"سيدة الجنة" يجدّد الصراع بين حرية الفنّ وسلاح المنع

"سيدة الجنة" يجدّد الصراع بين حرية الفنّ وسلاح المنع


15/06/2022

شاهدت الفيلم بعقل محايد، متمنياً أن يكون أفضل مما يشاع عنه، لكنّني وجدت أنّه أسوأ"، بتلك العبارة أنهى الناقد السينمائي عصام زكريا مقاله عن فيلم "سيدة الجنة"، بعد زيادة عدد الدول التي سعت إلى منعه، آخرها المغرب، في محاولة لوقف مشاعر الفتنة الطائفية التي يروّج لها الفيلم، بحسب المناوئين لعرضه في دور السينما.

يقول عصام زكريا في موقع "باب مصر": "شاهدت الفيلم، وقرأت ما نشر عنه باللغة العربية، وكالعادة وجدت أنّ ما يكتب مجرد كلام منقول لا علاقة له بمضمون الفيلم. لكن الغريب هذه المرة أنّ الفيلم أسوأ بكثير جداً مما ينشر عنه".

"سيدة الجنة" من إخراج إيلي كينج، وسيناريو ياسر الحبيب، المولود في الكويت، عام 1979، وهو شيعيّ متشدّد، تعرّض للسجن من جانب الحكومة الكويتية عام 2003، وبعد الإفراج عنه سافر إلى العراق ثم إيران، ثمّ حصل، عام 2005، على حقّ اللجوء في بريطانيا، حيث أصبح يدير قناة تلفزيونية شيعية من هناك، وينشر صحيفة شيعية، ويدير حركة "اتحاد خدام المهدي".

سيرة السيدة فاطمة

يروي الفيلم قصة السيدة فاطمة، ابنة النبي، صلى الله عليه وسلم، للمرة الأولى في السينما، وذلك من خلال حبكة تدور بين الحاضر والماضي، حول طفل عراقي صغير اسمه ليث، تقتل أمه فاطمة بوحشية أمام عينيه في بداية الفيلم، ثم يستطيع الهرب من القتلة وسط معركة دامية بين قوات داعش والقوات المقاومة لهم، وتحاول جدته تعزيته بأن تحكي له قصة السيدة فاطمة، أول ضحية للإرهاب في تاريخ الإسلام، بحسب ما يقوله الفيلم.

بوستر الفيلم

تبدأ قصة الجدة لحفيدها ليث بدخول النبي، صلى الله عليه وسلم، للمدينة وإعلانه دستوراً جديداً يقضي بالتسامح والإخاء والعدل.

ويواصل الفيلم التنقل بين الحاضر والماضي ليروي قصة السيدة فاطمة، أو هكذا المفترض، بحسب الدعاية التي روّجت له، غير أنّ الحقيقة خلاف ذلك؛ يتعرض الفيلم بشكل أكبر للإمام علي، رضي الله عنه، مروّجاً الرواية الشيعية للتاريخ الإسلامي، والصراع بين مصطلحَي الإمامة والخلافة.

يبدأ فيلم "سيدة الجنة" كلماته الأولى بالحديث عن السلام، وأنّها دعوته الرئيسية، غير أنّ المعروض لا يحمل سوى الكراهية؛ إذ يتبنى الفيلم رؤية أكثر الروايات الشيعية تطرفاً

يبدأ الفيلم كلماته الأولى بالحديث عن السلام، وأنّها دعوة الفيلم الرئيسية، غير أنّ المعروض لا يحمل سوى الكراهية؛ إذ يتبنى الفيلم رؤية أكثر الروايات الشيعية تطرفاً، على الرغم من وجود اعتراضات من بعض الشيعة أنفسهم لتأويل تلك الأحداث، مثل حرق الصحابة لمنزل السيدة فاطمة والاعتداء عليها، وكيف أنّ ذلك الاعتداء كان سبباً في رحيلها بعد أسابيع من حدوثه.

لكن يظلّ السؤال الأهم المطروح على مائدة الخلاف بين مؤيد ومعارض هو مدى إمكانية تقييد الفنّ، وما هي وسائل التعامل مع منتج فني نرى أنّه يزيف الحقيقة، وهل يكون الحلّ الوحيد بالمنع بشكل عام دون التعرض للمناطق الخلافية بعمل فني مقابل؟

احتجاج استعراضي

الشاعر المغربي صلاح بوسريف، رئيس اتحاد كتّاب المغرب السابق، يرى أنّ هذا النوع من المنع أو الاحتجاج المرتبط بالدين هو استعراضي في أساسه: "أن نقول إننا هنا ولن نقبل بأيّ تأويل أو قراءة أو أيّ عمل فني يمكن أن يكون الدين أو تاريخ الإسلام موضوعه أو الأساس الذي يقوم عليه، خصوصاً حين تكون هذه القراءة مختلفة للروايات ولما يعرفه التاريخ الإسلامي من وقائع وأحداث هي طبعاً وقائع وأحداث ليست راسخة أو ثابتة، إلا عند من رسخوها واعتبروها ثابتة؛ لأنّ هناك اختلافات كثيرة وهناك ثغرات وهناك صمت عن كثير من الأمور التي نقرأها في مصادر هذا التاريخ أو غير مصادره من كتابات ومرويات أخرى"

يوضح صلاح بوسريف، في تصريح لـ "حفريات": "هذا النوع الاستعراضي في المنع وفرض الرقابة على الأعمال الفنية هو لا يقصد فقط هذا الفيلم بل يقصد كلّ عمل يمكن أن يتم التفكير فيه مستقبلاً، سواء كان فيلماً أو رسماً كاريكاتورياً أو كتاباً أو مسرحية أو شعراً أو أيّ شيء يتعلق بثقافة وبالفنّ عموماً".

بوسريف: هذا النوع من المنع أو الاحتجاج المرتبط بالدين هو استعراضي في أساسه

يضيف بوسريف: "شخصياً، أرى أنّه في زمن هذا الانفتاح الإعلامي الكبير الذي أصبح العالم فيه ليس فقط قرية صغيرة؛ بل هو رهن أكفّنا وأبصارنا لا يمكن أبداً أن نصادر أيّ كتاب أو أيّ فيلم، بل على العكس، نحن نقوم بالدعاية لهذا الفيلم الذي سيقبل عليه عدد هائل من الناس من غير المسلمين وأيضاً المسلمين معهم".

يرى بوسريف؛ أنّ هذا النوع من الرقابة هو دعاية مجانية: "اليوم لا شيء أصبح ممنوعاً، ومن المفترض أنه لدينا مصدر الفتاوى، وإن احتجّوا أو عارضوا كان عليهم أن يتدخلوا في مناقشة القضايا والأفكار والأطروحة الموجودة في هذا الفيلم من زاوية تاريخية ودينية، وأن يحاججوا الفيلم بالعقل والوثائق والمستندات والمعطيات التاريخية لإضاءته".

ويردف: "دائماً ما نجد في كلّ فيلم أو كتاب يكون في هذا السياق الذي يثير التوترات أو الاحتجاجات لا نجد مطلقاً من يناقشه انطلاقاً من المعطيات التاريخية الحقيقية".

يشير بوسريف إلى أنّ الجميع يعرف أنّه لا يوجد تاريخ كامل وخالٍ من الشوائب، ومن الاعتراضات ومن تدخلات ومن أعمال الحذف والقصف والصمت ومن الإضافة والتزيد ومن الخرافة أيضاً: "خصوصاً ما يتعلق بالدين؛ فحين نقرأ المصادر الأساسية للتاريخ العربي الإسلامي بداية من ظهور الإسلام لليوم سنجد أنّ كثيراً من هذه الكتب حين نقرأها فإنّ العقل لا يطيعنا أبداً في تصديق الكثير من الأشياء التي لا تبدو لنا معقولة، لا بدّ من أن نثبت معقولية العقل في القراءة ومعقولية العقل في أن ينبذ الخيال من التاريخ؛ لأنّ التاريخ ليس خيالاً، ليس خرافةً، ليس أسطورةً، ليس أشياءً تضاف إلى شخص أو جماعة معينة، مهما كانت مكانتهم في الدين أو في غير الدين؛ لأنّ هؤلاء بشر".

الإبداع الفني والحرية

الناقد السينمائي مصطفى الطالب يؤكد أنّه لا يختلف اثنان على كون الإبداع الفني أو السينمائي لا يتحقق ولا يتنفس إلا في ظلّ الحرية، مضيفاً: "المبدع الحقيقي لا يمكن أن يحقق ذاته إلا عندما يحسّ بحريته وأنّه بإمكانه التطرق لكلّ المواضيع التي تهمّ الإنسان والمجتمع، بالتالي، لا بدّ من أن تكون الحرية مكفولة له، دستورياً وقانونياً".

الناقد السينمائي المغربي مصطفى الطالب لـ"ـحفريات" المبدع الحقيقي لا يمكن أن يحقق ذاته إلا عندما يحسّ بحريته وأنّه بإمكانه التطرق لكلّ المواضيع التي تهمّ الإنسان والمجتمع

يستدرك مصطفى الطالب، في تصريح لـ "حفريات": "لكن في المقابل هذه الحرية تكون مسؤولة تأخذ بعين الاعتبار المحيط الاجتماعي والثقافي والروحي الذي انبثق منه ذلك الإبداع، بعيداً عن الاستفزاز المجاني، ذلك أنّ الحرية المطلقة لا وجود لها كما عبّر عن ذلك جون بول سارتر، فيلسوف الوجودية، وإنما هي حرية مسؤولية والتزام، بالتالي، المبدع أو الفنان، كما كتب ألبير كامو، يوجد بين الحرية والوعي بها وبالمسؤولية، أو بتعبير الأديب عبد الفتاح كيليطو، منزلة بين المنزلتين". 

يرى الطالب أنّ الملاحظ في عالمنا العربي أحياناً تعارض الإبداع الفني أو السينمائي مع أمرين اثنين، لا ثالث لهما؛ الدين والسياسة: "هنا تتدخل الرقابة لأنّ العمل الفني إما يتطرق لبعض المقدسات الدينية التي تمسّ وجدان المجتمعات العربية الإسلامية (طبعاً لا أتحدّث عن الإنتاجات الفنية التجارية وإنّما عن الأعمال الفنية الجادة)، أو يتعرض للحاكم، وهنا تتدخل السلطة لغياب الديمقراطية ببلداننا العربية".

يضيف الطالب: "لا بدّ من التذكير بأنّ لكلّ وطن عربي قوانينه الخاصة بالإنتاجات السينمائية والدرامية، فمثلاً عندنا في المغرب لتقديم مشروع سينمائي (سيناريو، إنتاج وإخراج) لا بدّ من أن يمرّ عبر لجنة الدعم السينمائي التي تدرس الملفّ سينمائياً وفنياً ومادياً، طبعاً لا تقوم بدور الرقابة، لكن تحرص على أنّ العمل لا يتعارض مع قانون الإنتاج السينمائي المغربي، ولا يتعارض مع ثوابت المغرب الدستورية والدينية. فإذاً لن تجد فيلماً مغربياً يتعارض مع هذه الثوابت، إلا نادراً، في حالة المشاهد الجنسية، حيث تم منع فيلم مغربي، لكنّ الفيلم شوهد عبر الإنترنت".

الطالب: لا بدّ من التذكير بأنّ لكلّ وطن عربي قوانينه الخاصة بالإنتاجات السينمائية والدرامية

يستكمل الطالب: "أما في حالة فيلم أجنبي؛ فالدولة كذلك تتدخل إذا كان يتعارض مع ثوابتها، هذا في حال طلبت شركة الإنتاج الأجنبية عرض الفيلم في تلك الدولة، مثل الذي وقع سابقاً مع فيلم "آلهة وملوك"، لريدلي سكوت، حيث حُذف مشهد يمسّ بالذات الإلهية بطلب من المركز السينمائي، وقد تفهمت الشركة ذلك. لكن إذا لم تطلب شركة الإنتاج عرض الفيلم في ذلك البلد (مثل فيلم "سيدة من الجنة")، فمسألة المنع غير مطروحة".

وينوّه الطالب: "في اعتقادي، ومن وجهة نظر نقدية موضوعية، حتى وإن كان عالمنا اليوم مفتوحاً، فإنّ لأيّ دولة الحق أن تعبّر عن موقفها وقرارها نحو أيّ عمل سينمائي، خاصّة إذا كان يمسّ المقدسات الدينية، أو يزيّف حقائق تاريخية، أو يشوّه صورة الدولة نفسها، وهذا له مشروعيته حتى في الدول الغربية. فالمسألة لها رمزيتها أكثر من أيّ شيء آخر".

ويستدرك: "كما لا ننسى أنّ أيّ عمل فني هو كذلك تعبير عن موقف، ثم عن رؤية للوجود، ولموضوع معين، لكن تظلّ معالجة الموضوع هي الأساس: هل تتّسم بالعمق والمصداقية؟ هل تطرح تساؤلات استفزازية إيجابية أم استفزازية مجانية؟ لأنّه على قدر أهمية العمل وعمقه يأتي النقد والنقاش".

ويرى الطالب أنّه إذا ظهر عمل سينمائي للوجود؛ فإنّ أنسب طريقة للتعامل معه هو التقييم (على جميع المستويات) والنقد الموضوعي وتفنيد أطروحته، خاصة إذا كان فيلم بروباغندا، أو فيلم يطرح قيماً سلبية ولا إنسانية"، متسائلاً: "لماذا لا يتم الرد عليه بفيلم آخر؟".

مواضيع ذات صلة:

جدل مسلسل "فتح الأندلس" يصل إلى القضاء والبرلمان المغربي.. ما القصة؟

فيلم "صالون هدى" يثير جدلاً واسعاً في فلسطين ومطالبات بمقاطعته

فيلم "أميرة" يثير جدلاً واسعاً ومطالبات بمنعه.. ما القصة؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية