محمد حسنين هيكل.. زيارة جديدة لتاريخ أستاذ الصحافة العربية

محمد حسنين هيكل.. زيارة جديدة لتاريخ أستاذ الصحافة العربية


27/09/2020

مرّت منذ أيام ذكرى ميلاد أستاذ الصحافة العربية محمد حسنين هيكل، الذي أبصر النور في 23 أيلول (سبتمبر) من العام 1923، المناسبة التي تتداول فيها الصحف والمواقع العربية عبارات الثناء والمديح بحقّ الإعلامي الذي قضى نحو 75 عاماً من حياته في بلاط صاحبة الجلالة، حتى تربّع على عرشها وأصبح ملكها المتوّج.

قضى نحو 75 عاماً في بلاط "صاحبة الجلالة" حتى تربّع على عرشها وأصبح ملكها المتوّج

وقد أجمعت وسائل الإعلام العربية على مكانة هيكل الصحفية؛ حيث جعل من الصحافة مهنة بالغة الاحترام والتقدير ولها مصداقية لدى الرأي العام، وهو رجل صنع نفسه بموهبته واجتهاده ودأبه ونظام حياته المرتب بإحكام، وهو الذي جعل من الأهرام "نيويورك تايمز" العالم العربي (وفقاً للموسوعة البريطانية Encyclopedia Britannica)، والتي تصدّرت قائمة الصحف العربية الأعلى توزيعاً لما يقرب من عقدين من الزمن، وهو "الجورنالجي" الذي احترم قلمه وفضّله على المناصب الوزارية التي رُشّح إليها، وعميد المحللين السياسيين العرب وفقاً لـ"نيويورك تايمز" الأمريكية.

الأجزاء المفقودة من الصورة

ولكي تكون الصورة كاملة يجب أن نضيف الأجزاء المفقودة من الصورة إليها حتى تكتمل بعيداً عن كلمات المديح وعبارات الثناء وهالات القداسة؛ فهيكل برغم كلّ الفضائل التي يطلقها عليه الكثيرون سيظلّ إنساناً يبصر بقدر الزاوية التي يرى منها الحقيقة، وسيحلل وفقاً للمعطيات المتاحة له حينها، وقد يرى المشهد بعدسة مقعرة أو محدّبة وفقاً لموقفه السياسي من الأصدقاء والخصوم؛ بحيث إنّ العدسة قد تعكس صورة غير دقيقة للواقعة، بها قدر من التضخيم أو التحجيم، لتضيف قدراً من البهارات والتوابل إلى المشهد، وتصل به إلى ذروة الإثارة.

هو رجل صنع نفسه بموهبته واجتهاده ودأبه ونظام حياته المرتب بإحكام

شاهد على مبالغات هيكل

هناك عدد من الشواهد التي تعبّر عن ذلك خير تعبير، وتُعدّ حوادث كاشفة عن معضلة المؤرخ والصحفي، فمثلاً يروي سفير مصر الأسبق في الاتحاد السوفييتي الدكتور مراد غالب في مذكراته "مع عبد الناصر والسادات، سنوات الانتصار وأيام المحن" أنّ هيكل طلب إجراء حوار مع كوسيجين رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي أثناء زيارة الرئيس جمال عبد الناصر حينها، ولكن كوسيجين رفض بحجّة أنّ إجراء هذا الحوار ليس من عاداتهم، وفي المساء ذهب غالب إلى الزعيم السوفييتي الراحل بريجنيف، وقال له إنّ هيكل رجل له مكانته المرموقة في الدولة ولدى عبد الناصر، فأخذه بريجنيف من يده وذهب إلى هيكل حيث تبادلا كلمات المجاملة، وسأله بريجنيف عمّا إذا كان مسروراً من نتائج الزيارة فأجاب بالإيجاب.

هيكل برغم كلّ الفضائل التي تُطلق عليه سيظلّ إنساناً يبصر بقدر الزاوية التي يرى منها الحقيقة

الحوار إذن لم يستمرّ سوى دقائق معدودة، ولكن كان لهيكل رواية أخرى كان هو مركزها، فقد جاءت على نحو مختلف، خاصة في كتابه "زيارة جديدة للتاريخ"، حيث كتب كيف أنّ بريجنيف سعى إليه ودار بينهما حديث ممتد طلب فيه بريجنيف سماع رأي هيكل في المباحثات، فطلب الأوّل من الأخير أن يُبقي ما دار من محادثات سرّاً، ليردّ عليه هيكل متعجباً: "سيادة السكرتير العام، هل تتصوّر أنني سأكتب عمّا رأيته وسمعته اليوم في جريدتي أو في مقالي الأسبوعي "بصراحة"؟... ظننت أنك تعرف ما فيه الكفاية عن تقديري للمسؤولية..." ليقاطعه بريجنيف بسرعة وبلهجة فيها مزيج من الاعتذار واللوم قائلاً: "إنك أخذت كلامي على غير محله، لم أكن أتحدث عمّا يمكن أن تكتبه، كنت أريد أن تساعد في وضع خطّة لضمان سرّية القرار، بحيث يظلّ خافياً على كل وسائل الإعلام"، ولتستمر المحادثة التي يرى غالب أنها في حقيقتها كانت أقلّ من مبالغات هيكل الصحفية.

 سفير مصر الأسبق في الاتحاد السوفييتي الدكتور مراد غالب

وفي مشهد آخر محبوك، يرصد هيكل في الكتاب نفسه كيف ساهم مع أندروبوف، رئيس الاستخبارات السوفييتية حينها، في البحث عن حلٍّ يضمن عدم تسرّب المعلومات التي تتعلق بمشاركة قوات من الاتحاد السوفييتي في الدفاع عن العمق المصري، وكان الأمر يتطلب أن تأتي إلى مصر قوات صواريخ سوفييتية وقوات جوية تحمي مواقعها، وما يتطلبه ذلك من ملحقات ضرورية للمواصلات والاتصال والتنسيق، فما كان من هيكل إلّا أن فكّر للحظات ليصل للفكرة الرئيسية التي سيبني عليها رئيس الاستخبارات السوفييتية كامل تصوره، وتقضي باستحالة ضمان سرّية نقل هذا الحجم الضخم من الأسلحة من الاتحاد السوفييتي إلى مصر بدون أن يعلم بها أحد.

يصوّر نفسه مركزاً لبؤرة الأحداث وستظلّ تلك العادة تلازمه في كتبه التي جاوزت الأربعين

فجّر هيكل تلك المعلومة الصادمة في وجه السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفييتي الذي بدا عليه أنه فوجئ، وفقاً لحديث هيكل، وكان يهزّ رأسه بشدّة قائلاً: "إنه مستحيل أن أقبل ذلك، ولا بدّ أن تكون هناك وسيلة"، وطلب بريجنيف من هيكل وأندروبوف أن يقدّما مقترحاً يضمن عدم معرفة وسائل الإعلام الغربية بما يجري.

واتفق الطرفان أخيراً على أنّ إخفاء عملية نقل الأسلحة عن عيون الاستخبارات الغربية عملية مستحيلة، وأنّ أيّ محاولة للإخفاء والتمويه ستكون هي بالضبط ما يلفت النظر مبكراً إلى العملية، وسوف يدفعهم للتساؤل والبحث وليدعهم يكتشفون كتائب الصواريخ ووصول الطائرات السوفييتية إلى مصر ولكن بعد فوات الأوان.

أجمعت وسائل الإعلام العربية على مكانة هيكل الذي جعل من الصحافة مهنة بالغة الاحترام والتقدير

وبالفعل وصلت القوات ظاهرة للعيون وبعد أسابيع ستشتبك المقاتلات السوفييتية مع الإسرائيلية، وسيقول هيكل لعبد الناصر: "إننا نشهد لغة جديدة في الحوار الصامت بالرموز بين حقائق القوة في العلاقات بين القوتين الأعظم".

برغم الحبكة الدرامية والكتابة الصحفية السلسة لهيكل التي تجعل العين تلتهم كلمات تلك الحكاية التهاماً، فإنّ الرواية تحفل أيضاً بالانفعالات التي سعى لترسيخها في عقل القارئ، حيث يصوّر نفسه مركزاً لبؤرة الأحداث، وستظلّ تلك العادة تلازمه في أكثر من موضع من مؤلفاته التي تبلغ 40 كتاباً.

هيكل وجدل التاريخ والصحافة

برغم أنّ مدرسة هيكل في الكتابة الصحفية تتقاطع مع الكتابة المنهجية العلمية التاريخية موضوع بحثه، فإنّ شخصيته تظلّ طاغية على متن الدراسة، حيث يقدّم ما يشبه الشهادة بأكثر ممّا يقدّم القراءة للحقبة التاريخية محلّ الدرس، ابتداءً من حكم الملك فاروق وانتهاءً بحكم مبارك، وتلك الحركة البندولية بين المؤرخ والصحفي تسمح لتبرير الهفوات المنهجية التي يقع فيها هيكل المؤرخ، وبرغم كلّ الهفوات والأخطاء المنهجية التي ارتكبها هيكل، فإنه سيظلّ آخر صحفي يستحقّ لقب "أستاذ" عن جدارة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية