مصادر الاكتئاب الاجتماعي

مصادر الاكتئاب الاجتماعي


06/08/2019

منصور الحاج

بين الحين والآخر يعلن أحد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي رغبته في إغلاق صفحاته والابتعاد لأسباب متخلفة تتراوح بين محاولة الاستفادة من الوقت في ممارسة هواية مفضلة أو زيادة التحصيل العلمي أو بسبب ضيق الوقت لكثرة المشاغل والمسؤوليات أو لمجرد أخذ قسط من الراحة والابتعاد عن أجواء الصراعات والمناكفات التي لا تخلو منها الحوارات الإسفيرية في القضايا السياسية والاجتماعية والحقوقية.

وعلى الرغم من الفوائد الجمة لوسائل التواصل الاجتماعي، التي أتاحت المجال للتواصل المجاني مع الأهل والمعارف في مختلف بقاع الأرض، وبناء الصداقات وتبادل المعلومات ونشر الوعي وتوفير الوظائف وتنظيم التظاهرات والمسيرات التي نجحت في إسقاط العديد من الأنظمة الدكتاتورية، إلا أنها باتت تمثل للكثيرين مصدرا للقلق والاكتئاب نسبة للكم الهائل من الأخبار والمنشورات المزعجة المتداولة فيها وللحدية المفرطة في الآراء المطروحة حيال القضايا المختلفة بدلا من تكون مساحة للحوارات الراقية وملتقى لتبادل وجهات النظر في مناخ هادئ وصحي.

ولخطورة استهلاك المواد المزعجة على الصحة النفسية ونسبة للآثار السلبية التي تتركها على المزاج العام والخاص، فقد قررت التقليل ما استطعت من طرح القضايا الجدلية على صفحاتي والتركيز على نشر المواد الترفيهية التي تدخل السرور إلى النفس وترسم البسمة على الشفاه كالنكات والمقاطع الطريفة والصور والفيديوهات والمقالات الخفيفة أملا في إضفاء نوع من البهجة إلى الجو العام المشحون بكل ألوان العنف ودعوات الإقصاء والكراهية.

وعلى الرغم من تشبع التراث العربي والإسلامي بأدبيات وقواعد يمكن أن تكون مرجعا يضبط استخدامنا لوسائل التواصل الاجتماعي من قبيل "الكلمة الطيبة صدقة" و"فليقل خيرا أو ليصمت" و"خير الكلام ما قل ودل" و"الحكمة ضالة المؤمن" و"إن كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب" و"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" و"ساعة وساعة" يصر كثيرون على تعكير الفضاء العام وكأننا بحاجة إلى المزيد من مسببات التعاسة والشقاء.

وبقدر إيماني بأهمية إيقاد الشموع بدلا من لعن الظلام من أجل إضفاء لون من البهجة في فضائي الخاص حرصا على أن تكون صفحاتي مصدرا للطاقة الإيجابية للمتابعين، إلا أنني أنشر أحيانا موادا مزعجة وأدخل في نقاشات حادة في قضايا حساسة ولكن ما إن أتذكر أن الفائدة المرجوة من وراء الإصرار على إثبات صحة وجهة نظر معينة وكشف فساد آراء الآخرين أقل بكثير من الأضرار النفسية المترتبة على ذلك حتى أسارع إلى تهدئة الأجواء وتلطيفها بالكلام الطيب والحكمة والموعظة الحسنة.

إن الاستهلاك اليومي للتجاذبات السياسية والفواجع والمآسي التي تتعرض لها الكائنات الحية والبيئة سواء من خلال أجهزة التلفاز أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي أمر ضار بالصحة النفسية قد لا يدرك خطورته من دأبوا على متابعتها لأنهم أضحوا مدمنين عليها ولا يستطيعون العيش بدون جرعات الكآبة والقلق فتجدهم يروجون لها في منابرهم ويحملونها معهم أنى ذهبوا ويطرحونها في كل الجلسات دون اعتبار لمدى تناسب المقام مع ما يقولون لتتحول أجواء الأنس والسمر إلى ساحات للمعارك والاصطفافات.

وإن كان العلاج من الإدمان يتطلب التوقف تماما عن تناول المواد المخدرة، والمواظبة على تلقي العلاجات المناسبة، والتغلب على الأعراض الانسحابية والدخول في فترة نقاهة والحرص على عدم الانتكاس، فإن علاج إدمان ترويج المنشورات المزعجة يتطلب الابتعاد عن استهلاكها واستبدالها بمواد ترفيهية ومناظر خلابة وكل ما يجلب البهجة إلى النفس ويدخل السرور إلى القلب.

وحتى لا أتهم بالسطحية ومحاولة التهرب من القضايا الملحة أقول إن لا جدال في أن الدور الذي يلعبه النشطاء والحقوقيون والإعلاميون وغيرهم على مواقع التواصل الاجتماعي في الانتصار للمظلومين وتوضيح الحقائق مهم جدا وله أثر بالغ في إحداث التغيير المنشود وتخفيف هموم المهمومين، إلا أن من المهم أيضا الموازنة بين العمل في تلك المجالات وبين الصحة النفسية بممارسة الرياضة والترويح عن النفس لكي يتجدد العزم وتقوى الهمة لمواجهة تحديات الحياة اليومية.

ومن خلال متابعتي لصفحات النشطاء والحقوقيين والإعلاميين لاحظت تعرضهم لكم هائل من الضغوط والمضايقات بسبب أنشطتهم ومواقفهم فيضطرون إلى الرد على الاتهامات والتصدي لمعارضيهم فتتحول صفحاتهم إلى أشبه بساحة حرب لاحتدام الحوار وحدة الشد والجذب والتوتر.

قد يقول قائل بأن لكل شخص الحرية في نشر ما يريد على صفحاته في وسائل التواصل الاجتماعي وأن رواد تلك المنابر يملكون حرية اختيار ما يتابعونه من صفحات ومواقع وما يقرؤونه من منشورات. وردا على ذلك أقول إن من يستهلكون ويروجون المنشورات المزعجة ويقضون الساعات الطوال في متابعة المستجدات والتفاعل معها هم أحوج الناس إلى المواد الترفيهية حتى يتذكرون أن هناك متسعا في هذا العالم للفرح والمرح والترويح رغم المآسي والتحديات.

ومن المعلوم أن رواد مواقع التواصل الاجتماعي يستخدمونها لأغراض مختلفة وقد يساء استخدامها كما يحدث مع غيرها من الأدوات والوسائل التي يستحيل أن يتقيد جميع مستخدميها بالشروط القانونية والأخلاقية لها ولذلك فإنني لا أراهن هنا على أصحاب النوايا الخبيثة الذين يتقصدون إيذاء الآخرين إنما على من يحرصون على الإفادة والاستفادة والتواصل في مناخ صحي وبعيدا عن التشنجات والعداءات ومسببات التوتر والاكتئاب.

وكما يصدق في العالم الواقعي المثل القائل: قل لي من تصاحب أقل لك من أنت، يمكن في العالم الافتراضي تحليل شخصية مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي من خلال المواد التي ينشرونها على صفحاتهم وطريقة تعاملهم مع آراء المخالفين ومع ما ينشره الآخرون على منابرهم.

إن بالإمكان متابعة ما نشاء من صفحات وممارسة نشاطاتنا في المجالات المختلفة والتفاعل مع القضايا والأحداث اليومية على وسائل التواصل الاجتماعي ونشر الجمال والحب والمرح والبهجة في الوقت نفسه ففي الحياة وفي تلك المنصات متسع لذلك. وهذا بالفعل ما يقوم به أحد أصدقائي على موقع فيسبوك فهو يتحف متابعيه بتحليلاته السياسية نهارا وينشر ولوحاته الفنية ليلا وكأنه يخطب ود من أزعجتهم وجهة نظره ويعيد المياه إلى مجاريها من جديد.

أتمنى لكم قضاء أوقات ممتعة على منصات مواقع التواصل الاجتماعي تفيدون فيها وتستفيدون منها وتنشرون البهجة والمرح ولا تكونوا كأبي محمد الذي زرع الرعب في قلب هذا الشاب بإرساله الدائم لمقاطع مزعجة كما في هذا التسجيل المنتشر في مجموعات واتساب.

عن "الحرة"

الصفحة الرئيسية