لماذا يبدو موقف السودان من سدّ النهضة "منزلة بين المنزلتين"؟

لماذا يبدو موقف السودان من سدّ النهضة "منزلة بين المنزلتين"؟


30/07/2020

رغم أنّ هناك مخاطر محتملة من تشييد سد النهضة الإثيوبي على تخوم السودان، إلاّ أنّ الموقف الرسمي السوداني ظل مسانداً لأثيوبيا طيلة حقبة الرئيس المعزول عمر البشير. وبعد إطاحته وتولي قوى إعلان الحرية والتغيير والمؤسسة العسكرية إدارة المرحلة الانتقالية، طرأت تغييرات واضحة وإن كانت طفيفة على الموقف السوداني من سد النهضة، ما جعل موازين التفاوض لا ترجح في كل الأحوال الموقف الإثيوبي، بل تدعم المصري أحياناً، كما في حالة إرسال وزارة الري السودانية مذكرة إلى مجلس الأمن ترفض فيها اتخاذ خطوات أحادية بشأن السد.

اقرأ أيضاً: هل تملك مصر خيارات مائية لمواجهة آثار سد النهضة؟

فهل يعني هذا التغير الجزئي في الموقف السوداني، اقترابه من الموقف المصري، أم وضعه وسطاً بينه وبين الإثيوبي، ما يعني منزلة بين الموقفين؟

وسيط أم شريك؟

يقارن خبير المياه السوداني السر عبد النبي موقف مصر الواضح والمُعلن وكذلك موقف إثيوبيا، حيث تبدو السودان أشبه بالوسيط.

الموقف الرسمي السوداني ظل مسانداً لإثيوبيا طيلة حقبة الرئيس المعزول عمر البشير

 يقول عبد النبي لـ"حفريات": ظلت مصر شديدة التوجس من بناء السد، بحجة إنّه سيفضي إلى عطش الشعب المصري، وجفاف أراضيه الزراعية، وكان السودان، إبان عهد الرئيس المعزول عمر البشير، يتّخذ موقفاً مؤيداً لإثيوبيا في معظم الأحوال، إلّا أنّ تغييراً طرأ على موقفه، بعد أن أُطيح بحكومة البشير، جعله يبتعد نسبياً عن إثيوبيا، ولا يقترب بالقدر الكافي من مصر، ما جعل مراقبين كُثراً يطلقون على موقفه الجديد "منزلة بين المنزلتين"، ويتساءلون؛ هل السودان شريك في المفاوضات بين إثيوبيا ومصر، أم وسيط؟

موت الحقيقة

السرّ عبد النبي، أبلغ "حفريات": "السودان ينظر إلى مصالحه الوطنية في المقام الأول، ثُم ينظر إلى مصلحتَي إثيوبيا ومصر بالمقدار ذاته، لا يفضّل إحداهما على الأخرى؛ لذلك فإنّ ما يصدر عن السودان من تصريحات ومعلومات هو الأقرب إلى الحقيقة والصواب، مقارنة بما يتم تداوله في الإعلام المصري والإثيوبي؛ حيث تختلط الحقيقة الفنية المجردة بالسياسة والواقع بالخيال والعقلانية بالصراخ، ولربما يفضي ذلك كله إلى أزمة سياسية قد تؤدي إلى حرب مياه لاحقاً، فيما تطحن بروباغندا البلدين (مصر وإثيوبيا) الحقائق والوقائع دون شفقة أو رحمة. 

فيما ظلت مصر شديدة التوجس من بناء السدّ، بحجة أنّه سيفضي إلى عطش الشعب المصري وجفاف أراضيه الزراعية، كان السودان، إبان عهد البشير، يتخذ موقفاً مؤيداً لإثيوبيا

يواصل عبد النبي: أولى تلك الحقائق هي أنّ ذروة السعة التخزينية للمياه في سدّ النهضة، عند اكتمال بنائه، تبلغ 74 مليار متر مكعب من المياه؛ أي ما يُعادل أقل من 50% من السعة التخزينية لبحيرة السدّ العالي (162) مليار متر مكعب، ولن يؤثر على حصة مصر من المياه، في وجهة نظري، كذلك يبلغ عدد مولداته 16 مولداً، يُتوقع أن ينتج كلّ مولد 378 ميغاوات من الكهرباء، بإجمالي (6048) ميغاوات، بما يعادل ثلاثة أضعاف الطاقة المولدة من السدّ العالي، الذي يتضمن 12 مولداً فقط، وفي ذلك فائدة كبرى للبلدان الثلاث، خاصة السودان، الذي سيحصل على كهرباء رخيصة ونظيفة.

 السودان أعرب عن قلقه من قرار إثيوبيا عزمها المضي قُدماً في تعبئة بحيرة السد، باتفاق أو بدونه

ويشير عبد النبي إلى أنّه لا يرى أضراراً جوهرية، ولا غير جوهرية، قد تقع على السودان جراء بناء سدّ النهضة، بل العكس تماماً؛ حيث سينظم عملية توليد الطاقة الكهربائية لسدّ مروّي، ويجعلها أكثر ديمومة مما هي عليه الآن، إلى جانب تخفيفه كميات الطمي القادمة إلى سدَّي الروصيرص وسنار؛ ما يقلل تكلفة نظافتها وصيانتهما السنوية التي ينفق عليها السودان مليارات الجنيهات، تُضاف إلى فاتورة استهلاك الكهرباء، ممّن ظلّ يشكّل عبئاً إضافياً على المواطن الفقير، علاوة على حصول السودان على طاقة كهربائية رخيصة ودائمة، واستعادته حصته المائية التي تذهب شمالاً دون أن يستفيد منها، والتي تقول جميع التقديرات إنّها تبلغ حوالي 10 مليارات متر مكعب سنوياً، وكذلك يتيح السدّ للمزارعين على ضفاف النيل والنيل الأزرق، والدندر، والرهد، الزراعة ما بين ثلاث إلى أربع مرات سنوياً، الأمر الذي يحسّن دخولهم، ويعطيهم الخضروات والفاكهة بأسعار زهيدة للمستهلكين.  

اقرأ أيضاً: هل طلب آبي أحمد تدخل إريتريا في ملف سد النهضة؟

خبير المياه يواصل "من وجهة نظري؛ السودان يستفيد كثيراً من سدّ النهضة، لكن، حرصاً على مصالحه، ينبغي عليه أن يضع كافة الاحتمالات على الطاولة، وأولها ضمان سلامة تشغيل سدّ الروصيرص بعد الملء الأول لسد النهضة، وهذا ما يتفاوض عليه الآن مع إثيوبيا، لا أكثر ولا أقل!

انهيار وشيك

لكنّ السودان أعرب عن قلقه، بشكلٍ واضح وصريح، من قرار إثيوبيا عزمها المضي قُدماً في تعبئة بحيرة السد، باتفاق أو بدونه، وبعث مذكرة عبر خارجيته ومندوبه الدائم في الأمم المتحدة إلى مجلس الأمن تضمنت شرحاً تفصيلياً لموقفه ورؤيته حول المفاوضات المتعثرة، وحثّت المذكرة مجلس الأمن على منع أيٍّ من أطراف النزاع من اتخاذ إجراءات أحادية قد تؤثر في السلم والأمن الإقليمي والدولي، وطالبت المذكرة بضرورة استئناف المفاوضات عبر الاتحاد الأفريقي.

السِرّ عبد النبي لـ"حفريات": ذروة السعة التخزينية للمياه في سدّ النهضة 74 مليار متر مكعب من المياه؛ أي ما يُعادل أقلّ من 50% من السعة التخزينية للسدّ العالي

هذه المذكرة هي التي جعلت موقف السودان يقترب أكثر من الموقف المصري، فضلاً عن ظهور أصوات سودانية تحذّر من مخاطر جمة قد يتسبّب فيها السدّ على البلاد، ما يجعل الوصول إلى إطار قانوني حاكم للعلاقة بين الأطراف، وآلية لفضّ النزاعات المتوقعة وبعض الضمانات الأخرى، أمراً ضرورياً وملحاً.

وفي هذا السياق؛ كشف الخبير السوداني في شؤون السدود والمياه، محمد الرشيد قريش، في تصريحات لصحيفة "اليوم التالي" السودانية أنّ "انهيار سدّ النهضة متوقع بسبب الفيضان الأقصى المُحتمل، باعتبار أنّ الفيضان التصميمي لسدّ سنار السوداني يبلغ 15 ألف متر مكعب في الثانية، بينما يبلغ في النهضة 38 ألف كيلومتر مكعب في الثانية، وهذا يعني انخفاض عامل السلامة المُحتمل من 3.87% إلى 1.5%؛ أي بأكثر من 61%.

انهيار سدّ النهضة متوقع بسبب الفيضان الأقصى المُحتمل

ونفى قريش ما يتردّد من بعض خبراء السدود والمياه السودانيين حول مساهمة سدّ النهضة في حماية السودان من الفيضانات وتقليل كمية الطمي، وأرجع ذلك إلى أنّ مخارج المياه من السدّ غير آمنة، وربما تؤدي إلى انهياره، وأنّ الحدّ التشغيلي الأدنى لضمان تشغيل توربينات النهضة، يحتاج دراسات إضافية، كما أنّ ارتفاع بنية السدّ التراكمية الصخرية تبلغ 46 متراً، فيما يفترض ألّا تتجاوز 20 متراً.

اقرأ أيضاً: سد النهضة: هل تقف تركيا وراء محاولات حصار مصر مائياً؟

وبشأن التخطيط، أوضح قريش أنّ هناك أخطاء كثيرة قد تهدّد سلامة السدّ، مثل عدم جدارة الموقع، وقلّة بوابات التحكم السفلي، وعدم الالتزام بتوصيات اللجنة الدولية في إضافات المزيد منها، وقال إنّ الأحمال الواقعة على السدّ، مثل كمية الطمي، لا يمكن تقديرها بدقةٍ تجعل بقية الأطراف مطمئنة.

اقرأ أيضاً: ليبيا وسد النهضة يختبران مكانة مصر خارجيا

وأشار قريش إلى ما أسماه "الانهيار الهيكلي المُحتمل لسدِّ النهضة الرئيس والسروجي"، وإنّ حجم الفيضان الكسري يبلغ 60 مليون قدم تأتي مندفعة من بحيرة تانا، التي تقع على ارتفاع 1788 متراً فوق سطح البحر، الأمر الذي يُعدّ خطراً وشيكاً قد يتسبّب في انهيار السدّ بسبب اندفاع المياه بقوة، وطالب قريش مجلس السيادة للدفاع عن أمن السودان وحمايته من الدمار عبر تقديم شكوى للأمم المتحدة، وفق القانون الدولي الإجرائي.

دولة عبور بين المنبع والمصبّ

بين هذا وذاك، بين الحقيقة والخيال، بين الحقائق العلمية والفنية، وبين التكتيكات السياسية، ظلّ الموقف السوداني من سدّ النهضة متأرجحاً، بل ومحيِّراً، هل هو مبني على مصلحة البلاد، أم هو إلى جانب إثيوبيا، أم إلى جانب مصر؟ لا أحد يعرف، فحتى الخبراء في السودان منقسمون على أنفسهم إلى درجة التناقض، وكذلك الحكومة.

ويرجح أن يظلّ السودان قابعاً في منزلة بين المنزلتين، ولربما هو يريد ذلك، إذ لطالما تردّدت عبارة؛ نحن لسنا دولة منبع أو مصب، نحن دولة عبور بين هذه وتلك.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية