سيد قطب وفلسطين ... محاولة للفهم

سيد قطب وفلسطين ... محاولة للفهم

سيد قطب وفلسطين ... محاولة للفهم


21/11/2023

ما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، عام 1945، حتى أخذت شمس الاستعمار الغربي طريقها نحو المغيب، في ظلّ صعود حركات التحرر الوطني، التي عَبّرت عن وجودها بأشكال متعددة من النضال المسلح، الذي اجتاح العالم الثالث آنذاك، لتجمع وحدة المعركة بين شعوبه على اختلافها، من فيتنام إلى كوبا، ومن الجزائر إلى الكونغو، ويظهر مصطلح المقاتل الأممي، تعبيراً عن نموذج من المناضلين الذين انغمسوا في القتال ضدّ الاستعمار، في أحراش أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، بغض النظر عن عرق أو لون أو دين، وهو المثال الذي جسد تشي جيفارا ورفاقه ذروة انفجاره في التاريخ.

في أواخر القرن 19 حاولت الصهيونية اللحاق بعصر القوميات الأوروبي ولما فشلت قررت ركوب الموجة الأخير من موجات الاستعمار

من قبل، وفي أواخر القرن التاسع عشر، حاولت الصهيونية اللحاق بعصر القوميات الأوروبي، ولما فشلت في تقديم الشروط الموضوعيّة لتحقّق القومية، قررت ركوب الموجة الأخيرة من موجات الاستعمار، في البداية وضعت الصهيونية نفسها في خدمة الإمبريالية البريطانية، وهو ما تجسد في محاولة تكوين الفيلق اليهودي للقتال إلى جوار الحلفاء في الحرب العظمى الأولى، ثم تكوين اللواء اليهودي الذي حارب على هامش المعارك الكبرى في أوروبا ضد النازية، في أواخر الحرب العظمى الثانية، بعد أن قررت الصهيونية توظيف المقولات الدينية/ التوراتية لحسابها بشكل حصري، وممارسة أبشع أشكال الاستيطان الإحلالي باسم الدين، وهو الأمر الذي يصنفها كواحدة من أبرز حركات الاستعمار في العصر الحديث.

الإخوان المسلمون وحرب فلسطين

عام 1948؛ خرجت الجيوش العربية في محاولة أخيرة لإنقاذ فلسطين؛ وقد سبقتها كتائب من المتطوعين الذين انضموا إلى جيش الإنقاذ، لكنّ محاولة اللحظة الأخيرة لم تكن لتؤتي ثمارها، في ظل نجاح الكيان الصهيوني، وجناحه العسكري (الهاغاناه)، في التمفصل في كلّ المراكز الإستراتيجية الحساسة، إضافة إلى التغييرات الديموغرافية الحادة التي أحدثتها الهجرات اليهودية المتزايدة، وعجز سلطات الانتداب عن حماية الفلسطينيين، أو حتى حماية نفسها من الإرهاب الصهيوني الذي طال القوات البريطانية، ومقار الإدارات المحلية، وكان تفجير فندق الملك داود، مقر الحكم في القدس، من قبل العصابات الصهيونية رسالة واضحة للجميع، بأنّ كياناً مسلحاً وإرهابيّاً خرج عن السيطرة.

يرفض سيد قطب بشكل قطعي عروبية المعركة في مواجهة الصهيونية؛ حيث يصرّ على ردّ الصراع إلى جذور تاريخية بعيدة

تفاعل الإخوان المسلمون مع قضية فلسطين انطلاقاً من مفهوم الجهاد الديني، لا النضال الوطني، والجهاد هنا يقوم على أساس مقدس، تحت إلحاح ضرورات دينية، نَظّر لها حسن البنا، حين أكّد صراحة، في "الرسائل" في "رسالة الجهاد": "وجوب قتال أهل الكتاب، وأنّ الله يضاعف أجر من قاتلهم، فليس الجهاد للمشركين فقط، ولكنه لكل من لم يُسلم"، وذلك على حدّ تعبيره.

من هنا كانت قضية فلسطين فرصة لأسلمة معركة التحرر، ففلسطين المجاهدة، بحسب تعبير البنا، هي أرض الإسلام ومهد الأنبياء ومقر المسجد الأقصى، ليس إلا، داعياً إلى الجهاد الإسلامي، ليُخرج المسيحيين من أهلها، من معادلة الكفاح ضد الصهيونية، والذين تجرعوا، كغيرهم من أبناء الأرض المحتلة، مرارة الاحتلال واللجوء، ونالوا كذلك بنضالهم شرف المقاومة والصمود، بل إنّ مجموعة ليست بالقليلة من يهود القدس، أطلقوا على أنفسهم "ناطورى كارتا" (حراس المدينة)، رفضوا الانصياع للصهيونيّة، وأيدوا المقاومة العربية منذ عام 1935. 

سيد قطب والمتاجرة بالقضية

في بداية الخمسينيات؛ نشرت مجلة الدعوة سلسلة من المقالات لسيد قطب، حمل أحدها عنوان "معركتنا مع اليهود"، وهو العنوان نفسه الذي حمله كتاب صغير ضمّ مجموعة المقالات تلك، ونشر فيما بعد.

اقرأ أيضاً: مواطنون وقادة فلسطينيون بعد فوز نتنياهو: لا سلام بعد اليوم

في البداية؛ يرفض سيد قطب بشكل قطعي عروبية المعركة في مواجهة الصهيونية؛ حيث يصرّ على ردّ الصراع إلى جذور تاريخيّة بعيدة، تعود إلى عصر النبوة إبان النزاع بين النبي محمد، صلى الله عليه وسلّم، ويهود يثرب، عقب غزوة الأحزاب، مؤكداً أنّها معركة دينية في الأساس بين الإسلام واليهودية، حيث يقول: "إنّ المعركة بين الأمة المسلمة وبين أعدائها هي قبل كلّ شيء معركة هذه العقيدة"، ملمحاً إلى دخول المسيحية على خط ّالمواجهة؛ حيث يقول في حديثه عن "خطة التدبيس والدسّ"، على حدّ تعبيره: "اليهود بدؤوا منذ اللحظة الأولى، ثم تابعهم الصليبيون"، ويمدّ قطب خط المؤامرة على استقامته، متأثراً، ربما، بذيوع الحديث عن بروتوكولات حكماء صهيون، والتي ظهرت في طبعتها العربية، للمرة الأولى، عام 1946، حين يقول: إنّ "اليهود دسّوا رجالاً وزعامات للكيد لهذه الأمة، فالمئات والألوف كانوا دسيسة في العالم الإسلامي، وما يزالون في صورة مستشرقين وتلاميذ مستشرقين، الذين يشغلون مناصب الحياة الفكرية اليوم، في البلاد التي يقول أهلها إنّهم مسلمون"، وعليه فإنّ كل ما يجري، إنّما هو جزء من مؤامرة كونيّة تعدها قوى يحركها اليهود، وتمتلك هذه القوى، على حدّ تعبيره، "جيشاً جراراً من العملاء، في صورة أساتذة وفلاسفة ودكاترة وباحثين، وأحياناً شعراء وفنانين وصحفيين يحملون أسماء المسلمين، وبعضهم من علماء المسلمين، هذا الجيش الجرار موجه لخلخلة العقيدة في النفوس، بشتى الأساليب، في صورة بحث وعلم وأدب وفنّ وصحافة". هنا، يستثمر سيد قطب قضية فلسطين، لا لتجييش الناس خلف مشروع الإخوان السياسي فحسب، وإنما لتخوين كلّ من يخالف أيديولوجيا القهر والتغييب، فيحمل وهو يفصح في فجاجة عن أفكاره المعادية للفنون والإبداع، على كلّ مفكّر ومبدع وفنان يخرج عن الجماعة.

يستثمر قطب قضية فلسطين لا لتجييش الناس خلف مشروع الإخوان السياسي فحسب وإنما لتخوين كلّ من يخالف أيديولوجيا القهر

يقتطع سيد قطب الآيات القرآنية الكريمة من سياقها التاريخي، ويسقط على كلّ يهود العالم صفات من تآمروا من يهود يثرب؛ بل ويمارس في منهج دائري نفس ألاعيب الصهيونية ومغالطاتها، ليصل في نهاية الأمر إلى توصيف، لا يختلف في طبيعته عن طروحات المتعصب الديني، يؤكد فيه؛ أنّ "اليهود فرع مقطوع من شجرة الحياة، ويتربصون بالبشرية الدوائر، ويكنون للناس الأحقاد، فتناً يوقدونها بين بعض الشعوب وبعض، وحروباً يثيرونها ليجروا من ورائها الغنائم"، متجاهلا أنّ بعض اليهود في الدولة الإسلامية أثمرت جهودهم ذات يوم علماء وفلاسفة اندمجوا في محيط الحضارة الإسلامية، ونشطوا في مجالها التداولي بحرية تامة، من أمثال: موسى بن ميمون، ويعقوب القرقيزي، وسليمان بن غابيرول، وابن عقنين، وإسحاق الإسرائيلي، وغيرهم، وأنّ من بين اليهود غير الصهاينة علماء ومفكرين من أمثال إسبينوزا، وأينشتاين، وكافكا، وغيرهم، ومتناسياً فوق هذا وذاك أنّ الإنسانية لا تتجزأ، وأنّه لا أحد يحتكر الحديث باسمها دون غيره.

اقرأ أيضاً: الانقسام وصفقة القرن ليسا قدراً على الشعب الفلسطيني

يمضي سيد قطب في سردية متواصلة فيقول: "وهم اليوم يُؤثرون الشيوعية، أي صلة أخرى فاسدة على هذا الدين، بل إنّهم ينشئون هذه المذاهب الإلحادية إنشاء لمحاربة الإسلام"، وربما أدت شحنة الانفعال والرغبة في إلحاق كلّ الخطايا باليهود إلى ذلك الخلط، وهو ما جعله عاجزاً عن قراءة المشهد الدولي العام إبان الحرب الباردة، حين انخرطت الصهيونية، التي باتت رأس حربة للإمبريالية الأمريكية، في النزاع بين القطبين، وهو ما أدّى إلى تهديد الاتحاد السوفيتي (الشيوعي) الصارم، بإزالة إسرائيل من الوجود أثناء حرب السويس، عام 1956.

اقرأ أيضاً: فلسطين عرفت دور السينما منذ مئة عام وأنتجت أفلاماً رغم المآسي

لا شكّ في أنّ جرائم الصهيونية تجاه الشعوب العربية فاقت كلّ التوقعات، لكن تحويل المعركة معها إلى حرب دينية فقط، أمر أضرّ كثيراً بالقضية، ذلك أنّه يحمل قدراً من تجاهل نضال الكثيرين من غير المسلمين، بداية من المتطوعين الأوروبيين، من يوغسلافيا وألمانيا الشرقية وغيرها، الذين قاتلوا في صفوف جيش الإنقاذ، عام 1948، وصولاً إلى كتائب المقاومين والفدائيين المسيحيين العرب، الذين ناضلوا بدافع الإيمان بقضية الوطن المحتل، وكذلك اليهود الرافضين لمساعي وخطط الصهيونية، ومن بينهم: الحاخام يسرول دوفيد ويس، الذي يقول: "يستغل الصهاينة مسألة الهولوكوست لتحقيق أهدافهم، نحن اليهود الذين قُتلنا في المحرقة يجب أن لا نستغلها لتحقيق مآربنا، ما نريده ليس فقط الانسحاب إلى حدود 67؛ بل عودة الدولة كاملة إلى حكم الفلسطينيين).



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية