كيف مثّلت أهم 5 ثورات في التاريخ فكرة الحرية؟

الثورات

كيف مثّلت أهم 5 ثورات في التاريخ فكرة الحرية؟


28/10/2019

لم يعد القرن الواحد والعشرون يستمد أحداثه الكبرى من أحداث أخرى سبقته في التاريخ؛ بل يوصف بأنّه قرن موت الأوهام، وحتى ما كان منها حقيقياً في السابق، فهو لم يعد قابلاً للتكرار، وفق المقولة الشهيرة بأنّ "التاريخ يعيد نفسه".

اقرأ أيضاً: موجة ثانية من الثورات العربية
ولعلّ أهم حدث يمكن إلقاء الضوء عليه بهذا الشأن، يكمن في فكرة الثورة، التي، رغم ما طرأ على العالم من تغيير، فإنّها لم تفقد جاذبيتها اليوم، وما تزال قابلةً للإحياء، مثلما حدث في ثورات "الربيع العربي"، عام 2010، وطالما بقي هنالك ظلم أو قمع أو انعدامٌ للعدالة الاجتماعية، تبقى فكرة الثورة لامعة ومغرية، لكن، وعبر التاريخ، إلى أيّ حدٍّ طبقت الثورات ما نادت من أجله وما دفع الناس لتحقيقه أغلى الأثمان؟ حتى تتحقق اليوم.
هنا نماذج تمثل أغلب أنماط الثورات في التاريخ:

 

 

الثورة من أجل الأرض

يعود تاريخ الإنسان العاقل إلى ما يزيد على 200 ألفِ عام، تشكّل فيها وعيه، ومن ثم مشاعره، وأوهامه ومخاوفه، إلى أن انتظم في مجتمع، ليشارك أوهامه ومخاوفه مع الآخرين، وشكلت الحضارة الفرعونية في وقت من التاريخ، واحدة من أهم الحضارات التي أصبح لها دين ومجتمع ونظام حكم وثقافة؛ لذلك حدثت أولى الثورات عبر التاريخ تقريباً، في 2280 قبل الميلاد؛ حيث كان الملك الفرعوني، بيبي، قد حكم لما يقرب من 94 عاماً، تدهورت خلالها الأحوال الاقتصادية للفراعنة، وتعرضوا للغزو الخارجي، بينما أخذ اقتصادهم إلى الفشل، ولم يكونوا يملكون حقوقاً متساوية أو ظروف عيشٍ جيدة في حياتهم، كما كانت سلطات الخلود والحياة بعد الموت ممنوعةً عن عامة الناس وفق العقيدة الرسمية، وممنوحةً للملك وحاشيته فقط.

ثورة كرومويل لم تشرك الشعب بالحكم بل قوّضت حكم الملكية وحوّلته إلى دكتاتورية عسكرية سفكت الدماء ثم انهارت

ولهذه الأسباب؛ انطلقت مجموعةٌ من المصريين القدماء ليقودوا تمرداً على بيبي، سرعان ما تحوّل إلى ثورةٍ اتخذت من المعابد مكاناً لها، مطالبةً بإسقاط سلطة الملك عن السماء، ومنحها لعامة الناس، حتى يتساووا في حقوقهم بعد الموت، كما طالبت بعدم منح الأرض للأغنياء والحكام فقط، وأصبح شعار الثورة الذي بقي موثقاً على إحدى الألواح الفرعونية القديمة: هو "الأرض لمن زرعها... والحرفة لمن احترفها... وليس للسماء وصاية على الأرض"، لكنّ هذه الثورة وُوجهت بالرفض بعد تحقيقها نجاحاً نسبياً، وانتهت إلى تحول الثوار إلى ما سمي (الرعاع)، وانتشرت أعمال القتل ونهب المتاجر والبيوت، واستمر العنف لأعوام، إلى أن عاد نظام الحكم الفرعوني ليحكم بقوة، بعد إجرائه بعض التعديلات الدينية فقط.

الفراعنة: أول من ثاروا لأجل الأرض بحسب التاريخ

الثورة ضدّ العائلة
بعد أن استمدت العائلة قوتها، كونها النواة الأساسية في تكوين المجتمع، تميزت فكرة العائلة الحاكمة عن سواها، كونها تمنح سلطةً إلهية مطلقة لمجموعة من الأفراد، حتى يتوارثوا الحكم فيما بينهم، دون غيرهم من العائلات، وكانت أول ثورةٍ حدثت ضدّ هذه الفكرة بصورةٍ معلنة وعنيفة، هي ثورة أوليفر كرومويل في بريطانيا، ضدّ حكم الملك تشارلز الأول.

الثورة الفرنسية نصبت روبسبيير قائداً لها فاستبدّ بالحكم وأصبحت الحرية بالنسبة له لا تمرّ إلا من خلال إرهاب الناس لاعتناقها

كان كرومويل برلمانياً وقائداً عسكرياً في آنٍ واحد، رغب في تقليص سلطات الملكية البريطانية ليصبح الحكم والقوانين والقرارات السياسية والاقتصادية مشتركة بين البرلمان والنظام؛ أي إنّه أراد نوعاً من النخبوية الحاكمة المستقلة برأيها عن حكم الملكية، هكذا كانت الثورة في نظره، وقد استغل ذلك، وكوّن جيشاً برلمانياً خاصاً، أدّى إلى نشوب حربٍ أهلية، عام 1649م، نجح كرومويل بعدها في عزل الملك، لكنّه لم يتطلع إلى ما هو أبعد من ذلك، ولم يقدم على إشراك الشعب في الحكم بطريقةٍ أو بأخرى؛ بل نسبت له عدة مذابح في قرى إنجليزية، منذ عام 1651م، لرفض أهلها الانصياع للنظام الجديد الذي حاول كرومويل فرضه، وقد وصف كرومويل بالديكتاتور مراراً من قبل بعض المؤرخين، وبالبطل الثوري أحياناً، رغم أنّه لم يكن بطلاً شعبياً، بل بطل للجيش والبرلمان.
ولم يكد كرومويل يموت، عام 1659م، حتى عادت الملكية إلى بريطانيا، وذلك لأنّ كرومويل خان مقولاته الشهيرة التي قام بالثورة لأجلها فشعارات "حفظ أرواح الناس، وإيقاف الحرب الأهلية والموت، ومنح الناس الأمان" جميعها لم تتحقق.

ثورة كرومويل وعدت بالأمان لكنّها أراقت كثيراً من الدماء

الثورة من أجل الحرية
بعد الثورة من أجل الاقتصاد وتوزيع الأرض وتقاسم الحكم، ومع ازدياد الوعي البشري، وتراكم فهم الإنسان لذاته وقدراته وحقوقه، قامت، عام 1789م، الثورة الفرنسية، التي تعدّ أم الثورات في العصور الحديثة، وذلك لأنّها قامت من أجل الفرد وكرامته وحريته، وحقه في المساواة والفرص على صعيد المشاركة في الحكم والاقتصاد والمجتمع، وقد استمرت الثورة الفرنسية عشرة أعوام، انتهت فيها الملكية، ممثلة بلويس السادس عشر، وتمّ إغلاق السجون، وأصبح حقّ التعبير خلالها مكفولاً لأيّ مواطن فرنسي، مهما كان عمله أو أصله أو صفته، كما تمّ إلغاء نظام استثناء الأغنياء والمتنفذين من دفع الضرائب، وقد اشتهر المحاميان؛ دانتون وروبسبيير، بوصفهما قائدَين للثورة.

كاكو: الثورة الوحيدة المستمرة حتى اليوم ثورة الوعي والعقل التي يمكن أن تخلّص البشرية من القمع ومن الموت لأجل الحرية

بعد ذلك، أخذت المقولة الشهيرة "الثورة تأكل أبناءها"، تنطبق على الفرنسيين؛ حيث قام روبسبيير بالاستيلاء على السلطة، وإعدام عددٍ كبير من أصدقائه الذين صنعوا معه (فرنسا الجديدة)، ولم تتوقف الأمور عند هذا الحدّ؛ بل تمخّض حقّ التعبير عن مساحةٍ كبيرة من عدم المسؤولية، فأصبح من السهل اتهام أيّ معارض بالخيانة والرجعية، لتكون المقصلة بانتظاره بكلّ بساطة.
ومع اقتراب العام 1799م، تحوّلت "القيادة الثورية إلى جماعةٍ متسلطة، يحكمها روبسبيير على أساس أنّه الوحيد الذي يمكنه تطبيق قيم الحرية والديمقراطية التي نادى بها مع زملاء له، أصبحوا أمواتاً في معظمهم، ولم تنتهِ الحقبة الدموية التي غلبت طابع الثورة آنذاك، إلا بعد إعدام روبسبيير، باستخدام سلاحه نفسه، وهو حقّ التعبير، بعد ذلك عادت فرنسا إلى الحكم الملكي لفترة من الزمن، لتعود خلال القرن التاسع وتتحول إلى جمهورية، تعتمد كلّ قيم الثورة في دستورها، لكنّها تمارس كلّ الانتهاكات الممكنة بحقّ الآخرين، من خلال تحولها إلى دولةٍ استعمارية صريحة.

أهم ثورة من أجل الحرية أوجدت المقصلة وأعدمت كلّ قادتها

الأيديولوجيا سيدة الثورة
بعد مرور ما يقارب القرن على الثورة الفرنسية، كانت روسيا، الإمبراطورية الغارقة في السلطة الأبوية، تعاني اضطرابات متتالية؛ اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، وكان الوعي الذي ساعد على انتشاره تطور الطباعة وزيادة الكتب وانتشار القراءة بين الناس، تنتج عنه عدة عمليات تمرد متباعدة، تتحدث عن أفكار تعد عظيمة للفقراء والمقموعين والحالمين بالتطور والمستقبل، أهمها الاشتراكية الاقتصادية، التي أخذت تتطور كذلك إلى أيديولوجيا سياسية في مواجهة رأسمالية العالم المتفشية.

اقرأ أيضاً: الثورات العربية بعين المؤرخ الأمريكي خوان كول
وقد غذّت أفكار الثورة الفرنسية نيران الثورة الروسية التي أخذت بالاشتعال بداية القرن العشرين، كما أنّ أفكار كارل ماركس التي تمّ اختصارها بالشيوعية، تم تبنّيها بقوةٍ من قبل أبطال الثورة البلشفية، من أمثال: بليخانوف، ولينين، وتروتسكي، وستالين.
وقد قامت الشيوعية الروسية على نوع صارمٍ من المساواة في الحكم والحقوق المعطاة للأفراد بكل أنواعها، وقامت بدورها بإقصاء الإمبراطور رومانوف عن الحكم، وتميّزت مرحلة الثلاثينيات من القرن الماضي، بصعود الشيوعية التي وصفت بالأيديولوجيا التي سوف تخلص البشر من شرور الطبقية والرأسمالية والفقر واللامساواة.

اقرأ أيضاً: الثورات الكاذبة.. الخميني نموذجاً
لكنّ السجلات التي أصبحت متاحة اليوم في روسيا، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1990، وغيرها من الشهادات والوثائق، تتحدث عن مثالية الأيديولوجيا الاشتراكية الشيوعية، ونبلها، كفكرة خانها أصحابها؛ إذ أجبروا الناس على اعتناقها، وتجاوزوا فكرة أنّه لا يمكن للناس أن يتساووا في كلّ شيء، وقد مثلت حقبة حكم ستالين للاتحاد السوفييتي، 1926-1953، سقوط كلّ القيم الثورية لأجل حكومة دكتاتورية لها قائد واحد لا يمكن عصيانه، أعدم العديد من رفاقه في الثورة، وتسبّب في مقتل مئات الآلاف من المواطنين الروس؛ بسبب إجبارهم على التحوّل من الزراعة للتركيز على الصناعة، إضافة إلى أنّه ظلّ مهووساً بفكرة أعداء الثورة، التي تسبّبت بإعدام الكثير من المعارضين الروس خلال حكمه بالذات.
وفي النهاية، ورغم تطور الاتحاد السوفييتي لاحقاً، من النواحي العسكرية والاقتصادية عموماً، إلا أنّه، وحتى بعد انهياره، ظلّ يوصف بأنّه لا يتّسم بالديمقراطية، وأنّ الإرث الوحيد الذي خلفته الأيديولوجيا يتمثل اليوم بالبيروقراطية وقمع المعارضة، والقبض على السلطةِ بإحكام.

شعب روسيا ثار من أجل المساواة لكنّه عانى طويلاً من الفقر والموت

"ربيع في الرماد"

كلّ ما سبق من تراكمات سياسية وثورية مثلت رحلة بحث البشر عن الحرية عبر التاريخ، يمكن اختصارها اليوم بالنموذج الأحدث، المتمثل بما سمي عام 2010 "الربيع العربي"؛ حيث قامت الشعوب منذ ذلك الحين في العديد من الدول العربية بالثورة على أنظمة الحكم فيها، وطالبت بالحرية والكرامة، وإنهاء القمع، وتوفير العيش الكريم، وفرص التقدم الحضاري، ولعلّ مثالاً أساسياً واحداً يكفي، متمثلاً في سوريا، الدولة العربية العريقة والعظيمة عبر التاريخ، التي تحوّلت فيها الثورة، بمجرد حلول عام 2012، إلى ما يشبه حرباً أهلية وطائفية؛ بسبب تعنّت النظام السوري فيها، وعدّه الثورة مؤامرة ضدّ عروبته وقوميته وإيمانه بقضية فلسطين.

اقرأ أيضاً: "تاريخ الفلسفة الحديثة" يؤرّخ لثورات العقل البشري
وعلى هذا الأساس؛ سال الدم في سوريا، وقتل مئات الآلاف فيها، ودُمّرت معظم مدنها الأساسية، وهُجِّر الملايين منها إلى مختلف أنحاء العالم، ودون الخوض في التفاصيل المعقدة للإرهاب والعنف المتبادلين من جميع الأطراف؛ فإنّ دول العالم الحديث التي تصرح على الملأ بأنّها بنت أنظمتها ودساتيرها وقوانينها الدولية على أسس حقوق الإنسان والحفاظ على حياته، أقلقها غالباً أن تنجح ثورة ما في مكانٍ من العالم، الذي تحوّل إلى قريةٍ صغيرة تتأثّر ببعضها بكلّ بساطة، مما نتج عنه أنّ سوريا دُمِّرت، ولم تتغير سياسات نظامها بشكلٍ فعّال إثر الثورة حتى اليوم.

اقرأ أيضاً: الثورات ليست جريمة والثوار ليسوا مجرمين
وبصورةٍ عامة؛ يرى ميشيو كاكو، في كتابه "المستقبل البشري"؛ أنّ "الثورة الحقيقية الأولى والمستمرة حتى اليوم، هي ثورة الوعي والعقل"، وأنّ الإنسان، بغضّ النظر عن فشل ثوراته أو نجاحها، وعن أخطائه التي حوّلت الحرية إلى دم أحياناً، والمساواة إلى محاكماتٍ صورية؛ فإنّه مستمر في مراكمة وعيه الإنساني، حتى يصل إلى معرفة أوسع، تنهي معظم صراعاته المادية العنيفة، وتحيله إلى نوعٍ من الحياة لا حاجة فيها إلى العنف والدكتاتورية، بالتالي الثورة.

آلم ربيع سوريا العالم كلّه وصار طريقه الوحيد للحريةِ رماداً


المصادر:
كتاب "الثورة الفرنسية": تأليف ويليام دويل
كتاب "متى يطلع الفجر يا رفيق": تأليف جان أوليفييه
كتاب "تاريخ الفراعنة وعقيدة الخلود": تأليف سيد القمني
وثائقي رجال خالدون: أوليفر كرومويل، تمّ بثّ الوثائقي عام 2011.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية