هل يحتكر الإسلام السياسي تمثيل المسلمين في أوروبا؟

هل يحتكر الإسلام السياسي تمثيل المسلمين في أوروبا؟

هل يحتكر الإسلام السياسي تمثيل المسلمين في أوروبا؟


05/03/2024

تحقيق: عاصف الخالدي


تكثر الأسئلة حول الوجود الإسلامي الجديد في أوروبا بمختلف أبعاده؛ إذ يصنفه باحثون ومراقبون وسياسيون، كل من وجهة نظره، لكن يبقى السؤال الأهم المطروح؛ هل يضر الإسلام في أوروبا بمصالح الغرب، أم بمصالح المسلمين أنفسهم؟
تصورات كثيرة، معظمها تاريخي، وعقائدي، وأخرى حديثة سياسية، أسهمت جميعها في تعقيد صورة الإسلام والمسلمين في أوروبا، خصوصاً بعد صعود ما يسمى بالإسلاموية أو الإسلام السياسي هناك، ومحاولات حصر فكرة الإسلام والمسلمين أحياناً في حدوده الضيقة، مما ولّد صراعاتٍ متفاوتة حول صورة الإسلام في الغرب.

ترحيب ثم نفور

ترى الباحثة الإيرانية في شؤون التفاهم الإسلامي المسيحي بجامعة جورج تاون في واشنطن، شيرين هنتر، أنّ الترحيب بالمسلمين كأيدٍ عاملةٍ مهاجرة، ظلّ الانطباع السائد حتى سبعينيات القرن الماضي؛ حيث التزمت دول كبريطانيا وفرنسا ببعض الممارسات الأخلاقية تجاه المهاجرين المسلمين من مستعمراتها السابقة بعد أفول الاستعمار، لكن هذا الالتزام "سرعان ما بدأ يتضاءل بفعل الوضع الاقتصادي الصعب في أوروبا، مما ولّد حالة قلق اجتماعي تجاه العمالة الإسلامية وحض دولاً أوروبية لسن قوانين تحدّ من تدفق المهاجرين".
وتضيف هنتر في مقدمتها لكتاب "الإسلام، الدين الثاني في أوروبا" والصادر مترجماً عن المركز القومي للترجمة في 2016، أنّ "دولاً كألمانيا وفرنسا قدّمت حوافز ومكافآت لأولئك الذي يبدون استعداداً للعودة إلى بلادهم، غير أنّ هذا كله لم ينجح؛ بل تم لمّ شمل أسر المهاجرين في أوروبا، وازدادت أعدادهم طبيعياً".

هل يضر الإسلام في أوروبا بمصالح الغرب أم بمصالح المسلمين أنفسهم؟

وكان الإسلام في أوروبا، بدأ يشكل ظاهرة، ليس من خلال أولئك المسلمين المندمجين في مجتمعاتهم الأوروبية؛ بل من قبل المسلمين الذين فكّر العديد منهم بالبحث عن جذوره الإسلامية، أو البحث عن إطارٍ مرجعيٍ لهويته، وغالباً ما كان هذا بسبب تردي حالتهم الاقتصادية، أو لوجود علاقاتٍ أسرية مع العالم العربي والإسلامي، وحتى لو كان هؤلاء المسلمون من أبناء الجيل الثاني أو الثالث ممن وُلدوا في أوروبا، فإنّ منهم من أخذ بالبحث عن هذه الهوية، وفقاً لهنتر.
لكن السبب الأساسيّ في تشكّل تكتلاتٍ واضحةٍ للمسلمين في أوروبا، بدأ فعلياً من خلال جمعياتٍ ومؤسساتٍ إسلامية مختلفة التوجهات، منها ما شجّع التعايش بين المسلمين والأوروبيين، ومنها ما دعم الثقافة الإسلامية كموروث تراثيّ للمسلمين هناك، غير أنّ بعض تلك المؤسسات التي اعتنت بما يُسمى "الإسلام السياسي" كان لها أثرٌ مختلف.

اقرأ أيضاً: المدارس الإسلامية في أوروبا: تكبيل الاندماج وتحفيز التطرف

من مهاجرين مهددين إلى مواطنين يفرضون معتقدهم وطقوسهم أحياناً

المسلمون أيضاً، بدأوا طبيعياً بممارسة طقوسهم الدينية الخاصة في أوروبا، وهي في معظمها جماعية، إضافةً إلى الرغبة بالتميّز من خلال المظهر، كارتداء الحجاب عند المرأة وإطلاق اللحى عند الرجال، مما أشاع مقولة أوروبية تتمحور حول "أنّ مظاهر المسلمين ربما تمثّل تهديداً لقيم التعايش العلمانية في الغرب والتجانس القائم على عدم التمييز بين هوية أو عرقٍ أو دين"، بحسب ما يذهب إليه الباحث في الجغرافيا والعلوم السياسية "س.سيرفاتي" في بحث نشره العام 2007 بعنوان "أوروبا والإسلام، ما بين التهميش والاندماج".

اقرأ أيضاً: هل يهدد التعليم الديني الإسلامي علمانية أوروبا في عقر دارها؟
ويشير سيرفاتي، إلى دور الأحداث السياسية في الدول العربية والإسلامية، في "إيقاظ شعورٍ أوروبيّ بالخوف من الإسلام، كما أنّ المسلمين ظلوا لفتراتٍ متعددةٍ خلال ثمانينيات القرن الماضي، ضحية لسوء الأحوال الاقتصادية بأوروبا، حيث يُنظر إليهم كعبء كلما تدهورت هذه الأوضاع".
وبصورةٍ عامة، أخذت الأزمة بين ما يسمى منظومة القيم (العلمانوية) و(الليبرالية) وثقافة وعادات المسلمين الخاصة تظهر بين حينٍ وآخر بوصف المسلمين أقلية، أو ظاهرة اعتبرها البعض في أوروبا تهديداً لهذه القيم التي قامت عليها دولهم.

اقرأ أيضاً: كيف ارتفعت نسبة المسلمين في أوروبا؟
أيضاً، يبدو أنّ عامل "الإسلام السياسي"، خلق نظرةً حاسمةً في بعض الأحيان تجاه المسلمين في أوروبا، وتشكّل دولٌ رئيسية كبريطانيا وفرنسا وألمانيا، أمثلةً مهمة في هذا السياق.

الديمقراطية أصبحت تثير حفيظة بعض مسلمي أوروبا بفعل الإسلام السياسي

الإسلام السياسي
أسماء عديدة من إسلامويي الدول العربية، ممن التفّوا حول حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين، تفرّقوا في دولٍ عربيةٍ وأوروبية عديدة بعد ما اصطدموا مع الدولة المصرية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ومن أبرز هؤلاء  السكرتير السابق الخاص لحسن البنا، سعيد رمضان، الذي انتقل إلى ألمانيا في الخمسينيات، ليؤسّس هناك "مؤسسة المجتمع الإسلامي" التي ترأسّها حتى العام 1968 وفقاً لتقرير، نشره المختص في الشؤون الإسلامية الأوروبية "لورينزو فيدينو" على موقع "middle east forum" في 2005.

اقرأ أيضاً: الإسلام في أوروبا: اختراق "القارة العجوز" وصعود الإسلاموفوبيا
كذلك، بدأ التوسع لجماعة الإخوان في بريطانيا مبكّراً، حين تأسّس في مدينة "ليشستر" البريطانية مكتبٌ رئيسي للجماعة مطلع السبعينيات، وحمل اسم (المجلس الإسلامي البريطاني) الذي سرعان ما امتد  في بريطانيا "باسطاً نفوذه على ما كان موجود قبلاً من منظماتٍ إسلامية" وفقاً لدراسة موسعة عن جماعة الإخوان ومنشورة على موقع "bilionbibles".
أما موقع "acdemocracy.org"، فيشير في دراسته المنشورة العام 2014، إلى أنّ العام 1972 شهد تأسيس "الندوة العالمية للشباب الإسلامي" بدعمٍ من الإخوانيّ المعروف كمال الهلباوي، وهي مجموعة "سعت إلى تقديم نشاطات تحت مظلتها للشباب المسلمين في أوروبا"، لكن في الظل، وبحسب ما تشير إليه الدراسة ذاتها، فإنّ الهلباوي ترأسّ في بريطانيا "وحدةً أساسيةً للإخوان" امتد نشاطها في أوروبا ووصل خلال عقدٍ من الزمان إلى دعم "العمل الجهادي العالمي" في أفغانستان.

بدأ الإسلام بأوروبا يشكل ظاهرة مع سعي مسلمين للبحث عن جذورهم أو عن إطارٍ مرجعيٍ لهويتهم

كما يرد في الدراسة، أنّ "تبادل التأثير بين جماعة الإخوان في أوروبا ومؤسساتها من جهة، والإخوان في مصر والأردن والعراق ودولٍ إسلامية كباكستان من جهة أخرى توسّع وسط محاولات الجماعة إشرافها أيديولوجياً على المسلمين من باب "الأخونة".. كما أنّ وجود مئات المساجد في بريطانيا، وتفعيل فكرة التبرعات للإسلام والمسلمين من خلالها ومن خلال جمعيات ومؤسسات مختلفة أسهم الهلباوي وغيره في تأسيسها، عملت في بعض الأحيان على دعم ما يمكن تسميته الإسلاموية المسلحة".
وفي هذا السياق، يقول عالم الاجتماع البريطاني ، جون ركس، في بحثه الذي حمل عنوان "الإسلام في المملكة المتحدة"، إنّ "الكثافة السكانية للمسلمين في بريطانيا بدأت من خلال مسلمي باكستان وبنغلادش والهند من غير العرب، غير أنّ الحكومة البريطانية بقيت حتى العام 1991 وضمن إحصائياتها للكثافة السكانية والعرقية، لا تضع أي سؤال عن الانتماء الديني، مما لا يوضّح الأرقام الدقيقة للمسلمين الذين ربما قارب عددهم 2 مليون نسمة حتى منتصف التسعينيات".

بعد عقود هل اندمج المسلمون في مجتمعاتهم الأوروبية حقاً؟

وهؤلاء المسلمون من غير العرب، عمل معظمهم ضمن قطاعاتٍ بسيطة مهنية؛ في الخدمات والمطاعم والحرف، بحسب ركس، ويبدو أنّ المسلمين العرب عملوا في توجهات مختلفة بفضل نوعية تعليمهم أو مجيء بعضهم وهو يحمل خلفية أيديولوجية أو دينية (كجماعة الإخوان)، مما جعل بعضهم يسهم في تأسيس جمعياتٍ ومؤسساتٍ إسلامية تهدف لخلق تكتلاتٍ إسلامية ترأسّها مسلمون عرب، وكان طبيعياً أن تمتلك قوةً جاذبة للمسلمين عموماً في بريطانيا.
ويكشف ركس، عن وجود اختلافات أيديولوجية وسياسية وعقدية بين المسلمين في بريطانيا، حيث يوجد "تيار تجديدي يواجهه تيار تقليدي تقوده جماعات إسلاموية وسلفيون؛ إذ ينطلق التجديديون مثل (أحمد أكبر) وسواه من مؤسساتٍ أكاديمية أو إسلامية، بينما يقف ضدهم إسلامويو الجماعات والسلفيون منطلقين من المساجد (مثل حركة الشباب التي قادها أبو حمزة المصري آنذاك خلال التسعينيات)".

في دولٍ كفرنسا اصطدم المسلمون بمظاهرهم وشكلهم وطقوسهم مع القوانين العلمانية الصارمة

وشهد عقد التسعينيات، وجود أجنحة "تحمل نزعاتٍ متطرفة"، تأثّر بعضها بما يحصل في الأقطار العربية والإسلامية، ويذكر ركس أنّ هذه الأجنحة تعاونت مع حركاتٍ في بريطانيا مثل "الإخوان المسلمين، وجماعة المهاجرين، وجماعة الشباب، والدعوة والتبليغ، وحزب التحرير".
أيضاً، وبحلول العام 2000، أصبحت بريطانيا تضم حوالي 1000 مسجد وفق إحصائيات البحث المذكور، لكنها شهدت انقساماً، حين تحوّل عدد منها إلى "مقراتٍ أساسية لبعض الجماعات الإسلامية مثل جماعة الحديث مثلاً".
ونشطت كذلك مراكز لبعض الحركات الإسلاموية (الدعوية)، كحركة الدعوة والتبليغ التي أخذت ترسل موظفيها إلى المواطنين المسلمين بالتحديد، من أجل "هدايتهم" إلى الدين الصحيح وفقاً لتعاليم الجماعة.

اقرأ أيضاً: "فقه الأقليات" يجعل كل مسلمي أوروبا في نظر اليمين "طابورا خامسا"
وفي بريطانيا، توجد معاهد ومؤسسات إسلامية شهيرة عديدة، مثل "معهد إنجلترا الإسلامي"، إلا أنّه يتضح، أنّ هذه (الأقلية المسلمة) أو المجتمع المسلم في بريطانياً، يحمل صورة بالغة التعقيد في قلبه، ويوجد سعي واضح للسيطرة عليه أيديولوجياً أو سياسياً أو دينياً، لأسباب متعددة تعود إلى جماعات كالإخوان أو غيرها، وإضافة ربما إلى الفروقات الاقتصادية، التي جعلت  عملية الاندماج بين المسلمين والبريطانيين "معقدة" بحسب ركس. حتى إن المسلمين الذين شاركوا في الحياة السياسية البريطانية، ووصلوا إلى مناصب مختلفة، ركّز معظمهم "على تقديم خدماتٍ دينية للمسلمين في بريطانيا"؛ إذ يتبين مدى محاولات ترسيخ الوجود الإسلامي في بريطانيا، وأوروبا نفسها، من خلال قاعدة دينية بالأساس، وهو ما يعود بجذوره إلى العالم العربي تحديداً، وتياراته الإسلاموية.

يشير الباحثون إلى أنّ مسلمي أوروبا تعرضوا لتيارات كالإخوان وغيرهم مما جعلهم متعددين ومختلفين ودخلوا صراعاتٍ أحياناً

ولم يبتعد الإسلام في فرنسا حتى نهاية التسعينيات عن هذا الإطار، من ناحية تأثره بالإسلام السياسي، واستعادة خطاب علاقات المسلمين من أصول مغاربية وجزائرية هناك، بالدولة التي استعمرت بلادهم ونكّلت بها لعشرات السنين.
ويرى الأستاذ والمتخصص السابق في "معهد الدراسات السياسية بباريس"، ريمي ليفو، أنّ الوجود الإسلامي في فرنسا هو الأقدم والأكثر عدداً في أوروبا؛ حيث بلغ 4 ملايين حتى العام 2000، وهو ما وضع فرنسا والمسلمين معاً في إطار علاقةٍ معقدة.

الإسلام السياسي قاد للبحث عن هوية مؤدلجة

ويشرح ليفو هذه العلاقة من خلال بحثه "الإسلام في فرنسا"، ونشره ضمن كتاب "الإسلام، الدين الثاني في أوروبا"؛ حيث إنّ فرنسا من وجهة نظره، ذات خصوصية علمانية أكثر صرامة، من خلال "اللائيكية"  التي تفصل شؤون الدولة بصورة دستورية واضحة عن الدين، وعن مظاهره حتى في الفضاء العام للمجتمع الفرنسي، وهو ما أسهم بعدم ترحيب المسلمين بالاندماج في المجتمع الفرنسي عموماً، ويتشابه النموذج الفرنسي مع البريطاني عند ليفو الذي يقول أيضاً؛ إنّه "لم تكن ترد أسئلة عن الانتماء الديني خلال عمليات إحصاء السكان في فرنسا".

المسلمون في أوروبا ليسوا نسيجاً واحداً ودخلوا سجالاتٍ ومعارك مختلفة متأثرين بالأقطار العربية والإسلامية

أما عرقياً، فإنّ كثيرين قدموا من الجزائر والمغرب وتونس، وشكلوا نواة المسلمين الفرنسيين، ممن "عملوا بداية في الحرف وأعمال البناء والمطاعم، وبقي هؤلاء، سواء تزوجوا من فرنسياتٍ غير مسلمات أو من مسلمات، يحافظون على نسب تكاثر عالية نسبة لفرنسا، مما أبقى غالبية المجتمع المسلم في فرنسا من الشباب"، بحسب ليفو.
وبصورة عامة، يوجد العديد من المسلمين الأفارقة كذلك، ممن التحقوا بالإسلام متأثرين بمسلمي الجزائر والمغرب، ولعل تأسيس "اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا" العام 1983 الذي كان للإخوان المسلمين يد فيه أيضاً، أسهم بتوجيه أوسع لنقاط اختلاف الجاليات المسلمة مع الدولة والمجتمع الفرنسيين.
ومن خلال فرنسا، يمكن وضع النقاط الأساسية التي حاول الإخوان المسلمون ترسيخها في أوروبا، ومن أهمها؛ العمل على جعل الإسلام ديناً رسمياً في أي بلد أوروبي فيه مسلمون، وجذب الشباب من خلال نشر ثقافة الفقه والدعوة للدين الصحيح بحسب الإخوان وغيرهم، وباستخدام لغة البلد الأوروبي الذي يتواجد فيه المسلمون، كذلك محاولة إبقاء المسلمين على اتصالٍ من خلال نوادٍ وتجمعات يمكن من خلالها نشر أفكار أيديولوجية معينة حول الإسلام ومهمات المسلم ودوره.

بفعل العولمة ورثت أجيال مسلمين ولدوا بأوروبا مرجعيات دينية وسياسية مردها العالم العربي

وفي فرنسا، مثلما في بريطانيا، تياراتٌ إسلامية تتواجه ضد بعضها البعض، خاصة العلمانيين في مواجهة الأصوليين والسلفيين وكذلك الإخوان المسلمين، وتوجد جمعيات ومؤسسات مختلفة ترعى هذه النشاطات على تنوعها، مثل "جمعية الأصدقاء الجزائريين"، وجمعية "العمالة التركية"، وهي ليست جمعياتٍ إسلامية خالصة، غير أنّ ليفو يؤكد في بحثه وجود مؤسساتٍ  دينية أكثر تأثيراً، وهي تلك التي انبثقت عن تجمعات المساجد في فرنسا، مثل "مسجد باريس ومسجد مونبيلييه اللذين شهدا هيمنة لإسلاميين جزائريين تارة ولإخوانيين ولغيرهم" في ظل تنافس الحركات الإسلاموية في فرنسا؛ حيث يوجد كذلك "الاتحاد الإسلامي" في فرنسا، الذي شهد صراعاتٍ هو الآخر بين التيارات الإسلاموية.
أيضاً، فإنّ نشاطات هذه التيارات في فرنسا وبريطانيا، وكذلك في ألمانيا وسويسرا، هولندا والنمسا اللتين تعرضتا كذلك لنشاط الإخوان منذ وجود "يوسف ندا" الإخواني الشهير في النمسا منذ ستينيات القرن الماضي، جميعها، وغيرها، تشمل ملايين المسلمين، الذين لا يمكن النظر إليهم ككتلة واحدة؛ بل إنّ الباحثين المذكورين سابقاً، يؤكدون جميعاً أنّ بيئة مسلمي أوروبا تتميز "بالانقسام" والتعدد والصراع.
تركيا ومسلمو البلقان
تركيا، أو ما تبقى من تاريخٍ طويل للعثمانيين المسلمين، دولةٌ تكرس فيها حكم حزب "العدالة والتنمية" (الإسلامي) بقيادة رجب طيب أردوغان منذ ما بعد العام 2002، وهي تستند إلى خزانٍ بشريٍ كبير، من الأتراك والمسلمين في أوروبا (خصوصاً ألمانيا)، وفي دول البلقان أيضاً وألبانيا تحديداً؛ حيث تعمل تركيا بسياساتٍ اقتصادية ودينية معلنة على ربط مسلمي البلقان وبعض مسلمي أوروبا بها، كدولةٍ مرجعية على صعيد المبدأ، من أجل توفير مكاسب سياسية واقتصادية، خصوصاً أنّ محاولاتها الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي خلال ثمانينيات القرن الماضي فشلت، فأخذت تنهل من تاريخها العثماني الماضوي أحياناً، لإيجاد طريقٍ جديدة من أجل التأثير.

تركيا تستثمر سياسياً واقتصادياً في البلقان من خلال دعم مؤسسات ونشاطات إسلامية ترويجاً لمصالحها الخاصة

وفي هذا السياق، ساهمت تركيا عملياً كذلك، في إعادة إعمار لدول البلقان بعد الحرب، "ولعبت دور الداعم الاقتصادي المهم بعد حرب البوسنة والهرسك مركزة على سراييفو، وهي تسهم أيضاً بدعم المجمّعات الدينية والمساجد والأئمة في دول البلقان وما حولها بصورة معنوية ومادية، مستعيدة ولو بصورة أخرى، هيمنتها السابقة على البلقان خلال القرنين الثالث والرابع عشر" بحسب ما يوضحه موقع "the national" من خلال تقرير نشر بتاريخ 5 حزيران (يونيو) 2018.
وتركيا، بحسب التقرير ذاته، تجنح لتحقيق مكاسب سياسية في نهاية الأمر، وتعمل من خلال "سياسة أردوغان للترويج هناك لحملاته الانتخابية، كبديل عن رفض عملية الترويج هذه في عواصم أوروبية، لكن الأهم هو تحويل أسلمة بعض مناطق البلقان التي تتميز أنها مسلمة أساساً، "إلى نموذج ما، يشبه نموذج الشرق الأوسط، إذ يتخذ التدين حيزاً أكبر في المجال اليومي العام، وربما يتجه إلى الأدلجة".

مسلمو البلقان ظلوا الأكثر بعداً عن أدلجة الإسلام السياسي حتى نهاية القرن العشرين

لكن أهمية البلقان أيضاً، ودولٍ فيها كالبوسنة وألبانيا، تكمن في كونها شبه جزيرة ومنطقة ذات طابع ثقافي مميز، تقع في شرق وجنوب شرق القارة الأوروبية مع حدود مختلفة ومتنازع عليها لأن قطاعات من الأوروبيين تنظر إلى هذه المنطقة باعتبارها جسماً غريباً عن أوروبا المسيحية.

ومن خلال بحث منشورٍ لمركز المسبار للدراسات والبحوث العام 2014، يتبيّن أنّ مسلمي البلقان وخصوصاً ألبانيا، نالوا حظوظاً أقل من الانقسام الذي يمكن أن تولّده تياراتٌ أصولية أو تقليدية أو متشددة مع الإسلام في المجال العام، ويرد في البحث الذي حمل عنوان "المسلمون في البلقان، الدين والتاريخ والهوية"، أنّ "مسلمي البلقان بقوا أكثر تأثّراً بسجالاتهم وآلامهم في مواجهة حروب حقبة التسعينيات وشبح التقسيم الذي ظل يخيم بين حين وحين"، وهو ما يعني أن أي تأثّر مؤدلج يخص إسلاماً جماعاتياً أو متشدداً، بقيت فرصه أقل.
وبصورة عامة، ملايين المسلمين في البلقان يحافظون على خصوصيتهم الثقافية المحلية، ويرتبطون بعلاقات أكبر مع تركيا من أي دول عربية أو إسلامية أخرى، كما إنّ وضعهم يختلف عموماً؛ لأنّهم ليسوا جاليات أو أقليات أو ظواهر كما هو وضع المسلمين في دولٍ أوروبية مختلفة، الذين اتضح أنّهم ليسوا كتلة واحدة، وأنّ هنالك نزاعاً بين تياراتٍ إسلامية في أوروبا، مردّه أساساً، المرجعية السياسية والدينية والحركية العائدة إلى العالم العربي، والتي يبدو أنها انتقلت بفعل العولمة حتى، إلى أجيالٍ من أبناء المسلمين ولدوا في أوروبا وبقوا فيها.
أوروبا ذاتها، سوف تدخل هي والإسلام والمسلمين، حقبةً أكثر استقطاباً بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) العام 2001، وستكون هنالك انتقائية أحياناً تجاه تياراتٍ إسلامية بعينها، ليتم تعميمها على الإسلام والمسلمين في أوروبا، لترمز إلى "الإسلاموفوبيا" وصعود ظاهرة الجهاد العالمي، فيما يتم الحديث عن "إسلام معتدل" فجأةً، رغم وجود صور له وتنظيراتٍ وممارسات في أوروبا ومنذ عقود، إضافة إلى ما سوف يلحق ذلك بعد الألفية، من صراعٍ حول العلمانية والليبرالية وغيرهما، وصولاً إلى "الربيع العربي"؛ حيث ستشتعل تساؤلات جديدة عالمية، وليست فقط أوروبية إسلامية؛ أي نموذج من الإسلام هذا الذي يحكم أو يقاتل؟ وأيها يمثّل الإسلام: داعش، الإخوان، أم المهاجرون الذين يحملون إسلامهم ويصرّون على مظاهره بعد أن هربوا من دول "الربيع"؟


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية