لماذا يحب المفكرون المشي كثيراً؟

لماذا يحب المفكرون المشي كثيراً؟


28/06/2021

يقال إنّ الفيلسوف اليوناني الأشهر أرسطو طاليس، هو أول من بادر للتعليم وهو يتجوّل مع طلابه في أروقة الملعب الأولمبي في أثينا. وفي رواية أخرى وهو يتجوّل مع طلابه بين فصائل الحيوانات والنباتات التي أمر تلميذه الاسكندر بجمعها له، حتى يتمكّن من دراستها وتصنيفها.

 وأياً كانت الحقيقة؛ فقد أُطلق على هذه المدرسة المتنقّلة التي أنشأها أرسطو-لأنه لم ينجح في اختراق أكاديمية أفلاطون والحلول محله كونه ليس مواطناً أثينياً- المدرسة الفلسفية المشّائية التي بلغت ذروتها في القرنين الرابع والخامس الهجريين، وانتسب لها عدد من فلاسفة المسلمين، وعلى رأسهم ابن سينا.

المشي يحرّر المفكر من دوام التفكير في مشكلته الصحيّة أو النفسية، ويزرع له أجنحة غير مرئية من الخيال، فينعتق من أسر الألم الجسدي، أو وطأة الضغط النفسي، ويتوحّد مع الفكرة التي تلحّ عليه

 بعيداً عن هذه المدرسة وظروف تشكّلها ومدى تأثيرها في الفلسفة والفلاسفة، فقد وقرت في أذهان الناس صورة نمطية للمفكّرين والكتّاب وهم يمشون مسافات طويلة وقد أطرقوا برؤوسهم وعقدوا أيديهم خلف ظهورهم؛ وكأنّهم في حال انفصال تام عن كل ما يحيط بهم، حتى صارت هذه الصورة لازمة أساسية في كثير من الروايات وكتب التاريخ والسيرة، وبطبيعة الحال في معظم الأفلام السينمائية التي تناولت حياة المفكّرين والكتّاب وغيرهم من قادة الرأي. فهل التلازم بين التفكير والمشي ضرب من ضروب الخرافة أو التقليد، أم أنّ هناك علاقة حقيقية ومحسوسة بينهما، يلمسها المفكّر ويواظب على استشعارها حتى يُدمن عليها؟

اقرأ أيضاً: هل تجتمع الخلاعة والتقوى في شخص المبدع؟

 من الناحية العلمية البحتة، يُعدّ المشي مشفى شاملاً لكل أمراض الإنسان؛ العضوية والنفسية، وبغض النظر عن العلّة التي يشكو منها المفكّر أو الكاتب، فإنّ المشي يحرّره من دوام التفكير في مشكلته الصحيّة أو النفسية، ويزرع له أجنحة غير مرئية من الخيال، فينعتق لساعة أو ساعتين من أسر الألم الجسدي، أو وطأة الضغط النفسي، ويتوحّد مع الفكرة التي تلحّ عليه.

 وأجمل ما في هذا التحليق أنه ينطوي أيضاً، على استبعاد للعديد من  المشاعر السلبية التي تحجب في العادة لحظات الإبداع مثل: الغضب والألم والتوتّر والقلق والإحباط والمرارة والحزن. ومن خلال تأمّل سِيَر المفكّرين والكتّاب، فإنّ المشي لا يأتي بومضات الإبداع فقط؛ بل إنه يتكفّل أيضاً بتمكيننا من اكتشاف حلول ناجعة لكثير من المشكلات التي تبدو مستعصية على الحل واقعياً. وربما لهذا السبب، يتعمّد المخطّطون وراسمو السياسات التمهل في تقديم الإجابات، ويلجأون للتأمل العميق خلال المشي؛ لأن ما قد ينقدح لهم من خواطر وكشوفات أثناء ذلك، يغيب عادة في زحمة العمل اليومي.

اقرأ أيضاً: هل يجتمع الرفيع والوضيع في شخص المبدع؟

وفي زمننا هذا، لم يعد المشي مقتصراً على زمرة المفكّرين والكتّاب، بل صار سلوكاً جماعياً ثابتاً لدى بعض المجتمعات. وقد رأيت بأم عيني الصّينيين وهم يهبّون للمشي صباحاً ومساء، وكأنهم يؤدون واجباً دينياً مقدّساً. كما رأيت بأم عيني فِرَق وجمعيات المشي الصينية والدّولية التي تتقاطر من كل حدب وصوب إلى سور الصين العظيم، كي تجتاز ما يمكن اجتيازه من طرقاته ومرتقياته، مشياً وتسلّقاً. والطريف في أمر هذه الجمعيات والفِرَق الرياضية أنّ لها راياتها وشاراتها، كما أنّها تضم الكبار والشباب والأطفال، ناهيك بأنّ عضويتها متاحة للذكور والإناث.

رغم أنّ المجتمعات الحديثة لا تماري في أهمية المشي بوصفه أداة للتفكير والإبداع وتقليل الضغوط إلا أنّ هناك تراجعاً ملحوظاً لدى هذه المجتمعات بخصوص إيلاء ثقافة المشي ما تستحقه من تعميم واعتناء

ورغم أنّ المجتمعات الحديثة لا تماري في أهمية المشي بوصفه أداة للتفكير والإبداع وإيجاد الحلول وتقليل الضغوط ومعالجة أمراض العصر فضلاً عن كونه جزءاً لا يتجزأ من ثقافتها المعاصرة، إلا أنّ هناك تراجعاً ملحوظاً لدى هذه المجتمعات بخصوص إيلاء ثقافة المشي ما تستحقه من تعميم واعتناء، جرّاء التغوّل الصناعي الذي يقتات على مزيد ومزيد من الغابات والمتنزهات والساحات العامة من جهة، وجرّاء تغوّل تكنولوجيات الاتصال والتواصل التي راحت تسرق مزيداً ومزيداً من وقت الإنسان وهو مستلق على أريكته، ناهيك بتغوّل نمط الغذاء السريع الذي حوّل الإنسان في ظل قلّة الحركة إلى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أية لحظة.

 ومع أنّ مطالبة المجتمعات العربية الآن، بتعميم ثقافة المشي والتركيز على أنماط الغذاء الصحيّة، تبدو شكلاً من أشكال الترف الشديد، في ضوء ما تعانيه هذه المجتمعات من مشاكل الفقر والعنف والأميّة والاستبداد، إلا أنّ هذا لا ينفي حقيقة أنّ المثقفين العرب -مفكّرين وأكاديميين وباحثين ونقاداً- قلّما يمشون ولا يولون ما يُسمى (سياسات الحياة) الأهمية اللازمة. بل إنّهم يعدّون الخوض في مثل هذه السياسات التي يُعد عالم الاجتماع البريطاني الأشهر أنتوني جيدنز أول من فتح باب الحديث عنها، خيانة لهمومهم العتيدة المنقوعة في بركة السؤال التاريخي الوحيد: لماذا تقدّم الآخرون وتخلّف العرب؟!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية