات المتحدة، فإنه يرمي إلى بعث رسالة إلى واشنطن. وفي وقت تعود فيه روسيا بشكل حازم إلى الشرق الأوسط، تهدف الإمارات والسعودية إلى تطوير علاقات أفضل مع بوتين وتعزيز جهودهما لخلق مسافة بين موسكو وطهران. علاوةً على ذلك، يتابع كاتز، يتمثل الهدف الكامن خلف تعاون الرياض وأبوظبي مع موسكو (سواء في مجالات النفط أو الأسلحة أو التجارة) في حث روسيا على أخذ مصالحهما في الحسبان بشكل أكبر وضمان أن تفهم طهران أن الدول الخليجية لديها مصالح مشتركة كبيرة مع موسكو أيضًا. هذا المنطق يجوز مع الصين أيضاً.

وقف الحيرة يكون بمزيد من الانخراط في الديناميكية التي يعمل العصر وفقاً لها حتى لو انتهكها الكبار

في مطلق الأحوال، فإنّ وقْفَ "الحيرة الإستراتيجية" يبدأ بالتخطيط الجادّ باتجاه أنْ نكون "مصلحة لا غنى عنها" لكل من أمريكا والصين وروسيا وغيرها من القوى الدولية. وحين لا تُرضينا تناقضات الكبار ولاأخلاقية سياساتهم واستفزازات اللعبة الدولية وتوحّشها، فإنّ الحل، في ظلّ شحّ الخيارات الناجعة، لا يكون بـ"الحَرَد" واليأس من العالم، ودعوات مقاطعة الكبار والتفكير بمعاقبتهم!!، بل بمزيد من المراهنة على إقناعهم بأننا "جزء من مكاسبهم ومصالحهم". زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ اليوم تقول شيئاً مثل ذلك. من جانب آخر، فإنّ وقف الحيرة يكون بمزيد من الانخراط في الديناميكية التي يعمل العصر وفقاً لها (مكافحة الاستبداد والفساد والتطرف، واحترام حقوق الإنسان وفي صدارتها حقوق المرأة...)، حتى لو انتهكها الكبار، والاشتغال على الذات وتحصين الداخل وتنمية الشعوب وحيازة القوة بمفهومها الشامل، وليس المعدات العسكرية فقط، على أهميتها. والجوائز في العلاقات الدولية ليست دائماً "كاملة الأوصاف"، فالحياة لا تحمل كلَّ مرة، للأفراد كما للدول، العدل والإنصاف، وليس هذا مبرر للتوقف عنها، بل للاشتباك أكثر فأكثر بتلابيبها، ومعانقة مذاق النجاح والفرح والأمل فيها.

الصفحة الرئيسية