هل حانت المواجهة بين العلمانية الفرنسية والمسلمين؟

العلمانية

هل حانت المواجهة بين العلمانية الفرنسية والمسلمين؟


11/03/2020

عام 1977؛ وقّعت الجمهورية الفرنسية اتفاقية مع دول المغرب العربي "تونس، الجزائر، المغرب"، إضافة لتركيا، لإيفاد أئمة ومعلمين إلى فرنسا، لتعليم أبناء المهاجرين الآخذ تعدادهم في التزايد منذ الستينيات من القرن الماضي.
لكن يبدو أنّ الرئيس ماكرون، والذي لم تكن قضية المهاجرين من أولوياته، التفت إليها مؤخراً، ليعلن أنّه بداية من عام 2024، سيتم وقف إيفاد أئمة لبلاده وإيقاف العمل بالاتفاقية المبرمة سابقاً مع كلّ تلك الدول، باستثناء تركيا.

محاربة الانفصالية الإسلامية
في الثامن عشر من شباط (فبراير)؛ ألقى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خطاباً خلال رحلته إلى مدينة مولهاوس، يعلن فيه الوقف التدريجي لإيفاد أئمة من خارج فرنسا، تحديداً من المغرب والجزائر، ويبدو أنّ تركيا حظيت بميزة نسبية؛ إذ تمّ استثناؤها من هذا القرار، ورغم ذلك صرّحت تركيا، على لسان خارجيتها، بأنّ الرئيس الفرنسي مصاب بالإسلاموفوبيا، وتحت عنوان محاربة الانفصال الإسلامي، والذي يعدّ مصطلحاً جديداً على المسامع، طالب ماكرون بوقف إيفاد أئمة جدد، لتعزيز السلم العام، وإدماج المهاجرين في المجتمع، وحثّهم على احترام مبادئ الجمهورية، وعليه فإنّ الرئيس الفرنسي يريد أن يكون الأئمة من الداخل، وليس من الخارج، ورفع كفاءة الأئمة المُدربين في فرنسا.

اقرأ أيضاً: تظاهرات في فرنسا تجدّد السجال حول الإسلاموفوبيا
  وبحسب أستاذ الجغرافيا السياسية بأكاديمية العلوم السياسية في باريس، عماد الدين حمروني، في تصريح له لوكالة "DW" الألمانية؛ فإنّ خطاب الرئيس ليس جديداً، فقد أتى به قبل عامين تحت عنوان "إعادة تأطير الإسلام بما يناسب مبادئ الجمهورية"، مضيفاً أنّ التناقضات وعدم الاندماج الذي يظهره الشباب المسلم الموجود في فرنسا، هو ما يعزز خطاب الرئيس ويجعله مقبولاً لدى الجماهير.

في كتابه "الإسلام والمسلمون في جميع أنحاء العالم"، يقدم المفكر الجزائري محمد أركون، رؤيته للصدام بين العلمانية والإسلام في فرنسا

جدير بالذكر أنّ لفرنسا نصيب الأسد من الأئمة القادمين من الخارج؛ ففي 2019، دخل إلى الأراضي الفرنسية 164 إماماً من المغرب فقط، فيما استقبلت خلال شهر رمضان الماضي وحده 224 خطيباً، من المغرب، ، تليها إسبانيا بـ 170 إماماً، ودول مثل إيطاليا وألمانيا وبلجيكا، حيث يعيش الآلاف من المغاربة، فيما اقترح الرئيس الفرنسي تدابير جديدة مثل: استعادة السيطرة على قيم المجتمع، ومكافحة التأثيرات الأجنبية، وخاصة في المدارس وأماكن العبادة، والتدريب الفرنسي للأئمة بإنهاء أئمة المغرب والجزائر، وحظر تدريس اللغتَين العربية والتركية في المرحلة الابتدائية من قبل المعلمين الأجانب، كما تحظر الجمهورية كافة أشكال التمويل الأجنبي للمساجد أو أماكن العبادة باللغة الفرنسية، وفقاً لوسائل الإعلام الفرنسية والإسبانية، التي غطّت هذا الخطاب ووصفته بالمهمّ والمثير للجدل، خاصة بعد إعلان ماكرون مشروع قانون جديد، بشأن تمويل المساجد، وإشراف الدولة على خطاب الأئمة الذي لن يكون إلّا باللغة الفرنسية، منعاً لنشر الآراء المتطرفة، على حدّ قوله، كما أوضح أنّ آخر الأئمة سيصلون إلى فرنسا في 2020 فقط.

طالب ماكرون بوقف إيفاد أئمة جدد، لتعزيز السلم العام، وإدماج المهاجرين في المجتمع

إسلاموفوبيا أم تأطير؟
واصل الرئيس حديثه، وخصّ تركيا قائلاً: "يمكن لتركيا اليوم أن تختار طريقنا، وتصرح؛ هل هي معنا أم لا؟ لكنني لن أسمح لأيّ بلد أجنبي بتغذية انفصالية ثقافية أو دينية، أو متعلقة بالهوية على أراضي جمهوريتنا، ولا يمكن أن تكون لدينا قوانين تركية تسري على شعبنا الفرنسي"، ويبدو أنّ تصريحات الرئيس الجديدة، والتي لا تحتمل التشكيك، بأنّه يريد إقصاء النفوذ الإسلاموي في بلاده بغرض الحفاظ على علمانية الدولة التي صوتت لها الأغلبية في انتخابات 1946، وهنا نجد أنّ العلمانية الفرنسية في مأزق، فرغم أنّ القانون الحارس الأبدي للحريات وعلمانية فرنسا، بعد أن تخلصت من سلطة الكنيسة الكاثولوكية، يقف عاجزاً أمام  تغيّرات الواقع، وبتلك التصريحات التي تُظهر الجمهورية بصورة المتدخل في الحريات الدينية للأفراد، والانشغال بقضايا هامشية أصبحت اليوم حديث الإعلام؛ إذ إنّه قبل أشهر قليلة ضجّت وسائل الإعلام الفرنسية بالحديث عن مشروع قرار منع حجاب الأمهات المسلمات في مدارس أبنائهم، في الوقت نفسه الذي أقامت فيه الحركات الإسلامية إلى جانب اليسار تظاهرات في باريس تتندد بالإسلاموفوبيا.

اقرأ أيضاً: "الإسلاموفوبيا".. هل هي إعادة إنتاج للمظلومية؟

في دراسة بعنوان "الإسلاموفوبيا في أوروبا: دراسة لخصوصية وضع المسلمين في فرنسا"، يقدم باحث في العلوم السياسية بجامعة تلمسان الجزائرية، رصداً لما تعيشه الجالية المسلمة في فرنسا، ومزاعم رفض الاندماج من الجانبين، فالجمهورية تأبى أن ينتشر على أراضيها وفي مؤسساتها أيّ مظهر من مظاهر الدين، وتؤمن بحرية اندماج الأعراق، فلن نجد كنيسة في فرنسا تقتصر على عرق معين، للسود أو الآسيويين مثلاً، كما في النموذج الأمريكي، ويرجئ طامشة رؤيته إلى الإسلاموفوبيا لما سمّاه بجمود العلمانية الفرنسية، التي صارت بمعزل عن تغيرات الواقع، فهي إذاً منفصلة عن التغيرات الاجتماعية والسياسة، والديمغرافية المستجدة، ومنذ مطلع الثمانينيات، أصبح الحجاب والإسلام انعكاساً لجمود تلك العلمانية، التي ترفض هذا التعبير الديني مهما كان بسيطاً، وله انعكاس على الجماهير برفضهم الاندماج مع مجتمع يخشاهم، ويرفض أيّ مظهر من مظاهر تعبيرهم عن معتقداتهم، حتى لو تمثل في تغطية امرأة لرأسها، ويعلل بقوله: إنّ "معركة الحجاب في فرنسا تمثل هزيمة كبيرة لكلّ الأفكار التي حاولت أن تُجدد في العلمانية الفرنسية وتقدم علمانية إنسانية متصالحة مع المجتمع والدين ومع التنوعات الثقافية".

إشكالية الاندماج المتبادل
في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، زادت أعداد البرتغاليين والبولنديين على الأراضي الفرنسية، واحتدم الصراع الديني لرفض فرنسا لمظاهر تدين المستجدين على أراضيها، وخاضت صراعاً مع المهاجرين والكنيسة الكاثولوكية كذلك، استمر حتى الحرب العالمية الثانية، ونجحت فرنسا في إدماج مهاجري أوروبا الغربية بالعلمانية الفرنسية، لكن القضية مع المسلمين تختلف بعض الشيء؛ فالجيل الأول من المهاجرين إلى فرنسا، وأغلبهم كانوا من المغرب العربي، كانوا يضعون في الحسبان أنّ فرنسا محطة مؤقتة، وأنّهم عائدون إلى بلادهم، فلم تكن قضية الاندماج تشغلهم، لكن الجيل الثاني حاول إثبات وجوده على هذه الأراضي الجديدة، مع الاحتفاظ بهويتهم الدينية والثقافية، أمّا الجيل الثالث، وهم ما نحن بصدده اليوم في فرنسا؛ فلم يمثّل الاندماج مشكلة بالنسبة إليهم، لكن المشكلة هي عدم قبولهم بشكل تام، والتعامل مع مشكلاتهم بتعالٍ؛ لذلك تبرز قضية الإسلام من حين لآخر، وهنا يناقش طامشة مشكلة الإسلام في فرنسا على أنّه ثقافي خارجي، وليس ديناً من الداخل، جاء نتيجة التفاعلات الثقافية والاجتماعية، فاليوم نحن بصدد 5 مليون مهاجر مسلم إلى فرنسا وهو ليس بالعدد القليل.

ماكرون مخاطباً تركيا: لن أسمح بتغذية انفصالية ثقافية أو دينية، أو متعلقة بالهوية على أراضي جمهوريتنا

وفي كتابه "الإسلام والمسلمون في جميع أنحاء العالم"، يقدم المفكر الجزائري محمد أركون، رؤيته للصدام بين العلمانية والإسلام في فرنسا؛  فالعلمانية الفرنسية التي نشأت للفصل بين الكنيسة الكاثولوكية والدولة، لم تكن لتتوقع أن تواجه بعد نصف قرن مشكلة اصطدامها بدين جديد دخيل على أراضيها، فوفقاً للقانون الفرنسي تمتنع الدولة عن تمويل أية مؤسسة دينية، وعليه فلم تتدخل الدولة في أيّ تمويل للكنيسة الكاثولوكية، والتي بالفعل تمتلك إمبراطورية اقتصادية قديمة، تجعلها في غنى عن الدولة، لكنّ المسلمين لا يملكون هذا الخيار، وعليه فإنّ بناء مسجد فرنسا الكبير، كأول مسجد يبنى على الأراضي الفرنسية في ثمانينات القرن الماضي،  كان استثناء، في محاولة لاستيعاب المسلمين المتزايدين آنذاك، وقد تضاعف هذا العدد بشكل كبير منذ التسعينيات، وما بعدها؛ إذ إنّ الجيل الأول من المهاجرين، القادم من دول المغرب العربي، محملاً بخطاب القومية والتحرر الوطني والاستقلال، لم يكن في حاجة إلى مؤسسة دينية إسلامية لأنّه بعيد عن الخطاب الإسلاموي، الذي تعالى في الألفية الجديدة، فصارت الجمعيات الخيرية الإسلامية والمساجد والمدارس الممولة من الخارج تملأ أرجاء البلاد.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية