بلقزيز: العولمة اقتلعت الثقافة وعصفت بالاقتصاد والدول والسيادات

العولمة

بلقزيز: العولمة اقتلعت الثقافة وعصفت بالاقتصاد والدول والسيادات


31/10/2017

في لقاء ثقافي تعانق فيه المنهج العلمي مع الحديث الوجداني، حذّر المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز من مدّ العولمة الذي اقتلع الثقافة، وعصف بالاقتصاد والدول والسياسات، فضلاً عن "تدمير قيم إنسانية ناضلت البشرية من أجلها طويلاً مثل؛ السلام والتسامح واحترام كرامة الإنسان وآدميّته"، لافتاً إلى أنّ انتهاك حقوق الأطفال والنساء ليس سوى مثال يسير على "كون الصورة لم تترك شيئاً كريهاً إلا وسلّطت الضوء عليه، محدثة إفقاراً وتسطيحاً للوعي وتنميطاً أيضاً".

كان الحديث حول العولمة وتحدياتها المتصلة بالهوية العربية والإسلامية حديثاً ذا شجون، كما قال بلقزيز في محاضرته أمس الإثنين "أزمة الهوية في عصر العولمة" التي عقدها منتدى شومان الثقافي، وأدارها المؤرخ الدكتور علي محافظة، وحضرها جمهور كبير.

قدّم المفكر، الذي نال درجة الدكتوراة في الفلسفة من جامعة محمد الخامس في الرباط، أطروحته، مستعيداً مصطلح "الأمن الثقافي"، مذكّراً بما كان قاله في بيروت قبل خمسة وعشرين عاماً:

"خسرنا معارك كثيرة. اقتصادياً وعسكرياً وعلمياً. لكن أقسى ما قد نخسره الشخصية الوطنية". "الأمن الثقافي"، في نظره، مكمّل لمفاهيم مثل؛ "الأمن السياسي" و"الأمن الاقتصادي" و"الأمن الغذائي" وغيرها من مصطلحات تلتفت للجوانب كلّها وتغفل الثقافي، بحسبه، على خلاف الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران على سبيل المثال؛ حين اشترط ألاّ تُمسّ الهوية الثقافية لشعبه حتى وإن شهدوا انفتاحاً اقتصادياً.

لم تترك الصورة شيئاً كريهاً إلا وسلّطت الضوء عليه، محدثة إفقاراً وتسطيحاً للوعي وتنميطاً أيضاً

يتحدث بلقزيز عن استهجان زملاء له المصطلح الآنف؛ ظنّاً منهم أنّه ينطوي على انكفاء على الذات وعدم تقبّل للآخر، وهو ما لا يتفق معه الباحث، الذي يحاضر حالياً في جامعة الحسن الثاني، قائلاً إنّ الشعوب العربية أحوج ما تكون حالياً للخروج والمشاركة في صنع الحضارة، معرّجاً على ذريعة أخرى ساقها الزملاء، آنذاك، تتحدث عن عدم إمكانية مقاربة الثقافة بأدوات أمنية.

يرصد بلقزيز مطلع عقد التسعينيات، حين تدهورت الهوية الوطنية العربية جرّاء تغوّل العولمة تباعاً. يقول إن المشهد قبل ذلك لم يكن بكل هذا السوء؛ "إذ لم تصل حد تقويض الهوية"، مستدركاً "لا يعني هذا أنّ السيطرة الثقافية الغربية حديثة العهد، لكنها بقيت تستفحل حتى أدخلت المجال الهوياتي في صدام داخلي".

حتى مطلع الستينيات، لم يكن مفعول الغزوة الكولونيالية متكافئاً في آثاره مادياً وثقافياً؛ فعلى سبيل المثل، زرعت هذه الغزوة أسس الدولة الحديثة من دون أن تنشأ دول حديثة بالمعنى الحقيقي، يتحدث بلقزيز، الذي ألّف 52 كتاباً، مستدركاً إنّه برغم ذلك "استمرت الهوية العربية الإسلامية وبقيت قادرة على إنتاج نفسها"، برغم الفارق بين الزمن المادي، الذي يسير بخطى متسارعة، وبين الثقافي، البطيء والذي بالكاد يتغير. المحصلة، من وجهة نظر بلقزيز، كانت أنّ الثقافة الوطنية، آنذاك، نهلت من منهلين: العربي والإسلامي من جهة، والأوروبي الحديث من جهة أخرى.

 

العولمة تقلب الموازين

لماذا هي ثقافة وطنية وليست إسلامية؟ يتساءل بلقزيز، مجيباً "لأنها كانت مبنية على فكرة الأمة، وليس الملة"، ولماذا هي غربية؟ "لأنها تحررية استقلالية". بقيت الأمور تسير على هذا المنوال، حتى أتت العولمة التي قلبت الموازين كافة؛ إذ أخذت الطابع الاقتلاعي وباتت تعصف بالثقافة، بجميع أشكالها وليس المكتوبة فحسب، أكثر مما عصفت بالاقتصاد والدول والسيادات، بحسبه.

السبب الذي يقف وراء ذلك كله يكمن في أنّ العولمة دخلت من مداخل ثقافية بحتة، على رأسها "وسائل الإعلام" و"النظام المعلوماتي والإلكتروني". وبحدوث ذلك "لم يعد الزمان راكداً كما مضى"؛ إذ بات يصعب على الأنظمة السيطرة على هذه الوسائل جميعها مثلما كانت تفعل رقابياً أو باستئثارها على وسائل البث أو من خلال اعتلاء موجة أي وسيلة اتصال جديدة كما فعل الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، حين سيطر على الراديو وصدّر خطابه ليس لمصر فحسب؛ بل للعالم العربي برمّته، وكذلك فعل الخميني حين جابه بهلوي من خلال أشرطة الكاسيت التي اجتاحت السوق في ذلك الحين.

بات من الصعب على الأنظمة السيطرة على وسائل الإعلام بحكم العولمة، مثلما كانت تفعل رقابياً

سطوة العولمة لا تعني أموراً كثيرة مأخوذة كمسلّمات لدى العقل العربي، منها أنّ العولمة أمريكية الطابع فقط، وأنّها دليل على قوة الثقافة الأمريكية، وأنّ المتضرّرين منها هم العرب فقط. يقول بلقزيز: إنّ الثقافة الأمريكية فقيرة ومتواضعة إذا ما قورنت بالثقافات الأوروبية، لكنها من كانت رأس الحربة في العولمة، تلتها دول أخرى دخلت السباق لاحقاً مثل؛ ألمانيا واليابان على سبيل المثال لا الحصر. كما أنّ الغرب تضرّر منها بشكل فادح، لكن بفارق أنّه كان يملك آليات مقاومة أقوى وأكثر فعالية من تلك التي يملكها العالم العربي. ويستذكر بلقزيز هنا الفاتحين العرب، الذين كانوا أقوياء لغوياً "فعرّبوا بعض الدول"، لكنهم لم يفرضوا قيمهم الثقافية، بل هم من استوعبوا تلك الثقافات واندمجوا بها وأفادوا منها.

ما الذي تغيّر؟
يرصد بلقزيز تراجعاً حاداً في دور الأسرة والمدرسة في العالم العربي، ما أفضى لاستفحال أضرار العولمة مقارنة بالسابق؛ "ذلك أنّ الوهن أصابهما، بالإضافة لكثرة عدد اللاعبين"، متسائلاً "كم من الوقت يمضي الطفل أمام هذه الوسائل الإعلامية والإلكترونية والمعلوماتية مقارنة بما يقضيه أمام والديه؟".

حينما ندافع عن مفهوم الأمن الثقافي الذي استباحته العولمة فإنّما ندافع عن الاستقلالية السياسية

يطرح بلقزيز سؤالاً آخر: "ما الذي تغيّر في النظام العولمي الحديث؟"، مجيباً إن اختلاف المادة الثقافية التي يُشتغَل بها كان له اليد الطولى؛ إذ هيمنت ثقافة الصورة في مقابل المادة المكتوبة، وإن كانت ما تزال حاضرة، لكنها بالكاد تنافس سطوة الصورة وقوتها؛ إذ لا تحتاج الأخيرة للغة كما أنّها قادرة على حمل عشرات الرسائل الثقافية دفعة واحدة، بالإضافة لتشعّبها من حيث الصورة السينمائية والفوتوغرافية والتلفزيونية وكل ما يتعلق بالخدع البصرية وهندسة الصورة.

قد لا يحمل ما أتى به بلقزيز طابع الجدّة، لا سيما لمن يتابع طروحاته على الدوام، لكن قدرته العالية على ترتيب الأفكار وعرضها بتسلسل وسلاسة، وبلغة سهلة مبسّطة ومختزلة، كان له عظيم الأثر في لفت نظر المتلقي وشدّه للخطاب حتى النهاية. الخطاب الذي أنهاه بقوله "استباحة العولمة للنظام القيمي والثقافي هو ما جعل مفهوم الأمن الثقافي ينتزع شرعيته. وحين ندافع عن الأمن الثقافي واستقلاليته، فإنّما ندافع عن الاستقلالية السياسية".

 

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية