"سفر برلك" مأساة يجددها أردوغان

"سفر برلك" مأساة يجددها أردوغان


29/02/2020

حكيم مرزوقي

ينشر هذا المقال وسط أجواء تقرع فيها طبول الحرب في الشرق الأوسط. توتر هائل بعد مقتل عدد كبير من الجنود الأتراك في منطقة إدلب السورية، ولكن أخبار الجنود الأتراك القتلى لم تصل من سوريا وحسب، بل من ليبيا أيضا التي أرسل إليها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان جنوده مع مقاتلين آخرين يحملون الجنسية السورية، ليعملوا تحت إمرته ولينفذوا مخططاته. وهكذا بات الحديث عن انتشار عسكري تركي خارج الحدود أمرا متكررا يذكر بظاهرة عاشتها شعوب المنطقة قبل أكثر من مئة عام. إنها ذكرى “سفر برلك”.

والمغاربي الذي أقام في بلاد الشام، مثلي، لا يمكن له أن يتخيل أو يتمثل وقع كلمة ”سفر برلك” تلك في نفسية أهالي دمشق، وما تعنيه من أهوال، ذلك أن رعايا الدولة العثمانية من سكان شمال أفريقيا، لم يكونوا معنيين ـ وبحكم البعد الجغرافي ـ  بالفرمان الذي أصدره السلطان العثماني محمد رشاد سنة 1914، مثلما هو الأمر لدى سكان بلاد الشام والعراق ومصر واليمن وأجزاء من شبه الجزيرة العربية، حيث ارتكب القائد التركي فخري باشا، جريمة في المدينة المنورة عام 1915، تعتبر من أبشع الجرائم العثمانية بعد مجزرة الدرعية في هذه المنطقة.

حرب الرجل المريض

الفرمان الصادر بتاريخ الثالث من أغسطس 1914 يدعو الذكور الذين بلغت أعمارهم بين 15 وحتى 45 عاما من رعايا الدولة العثمانية إلى الالتحاق بالخدمة العسكرية الإجبارية معلنا النفير العام والتأهب للحرب. وهو ما تعنيه الكلمة التركية “سفر برلك“.

ولشدة فظاعة هذه الكلمة، وما تعنيه من قتل وتهجير وأوبئة ومجاعات، دخلت “سفر برلك” المخيال الشعبي فأتبعها أهالي دمشق ـ وعلى سبيل التطير، بعبارة “تنذكر وما تنعاد”، وأطلق البغداديون عليها “أيام الضيم والهلاك”، أما في مصر فيكفي أن تذكر حملة ترعة السويس، حتى تقشعر الأبدان، ويتعوذ الناس بخالقهم من فظائع تلك الأيام الدامية.

وفي المدينة بالجزيرة العربية، ما زالت كلمة ”سفر برلك“ تختبئ في الأنفس والذكريات القاسية التي عانتها بيوت وطرقات المدينة المنورة حتى الآن كما يقول الكاتب السعودي محمد الساعد.

وليس عند العرب وحدهم، تحيل كلمة “سفر برلك” إلى الوجع والتشرد والويلات، بل لدى شعوب وقوميات أخرى، عانت من ظلم الأتراك العثمانيين مثل الأرمن وشعوب البلقان، والأكراد، حيث يوضح الباحث كمال مظهر أحمد، في كتابه “كردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى” بقوله “حتى إن كلمة سفر برلك، التي تعني في اللغة التركية النفير العام، دخلت اللغة الكردية منذ تلك الأيام وغدت مصطلحا يستخدم حتى اليوم للدلالة على الحظ السيء والسفر المشؤوم الذي لا رجعة منه”.

لقد كان يحل الذعر والرعب في كل مكان علقت فيه المناشير الحاملة لرسم بندقيتين متقاطعتين، والمتضمنة للعبارة التركية “سفر برلك وار- عسكر اولانلر سلاح باشنة”، ومعناها أن النفير العام قد أعلن، وعلى الجنود أن يكونوا على أهبة الاستعداد بأسلحتهم.

سكان المغرب الكبير كانوا تحت الحكم العثماني، باستثناء مراكش، لكن التبعية للدولة العلية في الأستانة كانت شبه صورية، وتأخذ شكلا بروتوكوليا أكثر منه ولاء مطلقا كما هو الأمر في أقطار المشرق العربي، وفي بلاد الشام والعراق على وجه الخصوص، وذلك لأسباب تتعلق بالجغرافيا وتداخل الانتماءات القومية والدينية، بالإضافة إلى تشكل جيوب مقاومة ونزعات استقلالية غذتها بواكير الفكر القومي، الأمر الذي جعل من الأتراك يحكمون قبضتهم على بلاد الشام والعراق.

مأساة وثقها الأدب والفن

“سفر برلك” كلمة مرادفة لكل ما رافق الحرب العالمية الأولى من بشاعة، وزاد عليها جبروت الأتراك العثمانيين وتسلطهم، إذ كان يُزج بخيرة شبان البلاد العربية في حروب خارج أوطانهم وإراداتهم فمن لم يمت بالبارود، قضى من الجوع والبرد والأوبئة. ومن حالفه الحظ وتمكّن من العودة، فبرفقة عاهة جسدية أو نفسية تذكره بحرب خاسرة فرضت عليه من قبل قادة قساة وأجلاف، يحاولون إنقاذ “الرجل المريض“، الإمبراطورية التي بنيت على الدماء والأشلاء والتهجير والاغتصابات، فسارع الغرب الأوروبي إلى الإجهاز عليها مستفيدا من نقمة العرب وباقي الأقليات التي عانت من قسوة الأتراك العثمانيين.

وفي كتابه “لبنان من دويلات فينيقيا إلى فيدرالية الطوائف” يقول الباحث فهد حجازي عن الحكم التركي العثماني إن العرب ”لا يذكرون منه إلا السفر برلك، والجزية، وأسماء السفاحين مثل جمال باشا السفاح“.

هذا النفير العام والتأهب للحرب، اللذان تختصرهما الكلمة التركية “سفر برلك” جاءا استعدادا من الدولة العثمانية للوقوف إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وقبل أن تعلن روسيا الحرب عليها في نوفمبر من العام نفسه، وتلتها إنجلترا في الشهر ذاته. واستفاقت مدن مثل دمشق وبغداد على  ملصقات الإعلان عن التعبئة العامة عند مداخل البنايات الحكومية، والمقاهي والأسواق والمحلات وغيرها من الأماكن العامة.

الغريب أن مأساة المجندين العرب، وغيرهم من الشعوب التي استضعفها العثمانيون في حروب السفر برلك، وهلاك خيرة شبابهم في تلك المعادلة المغلوطة، يعتبرها الأتراك “ملحمة”، ومفخرة تُخط بأحرف من ذهب في دفاتر تاريخ الأمة التركية. الشواهد عديدة على كيفية أن تجيّر مظلمة لتصبح مفخرة في قاموسهم فيشيدون لها النصب التذكارية ويدرسونها لتلاميذهم.

“جناق قلعة” كانت من بين المعارك الدموية التي سقط فيها 250 ألف مجند من رعايا الدولة العثمانية في جزيرة غاليبولي، برصاص الحلفاء، وكان فيها سوريون وفلسطينيون وشبان من الشرق الأوسط ودول البلقان كما تدل شواهد قبورهم. المعركة كانت مجزرة تسبب فيها الأتراك حين جندوا هؤلاء الشبان، لكنهم يعتبرونها ملحمة خالدة فيعيدون إحياءها كل عام، ويخصونها بالأشعار والموسيقى كما يظهر في الأعمال الدرامية التلفزيونية التي يدعمها ويشجع عليها رجب طيب أردوغان، ضمن مشروعه الطامح إلى إحياء دولة السلاطين.

الإنتاج الثقافي العربي لم يكتف بالتوثيق ولعق الجراح إزاء محنة السفربرلك بل تصدى لها بكتب وأفلام ومسلسلات ومسرحيات، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة رغم وجود طابور خامس يغازل الأتراك ويحن لعهد السلاطين “المنقذين” كما هو موجود في أدبيات جماعة الإخوان المسلمين.

ولعل أهم ما يعلق في الذاكرة هو فيلم “سفر برلك” الذي قامت ببطولته فيروز إلى جانب إحسان صادق، كتبه الأخوان رحباني وتصدى لإخراجه هنري بركات عام 1967. الفيلم يحكي قصصا حقيقية ومعروفة عند اللبنانيين الذين عانوا من ظلم وبطش بعض قادة وولاة الأتراك العثمانيين.

أكّد ووثق هذا الأمر الباحث فيصل القنطار في كتابه “عودة مهاجر” بقوله “نال لبنان برمته نصيبا عظيما من أهوال هذه الحرب وويلاتها، حيث فقد كثيرا من شبابه الذين جندتهم السلطنة العثمانية عنوة فيما كان يسمى سفر برلك، وعاش الناس خلال تلك الفترة حياة الفقر والجوع والتشرد”.

وفي المسرح، كتب السوري ممدوح عدوان، واحدا من أجمل النصوص التي أخرجها مواطنه عجاج سليم، بداية تسعينات القرن الماضي. اعتمد عدوان على وثائق كتبها فلاحون على شكل قصائد وأغان ومذكرات بالعامية أو الفصحى المكسرة أو اللكنة العثمانية. ويبدي النص تهكما وسخرية من المثقف التقليدي ذي النزوع المتدين، لأنه مثقف سلطاني يبرر أفعال الظلم والتجويع عبر اقتباسات من الثقافة الدينية، مبعدة عن سياقها الأصلي من أجل منافع شخصية بائسة وفتات موائد.

أما في الدراما التلفزيونية، فقدم المؤلف السوري حسن م يوسف، مسلسل “إخوة التراب” الذي تناوب على إخراج أجزئه الثلاثة، كل من السوري نجدت أنزور، والتونسي شوقي الماجري، في عمل آسر جعل الدولة التركية آنذاك، تحشد جيوشها على الحدود وتطالب بإيقاف بث المسلسل وقد تزامن ذلك مع المطالبة بتسليم الزعيم الكردي المعارض عبدالله أوجلان، فترة حكم حافظ الأسد.

على صعيد الكتابة الروائية، قدم السعودي مقبول موسى العلوي، رواية تحمل عنوان نفس الواقعة ”سفر برلك“، وفيها يتحدث عن شخصية “ديب” الذي يقع أسير الجنود العثمانيين مع اندلاع الثورة العربية الكبرى. يُرحّل إلى دمشق أسوة بأبناء المدينة السعودية الذين عانوا بطش الحاكم. “ديب” الذي سبق أن اختطف طفلا من مكّة وبيعَ كعبد، يجد نفسه في دمشق عاملا في خان تملكه سيدة بانتظار رحيل العثمانيين.

ولا يمكن في هذا الصدد أن ننسى فيلم “لورانس العرب” الذي يروي حكاية الإنجليزي توماس إدوارد لورنس الذي حارب إلى جانب العرب في ثورتهم ضد الأتراك عام 1916، وكان من  إخراج المخرج البريطاني ديفيد لين عام 1962 وبطولة بيتر أوتول بدور لورنس، وعمر الشريف بدور الشريف علي، وأنتوني كوين بدور عودة أبوتايه، وأليك غينيس بدور الأمير فيصل. وكان كل ذلك في حبكة درامية مدهشة، خلفيتها تلك الثورة التي لا بد منها، ضد المتغطرسين الأتراك.

هذه نماذج من بضعة أعمال فنية قُدمت كغيض من فيض، حول ويلات وفجائع “سفر برلك”، الحرب التي جعلها الأتراك العثمانيون، محرقة لرعايا الدولة العثمانية المتسلطة باسم الدين، والتي يريد أردوغان، اليوم، إحياءها تحت نفس الراية، ويجند لها المغفلين والموهومين من بلاد العرب التي عاش أهلها الويلات من ظلم العثمانيين في تلك الفترة العصيبة.

وعلى عكس ما افتخر الأتراك بـ”سفر برلك” وجيروها ظلما لصالحهم، فلقد كانت وجعا في المدونة العربية، كما جاء على لسان الشاعر العراقي محمد مردان، في قصيدته “ولدي علي، عندما يتردد اسمك اللذيذ في مسامعي، أتذكر جدي الذي ذهب إلى سفر برلك ولم يعد.. تضطرب البراكين في أعماقي عندها أنظر إلى صورة أبي. وأجهش بالبكاء”.

أردوغان ينكأ الجراح

قال الشاعر السوري الكردي لقمان ديركي، في قصيدة يخاطب فيها الأتراك، وتختصر معاناة الكرد والعرب إزاء الجبروت التركي “تعودنا الحياة متجهمين والموت مبتسمين. قُتلنا ومنعت أمهاتنا من البكاء علينا، فارتدين زهور البراري”.

لقد جعلت “سفر برلك” من العرب والأتراك، عدوين لا يتصافحان إلا بعد الكثير من القدرة على النسيان. بينما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي لا يريد النسيان، يكابر مثل “مريض تركي”.

مر ما يقارب القرن على “سفر برلك”، تبدلت التحالفات، ثاب الألمان إلى رشدهم، وهم حليفو الأمس، اعتذروا من الإنجليز والفرنسيين. وظل الأتراك على غيهم كما أراد لهم أن يكونوا أردوغان، في حلمه بـ”سفر برلك” جديدة.

الويلات التي تعرض لها السوريون من جراء “سفر برلك” كفيلة بأن تجعل قلوبهم أقسى من الصخر، لكن نزوعهم نحو المحبة وحسن المجاورة، جعلهم ينسون، فلماذا لا تساعدهم على النسيان يا ساكن قصر “ييدز” الجديد؟

“سفر برلك” ليست مجرد واقعة تاريخية تمثلت في تجنيد الأتراك لرعايا الدولة العثمانية من العرب في حروب ظالمة وخاسرة ضد أعدائهم من الحلفاء الغربيين بل “كتيبة من الحقد” سلطت ضد البشرية، وأستغرب من نفسي ـ كرجل تونسي ـ كيف لم أستوعبها، وقد درسونا إياها في التاريخ، على أنها مجرد واقعة من مواقع الحرب العالمية الأولى.

“سفر برلك” أكبر من مجزرة، أفظع من مؤامرة، وأشد قسوة ومرارة من محاولة نسيان، حتى وإن تسلح أدعياؤها اليوم بالذود عن فلسطين، بدليل أن الكاتب زهير عبدالمجيد الفاهوم، يورد في كتابه “فلسطين ضحية وجلادون” طرفا من المآسي التي عاناها الفلسطينيون بسبب القوات التركية التي تأخذ أرزاق وطعام الفلسطينيين غصبا عنهم فيقول “ولا شك أن أخطر ما واجه سكان المنطقة من ويلات، وكان الواجب المفروض عليهم بإعالة القوات التركية المرابطة في المنطقة في الوقت الذي كانوا هم في أمس الحاجة إلى من يعيلهم ويكفيهم قوت يومهم”.

زاد كل ذلك، يقول الفاهوم، من انهيار الأوضاع، “أن تلك القوات كانت تفتقر إلى الانضباط والطاعة. وكانت باكورة المصائب تعيين أحمد جمال باشا قائدا عسكريا وحاكما عاما للمنطقة بعد أن منحته الحكومة سلطات غير محدودة، فقام بإعلان الأحكام العرفية العسكرية والعمل بموجة أنظمة طوارئ”. ويروي هارون هاشم رشيد في كتابه “إبحار بلا شطآن” كيف أجبرت السلطات العثمانية والده وعائلتهم وغيرهم من الفلسطينيين على مغادرة مدينة غزة أثناء السفر برلك.

هل هذه فلسطين التي يحلم ويحكي باسمها اليوم، أردوغان متمثلا أسلافه العثمانيين أم أن العرب مازالوا مغفلين ويقبلون على كل من يدغدغهم باسم قضيتهم المركزية، وتحت أي ذريعة؟

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية