ليبيا وسد النهضة يختبران مكانة مصر خارجيا

ليبيا وسد النهضة يختبران مكانة مصر خارجيا


09/07/2020

تمر مصر بمرحلة سياسية فارقة في ظل تحديات وعرة تواجهها على مستوى أزمتي ليبيا وسد النهضة الإثيوبي، فإما أن تتجاوزهما باقتدار وتصبح رقما مهما في المعادلات المتقلبة في المنطقة، أو تتعثر فيهما أو في أحدهما، وتواجه مصيرا يجبرها على تغيير التوجهات الراهنة، وإدخال تعديلات تساعدها على التعامل مع أوضاع محفوفة بالمطبات، تتشابك فيها خيوط متنوعة، بعضها واضح وأغلبها ما زال غامضا.

يتوقف دور مصر في الصعود على الطريقة التي تحقق بها أهدافها، سلما أم حربا، كما يتحدد التراجع بطبيعة وحجم الخسائر التي قد تتكبدها. وفي الحالتين مرجح أن يكون هناك اشتباك دبلوماسي أو عسكري عنيف مع  التطورات القريبة منها، ولم يعد الانتظار سمة تناسب التوترات الإقليمية، فكل دولة تعلم أن السيولة الراهنة هي التي تكون في دول كثيرة مقدمة لما سيأتي من ثبات، وتحاول بها تعظيم مكاسبها وتقليل خسائرها.

أصبحت طريقة التعامل المصري مع الأزمتين المحتدمتين محط اهتمام دوائر مختلفة، لأن النتائج التي سوف تترتب عن كل منهما حاسمة في رسم الخارطة أمام مستقبل مصر في الفضاء الإقليمي، بعد أن تسلحت بكثير من أنواع القوة، وتتصرف بشكل يصعب توقعه أحيانا.

فائض المرونة

في الوقت الذي تظهر فيه القاهرة فائضا من المرونة السياسية تحتفظ لنفسها بحق اللجوء إلى الخشونة، وتتبنى خططا وتكتيكات متباينة تتواءم مع التفاعلات الدولية، وتراعي التوازنات الحرجة، وتحرص على فتح قنوات اتصال مع جهات متصادمة.

تجاوزت مصر الكثير من الأزمات السياسية الخارجية خلال السنوات الماضية، ونسجت شبكة جيدة من العلاقات على المستويين الإقليمي والدولي، وتخطت محرمات وقفزت فوق ممانعات وقفت حائلا أمام تقبل نظامها الجديد، وتمكنت من تغيير الانطباعات السلبية التي تراكمت عقب تغيير حكم الإخوان قبل سبع سنوات.

لم يكن عبور الأزمات التي نشبت عقب إبعاد الإخوان عن السلطة سهلا، فقد تطلب الأمر جهدا سياسيا كبيرا، وعملا أمنيا شاقا، ولا تزال توابع التغيير مستمرة حتى الآن، فالقيادة التي قوضت أركان جماعة تكونت منذ نحو قرن وغرست أظافرها في المجتمع ووضعت أنيابها في الكثير من مؤسسات الدولة خططت جيدا للتعاطي مع النتائج التي أفرزتها هذه الخطوة، ورسمت خارطة طريق للمستقبل.

عزز ما وصلت إليه القاهرة من إعادة تموضع في مجالات عديدة الاستنتاج القائل بأن ثمة رؤية استراتيجية تنطلق منها التصورات المصرية تنهي جانبا كبيرا من العشوائية التي لازمتها خلال السنوات الأخيرة لحكم الرئيس الأسبق حسني مبارك.

أخفقت الاستفزازات المتباينة في إجبار القاهرة على تعديل رؤيتها والتأثير على طموحاتها وتبديل أولوياتها، واستوعبت الكثير من المفاهيم التي سادت حول نظام الحكم، من الحذر والتردد والارتباك وحتى الانكفاء، ولم تؤثر الاتهامات والانتقادات في إزعاج مصر أو حرفها عن مسارها، فقد كان الهدف الرئيس هو الحصول على قاعدة من القوة الشاملة تردع كل من تسوّل له نفسه التحرش بالدولة.

جرى بناء قوة عصرية تستطيع حماية الأمن القومي والدفاع عن مقدرات الدولة في المنطقة، وزادت أهميتها مع ظهور مؤشرات واعدة في مجال استكشافات الغاز في البحرين؛ المتوسط والأحمر، وراعت القاهرة أن التقديرات الواعدة للثروات سوف تثير حنق وغضب الكثيرين، وربما تجبرهم على الاحتكاك بها، وإذا لم تكن هناك أدوات كافية للحماية يمكن أن تتعرض لانتكاسة تصبح تداعياتها وخيمة.

يجد المتابعون للحالة المصرية أن مواجهة التوترات الأمنية التي شهدتها البلاد على يد الجماعات الإرهابية لم تحل دون الاستعداد لمواجهة الصراعات الإقليمية القريبة، وكانت غالبا رافدا لمعظم المشكلات في الداخل، وأدت العلاقة بين الجانبين إلى تبني خطوات متوازية، حتى تمت السيطرة على البؤر الإرهابية الساخنة التي نشبت مخالبها في الداخل، ولم يعد أمام رعاتها سوى التمترس في الأراضي الليبية الشاسعة.

مواجهات بديلة

عندما انتهت، أو كادت، المعضلة الأمنية في الداخل، ضاعفت الأجهزة المصرية من ملاحقتها لعناصرها في الخارج، وسعت إلى سد المنافذ التي يمكن أن يتسرب منها الإرهابيون في ليبيا، لكن تدخل تركيا الواسع قلب جانبا كبيرا من المعادلة، وأخرج خطط المواجهة البديلة للعلن، وتتمثل في الجهر بالتدخل العسكري في ليبيا وملاحقة الجهات التي تستعد للعبث بالأمن المصري من هذه البوابة.

تدفقت مياه كثيرة في هذا النهر، محصلتها أن الخشونة المصرية موضوعة على الطاولة في محاذاة الرغبة في تحقيق الأمن والاستقرار والسلام، في حين لم يظهر أي تلويح مباشر باستخدام الآلة العسكرية في أزمة سد النهضة.

مع كل تفاصيل الخلافات التي نشبت مع أديس أبابا، تؤكد القاهرة أنها ملتزمة باتباع المنهج الدبلوماسي، وعندما حوّلت الملف إلى مجلس الأمن الدولي لم تتخل عن رغبتها في تسوية الأزمة عن طريق التفاهمات والاتفاقات الملزمة، لكنها أرادت اختبار أو جس نبض المجتمع الدولي حيال أزمة تؤثر على الأمن والاستقرار الإقليمي.

إذا نجحت مصر في تفويت الفرصة على تركيا في تكريس وجودها في ليبيا تكون قد رسمت لنفسها خطا إقليميا مواتيا، ويتوقف المدى الذي يمكن أن تصله على الطريقة التي تتبناها لتحقيق هذا الهدف، فالأدوات العسكرية المنفردة أو الجماعية سوف تحقق فوائد تفضي إلى منحها دورا قابلا للصعود، يسهم في تفوق محورها مع كل من السعودية والإمارات والبحرين، ويمكن أن تنضم إليه دول عربية أخرى.

كما أن تمكن القاهرة من عبور أزمة سد النهضة بالوسائل الدبلوماسية من خلال مجلس الأمن أو الاتحاد الأفريقي يساند هذا الدور، أما إذا أنهته بطريقة غير تقليدية فمن الممكن أن يمنحها مساحة للتفوق الإقليمي. غير أن هذا الحل يصطحب معه حزمة من الأزمات، ويؤلب عليها بعض الدول التي ترى أن تفوقها العسكري بلغ مستوى يصعب قبوله، ويخل بموازين القوى التي تريد الولايات المتحدة وغيرها من الدول عدم الإخلال بها في المنطقة، وكلها تميل لصالح إسرائيل.

تتفهم القيادة المصرية حركة القوى الكبرى وحساباتها المتشابكة باتجاه إسرائيل والمنطقة عموما، وتتصرف من منطلق يؤكد أن قوتها منضبطة على الدوام ولن تستخدم إلا في إطار الشرعية الدولية، ما يجعلها تقدم نموذجا مختلفا، فلا هي قوة غاشمة وباطشة، كما في إيران وتركيا وإسرائيل، ولا ضعيفة مثل غالبية دول المنطقة، وتمنحها السياسة الرشيدة دورا أكبر، وتسهل لها المزيد من تطبيع علاقاتها مع دول مختلفة.

تفتقر المنطقة لهذا النموذج من الدول التي تسهم في حفظ الأمن والاستقرار الإقليمي بعيدا عن الهيمنة والزعامة والرغبة في القيادة المنفردة، وربما تقود التطورات التي يموج بها العالم إلى تشجيع الدول المنضبطة وقيامها بأدوار متعددة ضمن منظومة تقوم على التعاون في مواجهة الدول المنفلتة.

يفك هذا الدور الكثير من عناصر الاشتباك الحالية مع كل من إيران وتركيا، كما أن إسرائيل باتت إجراءاتها مع الفلسطينيين مكلفة لأصدقائها ولم يستطع عدد كبير منهم الدفاع عنها في خطوة الضم، وهو ما يجعل الفرصة مهيّأة أمام مصر للانطلاق، وسد جزء من الفجوة العربية التي تسللت منها طهران وأنقرة في العقود الأخيرة.

عن "العرب" اللندنية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية