هل ذهبت انتفاضة اللبنانيين إلى غير رجعة؟

هل ذهبت انتفاضة اللبنانيين إلى غير رجعة؟


18/10/2020

فيديل سبيتي

في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، أي قبل عام بالتمام، انتفض لبنانيون كثر اعتراضاً على قرار وزير الاتصالات حينها، محمد شقير، فرض زيادة ضريبية على خدمة تطبيق "واتسآب" الشائع استخدامها في لبنان. كان هذا القرار هو النقطة التي أفاضت كأس حياة اللبنانيين المرّ. ويعرف اللبنانيون جيداً خبايا علاقات المحاصصة وتبادل الخدمات بين الكتل السياسية الحاكمة، التي تتمظهر بشكل فساد إداري فاضح، تحوّل في السنوات الأخيرة إلى سمة من سمات النظام اللبناني، فبات ما نسميه فساداً نوعاً من أنواع المعاملات الإدارية والسياسية في صلب النظام اللبناني.

فساد المنظومة الحاكمة

ومن نتائج الفساد التي تُرى بالعين المجرّدة، تراكم الدين العام بشكل متضخّم مقارنةً بحجم لبنان واقتصاده، يقابله ثراء فاحش للسياسيين من أعلى الهرم إلى أسفله. ومصادرة "القضاء" بكل وظائفه بسبب خضوعه لنظام المحاصصة في التعيين والتوظيف، ما شلّ أي قدرة على المحاسبة. وضُرِبت الحركة النقابية اللبنانية في قلبها فمات الاعتراض المنظّم. وتم "تفصيل" قوانين الانتخابات على قياس الزعماء السياسيين، فتعيد إنتاجهم في السلطة. وأدت "الديمقراطية التوافقية" إلى جعل مجلس الوزراء تركيبةً "مصغّرة" عن البرلمان الذي تقع مراقبة ومحاسبة السلطة التنفيذية على أعمالها ضمن أدواره، ما أدى إلى تعطّل هذه المحاسبة. وزاد التوظيف العشوائي في القطاع العام المتخَم أساساً بالموظفين من دون عمل. وظهرت إلى العلن الصفقات الضخمة التي تُجرى في الكواليس تحت راية عقود التلزيمات في قطاعات أساسية كالطاقة والمياه والكهرباء والاتصالات والصحة والدواء، والمنتجات المدعومة والسدود وقطاعات النقل وغيرها... وصارت عمليات الفساد تخضع لما يسمى لبنانياً قاعدة "6 و6 مكرر"، أي ما تحصل عليه هذه الطائفة من أموال وصفقات وخدمات يجب أن تحصل عليه الطائفة الأخرى بالضرورة.


كرة ثلج تكبر ثم تذوب

في ذلك اليوم، قبل سنة، راحت كرة الثلج تكبر يوماً بعد يوم، فبعدما كان الاعتراض اليومي والاعتصامات والتظاهرات في الساحات العامة والطرق حكراً على بعض الناشطين المسيسين والشباب المثقفين، راحت تشاركهم في نشاطهم الاعتراضي، فئات مختلفة من اللبنانيين الغاضبين والراغبين بالتغيير، من مختلف الأطياف الطائفية والسياسية والطبقية والمناطقية. وحين انتشر شعار "كلن يعني كلن"، الذي يعني أن "الحراك" العام الذي يقوم به اللبنانيون يهدف إلى إسقاط كل الطبقة السياسية الحاكمة التي سمّوها "المافيا" و"العصابة"، رأى اللبنانيون أن حراكهم أو انتفاضتهم التي انتشرت في كل المناطق اللبنانية، وبات لها شعار واحد، بات بالإمكان تسميتها "ثورة"، واتفق الجميع على اسم "ثورة 17 تشرين".

وبالفعل، أُقيمت تظاهرات مركزية "مليونية" عدة إلى جانب النشاطات الاعتراضية اليومية، تؤكد أن الكيل طفح. وكان التنوّع المناطقي والطائفي والعمري للمشاركين في هذه التظاهرات والاعتصامات يشي بتغيّر واضح في عقلية اللبنانيين الذين لطالما وصِموا بتبعيتهم لزعماء الطوائف والأحزاب الطائفية.

عُلّقت آمال كبيرة على ما يجري على الأرض، وشعر الجميع أن شيئاً ما سيتغير في المنظومة السياسية اللبنانية المتجذّرة والمهترئة في آن. وبدأت تتكوّن مجموعات شبابية ملتزمة بالتحركات على محاور مناطقية محددة. وكُتبت آلاف المقالات والتحليلات والتقارير وأُجريت آلاف المقابلات حول ما يجري، حتى أن وسائل الإعلام اللبنانية المعروفة بتبعيتها السياسية تبنّت "الثورة" وحركتها.


قمع وعنف وإنجازات

وتمكنت هذه "الثورة" الممتدة والمنطلقة من دون قيادة موحّدة ومن دون وجوه محددة تمثّلها في المواجهة مع السلطة، من "خلخلة" هيكل النظام السياسي، فانتشرت الفضائح والاتهامات المتبادلة بين السياسيين حول صفقات مشبوهة أجروها خلال السنوات الماضية. وراح بعض هؤلاء السياسيين يتبنون شعارات الثورة على أنها شعاراتهم على الرغم من انغماسهم في المنظومة الفاسدة، وراح آخرون منهم يحاربونها ويصمونها بالعمالة وبأنها تتحرك بأوامر من "السفارات"، وعلى رأس هؤلاء الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله الذي أراد وأد الثورة في مهدها، ونجح في إبعاد الطائفة الشيعية عن المشاركة فيها، بعدما كان لأبنائها دور كبير في بداياتها.

ولم يكتف السياسيون المعادون للانتفاضة بمحاربتها شفهياً وإعلامياً، بل استخدموا القوى الأمنية والجيش اللبناني لممارسة العنف الظاهر على الناشطين فيها وشنّ حملة اعتقالات واسعة في صفوفهم، ثم اضطرت بعض الأحزاب إلى إشراك "أتباعها" المتفلتين، في قمعها عبر إحراق خيم الاعتصامات والتعدي بالضرب المبرح على المشاركين في مخيمات الاعتصامات سواء في المركز أي وسط مدينة بيروت أو في المناطق، وتحديداً في مناطق سيطرة "التيار الوطني الحر"، حزب رئيس الجمهورية ميشال عون، ومناطق الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) في مدن الجنوب اللبناني (صور والنبطية) وفي مدينة بعلبك، حيث جرت محاولات عنيفة لمنع "الثوار" من استخدام الساحات العامة محلاً للتعبير عن رأيهم.

وسقط شهداء في طرابلس وبيروت بسبب هذا العنف... لكن على الرغم من ذلك، تمكنت التظاهرات من إجبار رئيس الحكومة السابق سعد الحريري على تقديم استقالته، وإجبار الطبقة السياسية على اختيار رئيس بديل من خارج المنظومة الحاكمة مع وزراء اختصاصيين، فكانت حكومة حسان دياب، التي أرادتها الطبقة الحاكمة كمخدّر للثوار أو كجائزة ترضية لهم، ولكنها في النهاية كانت معيّنة من قبل الأحزاب ذاتها بطريقة مقنَّعة، لا تقنع أحداً. ثم سقطت هذه الحكومة بدورها على أثر الانفجار الضخم لمرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) الماضي. وتمكنّت الانتفاضة أيضاً من وقف مشروع "سد بسري" بعد إجبار البنك الدولي على وقف تمويله، بسبب الفساد الكبير الذي أحاط بإقراره، ولسوء اختيار موقع السد جغرافياً وبيئياً. ودفعت الثورة بعد انفجار 4 أغسطس، 8 نواب في البرلمان إلى الاستقالة دعماً لمطالب الثوار. ومن ثم دفعت نحو ولادة المبادرة الفرنسية التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مطالباً السياسيين اللبنانيين بالاستماع إلى صوت الشعب. وأبرزت الثورة دور المرأة اللبنانية الكبير في العمل السياسي الاعتراضي الميداني، وكرّست اللاعنف في التغيير، وظهّرت أنواعاً جديدة من الفنون، وتحديداً رسم الغرافيتي في الساحات العامة، إضافة إلى الشعارات السياسية المبتكرة والأغاني الثورية الشبابية المعاصرة.

الجوائح المتتالية

جرت الأمور على هذا المنوال، لما يقارب الخمسة أشهر، قبل أن يصل فيروس كورونا إلى لبنان. في تلك الفترة، كما تكشّف في ما بعد، هرّب السياسيون اللبنانيون أموالهم بملايين الدولارات من المصارف المحلية إلى الخارج، ما أدى إلى انخفاض كبير في حجم العملة الصعبة، فاتخذت المصارف قرارات "هميانوية"، بتحديد سقف الأموال التي يمكن للمودعين سحبها من حساباتهم المصرفية. فكانت هذه القرارات ذات حدَّين، فهي ساهمت في تأجيج الثورة على المدى القريب، ولكن أنهكت اللبنانيين في معيشتهم اليومية على المدى الطويل، كما هي حالهم اليوم بعد مرور سنة على الثورة. وكان لفيروس كورونا، دوراً حاسماً في إبطاء مسار الثورة، حيث أجبر "الحجر المنزلي" الثوار على التزام منازلهم، فخفت بريق الحراك في الشارع، وانخفض الصوت الذي كان مرتفعاً. ثم جاءت الجائحة الثانية على اللبنانيين وهي ارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة اللبنانية بشكل متواتر وسريع، ثم كان انفجار المرفأ، الذي لم يكن ينقص اللبنانيين كي تكتمل مأساتهم ومعاناتهم التي يقولون إنهم لم يعايشوها حتى خلال الحروب الأهلية اللبنانية المتناسلة والمتطاولة.
إضافة إلى كل هذه المآسي، لم تتمكن الانتفاضة، عن قصد أو من دون قصد، من تحقيق كتلة أو جماعات منظّمة تتمكن من تقديم نفسها كبديل للموجود، وحتى شعاراتها بقيت عامة وغير محددة. وربما كانت تحتاج إلى مزيد من الوقت كي يكتمل نموها في رحم الاعتراض إيذاناً بخروج الوليد إلى الحياة، لكن هذا النمو لم يكتمل للأسباب التي ذكرناها سابقاً.

ماذا يقول الناشطون؟

في الذكرى السنوية الأولى للانتفاضة، استفتينا عدداً من الناشطين حول رأيهم بما جرى خلال هذا العام، بعضهم مسيسون وبعضهم الآخر مستقلون ومن الفنانين والشعراء، وقسم ترك البلاد إلى المهاجر بعدما شعر بالخيبة.
الكاتب فادي توفيق، الذي انتقل إلى فرنسا بعدما كان من المؤثرين في الحراك الثوري على الأرض، يصف ما جرى خلال السنة الماضية بأنه "انتفاضة شعبية واضحة لكنها لم تمتلك برنامجاً محدداً، وعلى الرغم من ذلك كان المنتفضون يعرفون تماماً أن الهدف هو الانقلاب على كل الطبقة الحاكمة. ما كان ينقصها هو المشروع البديل الذي يقنع اللبنانيين الآخرين بأن الانتفاضة ستنقلهم إلى لبنان جديد. فالقول بإسقاط المنظومة الحاكمة من دون بدائل حقيقية مطروحة لن يوصل إلى أي مكان. حتى المطالبة بحكومة مستقلين وتكنوقراط، وضعت المطالب أمام سدّ التعريفات، فمن يحدد مَن هو المستقل ومَن هو التكنوقراط؟ الآن بات الجميع يفهم أن الناس استُنزِفت بالكامل، وأن حراك 17 تشرين بات بمثابة ذكرى، يجب البناء عليه ولكن بعد فترة استراحة ومراقبة ولملمة ما تم استنزافه لوضع مشروع لحراك جديد، تقوم به قوى ذات شكل وتنظيم وبرامج واضحة ومحددة".

أما عمار الشيخ حسين، الناشط في حراك مدينة صور الجنوبية حيث كان ضغط "الثنائي الشيعي" كبيراً على الثوار، فيرى أن "التركيبة السياسية اللبنانية علمتنا تاريخياً أن الثورات أو الانتفاضات لا تصل فيها إلى خواتيم معينة. ربما أقصى ما يمكنها هو خلخلة الهيكل لا هدمه. والأحزاب الطائفية المتجذّرة في السلطة تعرف كيف تحوّل أي حراك ضدها إلى مصالح طائفية متضاربة، فتقتل أي حراك في مهده".


لولا فسحة الأمل

أنور أبو الحسن مدرب اليوغا والتأمل، والناشط في مختلف المناطق اللبنانية خلال الثورة، ما زال متفائلاً، إذ يرى أن "الانقلاب على واقع مأزوم ومعوّج هو أمر لا بد سيحدث عاجلاً أم آجلاً. فالإصلاح سيبقى مطلب المواطنين المتضررين من النظام الفاسد. اللبنانيون انطلقوا بحراكهم من هذا المنطلق وأسهمت ثورة تشرين بكسر حاجز الخوف الذي كان سداً منيعاً. ويرينا قمع الثورة بالعنف الفائض الذي جرى خلال تظاهرات انفجار بيروت، أن الثورة أخافت هذه السلطة المتجذرة، فالعنف يولد من الخوف. وأعتقد أن حراكات متتالية خلال السنوات المقبلة ستوصلنا إلى مبتغانا، ولو خطوةً خطوة وببطء".

صانع الأفلام حيدر الصفار يرى أن ما جرى هو انتفاضة وليس ثورة، ويرى أن السياق اللبناني معقد جداً لأي تغيير، فهناك القوى الدولية ومخططاتها ومصالحها، والحصار الاقتصادي وقضية النفط والغاز في البحر المتوسط. "لذا لا يمكن اختصار الأمر برغبتنا في الداخل طالما أن تأثير الخارج كبير جداً".

الفنان التشكيلي أحمد السيد يعتقد أنه "لا يمكن سلخ انتفاضة تشرين عن كل المواجهات والتحركات التي جرت منذ عام 2000، فالفضل يعود إليها في تراكم الوعي الذي أدى إلى الانتفاضة. لقد أخطأنا بالاتكال على الأمل الزائد بالتغيير السريع والملموس، لأن هذا الأمل اصطدم بحقيقة عدم تنظيم المجموعات المشاركة في الانتفاضة وعدم وجود خطة واضحة يمكن الاعتماد عليها للعبور نحو الدولة التي نصبو إليها".


خلخلة النظام

الممثلة والمخرجة المسرحية جيزيل الحصني خوري تساءلت إذا ما كان ما حدث في 17 أكتوبر 2019، ثورة أم بداية ثورة؟، وتقول "لم أفكر للحظة أنها ستحقق ما تريده بعنوانها العريض "كلن يعني كلن". لم يعد يهم كيف بدأت وما هي أسبابها، لكنها فتحت نافذة تسمح بدخول نور الشمس. ربما هي بداية تقدم الفكر الوطني على النفعي في ظل الانقسام الطائفي والتبعية المادية والمعنوية".  

الشاعر وكاتب السيناريو علي مطر يرى أن "ثورة 17 تشرين كانت فيضان الشعب الذي عانى طويلاً من أحقر سلطة موصولة بمجاهل التاريخ وبمصانع الأحقاد والغرف السوداء، لكن ثمة مَن خانها من الداخل. السلطات الفاشية دائماً لديها خطة مضادة للثورة، فتزرع عملائها لتحرف الاندفاع نحو الأهداف المحقة. لم ينجحوا بالكامل مثلما لم تنجح الثورة بالكامل. إنها ثورة نصف مغدورة".

جنى أبي مرشد ناشطة ومدربة في التربية على اللاعنف وحل النزاعات قالت إنه "مهم في المرحلة المقبلة أن يُصار إلى إيجاد مساحة حوار بين أكبر عدد من المجموعات والأفراد لنقاش وتفنيد التجربة، والأهم خلق مسارات وبرنامج عمل جامع وتفاعلي يؤسس لأطر تنظيم قواعد شعبية ولجان الأحياء كي لا تتحول 17 تشرين إلى أيقونة، أو حدث تاريخي فقط".

عن "اندبندنت عربية"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية