"الثوابت" علامة إسكات للخصوم السياسيين على الطريقة الإخوانية

"الثوابت" علامة إسكات للخصوم السياسيين على الطريقة الإخوانية


25/12/2017

لا يملّ منظرّو الإسلام السياسي من استخدام وترداد عبارة “الثوابت” في معرض حديثهم عما يعتبرونه خطوطا حمراء لا يمكن تجاوزها بأي شكل من الأشكال عند التطرّق إلى مناهج التطوير والتحديث وملاءمة العصر.

ينفخ هؤلاء في هذه العبارة التي باتت صمّاء ومُبهمة من كثرة الاستعمالات والانزياحات التي يراد بها التهديد والوعيد أولا وأخيرا، حتى لا يكاد المرء يقرأ أو يسمع كلمة لأحد قادة الإسلاميين إلا وتضمنت عبارة “ثوابت” للتدليل عن معان يظن أنها ترادف كلمات من قبيل: الأسس أو القيم أو المبادئ وغيرها من المفردات التي باتت في حقيقتها لدى الإسلاميين، ممجوجة في كل خطاباتهم التضليلية والتحريضية، ذلك أنها لا تمثّل قيما إنسانية بالمفهوم المتعارف عليه في المواثيق الدولية بقدر ما تضمر عنفا وعداء مبيتا لهذه القيم نفسها.

الحقيقة أن المدلولات الحديثة والمعاصرة لكلمة ”ثوابت” تختلف عن المدلولات القديمة، وأن الاستعمال الحديث للكلمة امتد إلى سياقات سياسية وقانونية، وشمل جميع التيارات السياسية من اليسار واليمين، في حين أنه كان يقتصر قديما على سياقات العلوم الصّحيحة والهندسة ورصد الكواكب والأفلاك.

وترجّح الباحثة والأكاديمية التونسية رجاء بن سلامة، ذلك إلى وجود ”قاع سياسي مشترك” ينتمي إليه السّاسة جميعهم وليس الإسلاميين وحدهم.

الإسلاميون، وإن كانوا يشتركون مع بقية الأحزاب السياسية في التأكيد على ثنائية “الثابت والمتحول” خصوصا أثناء الحملات الانتخابية التي تطغى عليها النزعات الشعبوية، إلا أنهم ينفردون بترداد عبارة “الثوابت” عند معاداة كل سياسة تحديثية تعارض الفكر السلفي وتحاول الانتماء إلى العصر.

طرحت بن سلامة في إحدى محاضراتها بتونس، السّياقات التي كانت ولا تزال تُستعمل فيها كلمة ”ثوابت”، وهي سياقات تأتي ضد الحداثة والقيم الإنسانية الكبرى التي تتفق عليها البشرية مثل المساواة بين الرجل والمرأة على سبيل المثال بدليل تحفظ الإسلاميين على اتفاقيات دولية معروفة ومماثلة في هذا الصدد.

وعبارة “ثوابت” بالنسبة للإسلاميين، هي شعار يُرفع، وتتوقف معه الإحالة، وهي بمثابة ”إشارة توقّف”، وعلامة إسكات للخصوم السّياسيين وفق المنطق التعجيزي.

وتشير الباحثة التونسية بأن أوّل من استعمل الكلمة بهذا المفهوم الحديث، وفي غير سياقاتها القديمة، هم الإخوان المسلمون. وبالرّجوع إلى أدبيّات تنظيم الإخوان، بيّنت بن سلامة أن حسن البنّا، أسّس لفكرة الثّوابت، وأن تلاميذه نقلوا عنه ذلك، وقالوا إن التمييز بين الثوابت والمتغيّرات أساس منهاجه، وألّفوا في ذلك العديد من الكتابات، ممّا أنتج فهما آخر لكلمة ثوابت، فأصبحت تعني الأمور التي يجب أن تبقى دون تغيير أو تبديل على مر الزمان والمكان.

وقالت ”إن ما فعلوه هو أنّهم أسقطوا على الأرض ما كانوا يعتقدون من ثبات الكواكب في السماء”.

واعتبرت بن سلامة، أن الثوابت أصبحت بمثابة القواعد الحاكمة على الأفراد والإطار الضابط لسلوكهم؛ وطرحت استنادا إلى ذلك مجموعة من التساؤلات حول تمييز الدعوة الإخوانية بين الثابت والمتغيّر، وكيف يمكن أن يبقى الثابت ثابتا والحال أن الذوات تراه وتدركه في ظروف متغيّرة؟ وإذا كانت الثوابت ثابتة بطبيعتها فما الذي أنتج الرغبة الإخوانية في مزيد تثبيتها؟

وانتهت إلى تهافت الخطاب الدّعوي للإخوان الذي يقوم على ضرورة التمسك بالثوابت، معتبرة أن ذلك يعني أن الواقع الحالي هو في الوقت نفسه برنامجهم المستقبلي، وبذلك يصبح ”المنشود متطابقا تماما مع الموجود” وخلصت إلى اعتبار ذلك استحالةً عقليّة، قائلة ”لا وجود أصلا لثوابت في عالم متغيّر”، وأن الخطاب الأصولي يعاني من حالة مرضيّة تجعله يصرّ على إنكار الواقع وإنكار الصيرورة التاريخية. وبالتالي، ففكر الإخوان ليس سوى إنكار ممنهج لكل ركن من أركان الحداثة السّياسية والاجتماعية والعلمية، وقالت ”إن الإخوان يحاولون أن يضعوا صخرة في كل نهر دافق”.

ففي حين اقتضت الحداثة انفصال المجتمع عن السّلطة وانفصال الأخلاق عن القانون وانفصال الفضاء الخاص عن الفضاء العام ما أدّى إلى أن الدولة الحديثة لم يعد بإمكانها التدخّل في الكثير من مظاهر حياة الأفراد الشخصية. ومع ذلك ما زال الإخوان المسلمون يصرّون على مقولات من قبيل ”النص صالح لكل زمان ومكان” و”الدّين شُمولي” و”الإعجاز العلمي في القرآن” وغيرها من المقولات التي ما انفك الإسلاميون يكررونها. ووصفت بن سلامة ذلك بالمرض العقلي.

مسألة الثوابت وعمق تأثيرها في المجتمعات العربية والإسلامية الحديثة، وما تفضي إليه من تحزّب وانقسام سياسي واجتماعي غير مثمر، لا يؤدّي إلى مسالك آمنة بقدر ما يؤدّي إلى العنف السّياسي والاجتماعي وإلى انحسار الوعي بالحرّية الفردية في ظل هيمنة السياسة الثبوتية التي ينتهجها ويصرّ عليها قادة الإسلام السياسي، الواضحين منهم في تشددهم والمختفين منهم تحت عبارة “لا تفريط في الثوابت”.

ثمة من يذهب إلى عكس ما أرادت الباحثة التونسية رجاء بن سلامة توضيحه في معرض نقدها للخطاب الأصولي، وذلك عندما يلوّح بعصا فكرة “الثوابت” سعيا وراء إجهاض النهج الحداثي وعرقلته. ويعتقد هؤلاء أن الإقرار بنسبة ”الثوابت” إلى طرف سياسي وإيديولوجي دون غيره، لا يمكن أن يخفي الكثير من الروافد الأخرى الفكرية والثقافية التي ساهمت في صناعة المفهوم وتوجيهه. لكن المتتبع لخطاب الإسلام السياسي وخصوصا ذاك الذي ينتمي إلى الأحزاب الإسلامية التي تدّعي الاعتدال والوسطية وتتصنّع الانخراط في اللعبة الديمقراطية، يلحظ أن كلمة “ثوابت” تستعمل لدى هذه الجماعات أكثر من غيرها في لغة توحي بالمرونة والإقرار بهامش التغيير والتعاطي السلس مع متطلبات العصر، في حين أنها تخفي تشدا يضمر عنفا لغويا وقتاليا يكشف عن أنيابه، ويحيل إلى إيهام الخصم السياسي بأن “عقابا” ينتظره إن هو تطاول على هذه الثوابت.

السؤال الواضح والبسيط الذي ينبغي أن يوجّه لقادة ومنظري الإسلام السياسي هو: قولوا لنا بربكم ما هي هذه الثوابت؟ اكتبوها لنا على قائمة واحدة حتى نريح ونستريح.

المؤكد أن قائمة هذه الثوابت التي يتحدث عنها الإسلاميون ليس لها أول ولا آخر، تطول وتقصر حسب المصالح والغنائم والأمزجة بل إن الإسلاميين أنفسهم لا يعرفون هذه الثوابت طالما أنهم لا يتنبؤون بالمتغيّرات.

التحدث بالثوابت والمتغيرات فيه الكثير من المخاتلة السياسية والتربص بكل ما هو تجديدي وتحديثي، ذلك أن الثوابت في الفكر الأصولي بمثابة الفزاعة أو اللغم الذي لا نعلم متى وأين وكيف ينفجر في حقل خطابهم التضليلي المتلوّن بحسب مواقع الضعف والقوة.. إنه شكل من أشكال سياسة التمكّن التي كان ولا يزال ينتهجها الإسلاميون.

عن صحيفة "العرب"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية