"في ظلال القرآن" لسيد قطب: هل اختبأ التكفير خلف سحر البيان؟

"في ظلال القرآن" لسيد قطب: هل اختبأ التكفير خلف سحر البيان؟

"في ظلال القرآن" لسيد قطب: هل اختبأ التكفير خلف سحر البيان؟


14/09/2023

بمجرد الاطلاع على مقدمة تفسير "في ظلال القرآن" لن يحتاج الأمر إلى كبير عناء للوصول إلى الغاية التي يرمي إليها سيد قطب من كتابه؛ فهو لا يمهل القارئ سوى فقرتين صغيرتين قبل أن يصدمه بكلمات لم تُعهد في تفسير آخر، يفصح فيها عن مراده دون أي مواربات.. ".. وعشت - في ظلال القرآن - أنظر من علوّ إلى الجاهلية التي تموج في الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة.. أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية.."!

اقرأ أيضاً: مَن سبق سيد قطب بتجهيل المجتمعات؟

إنّ المضيّ مع سيد قطب في "ظلاله" سيكشف أنّ هذه الكلمات ليست فلتة قلم، أو مجازاً عابراً، بل تكاد تكون هي المحور الرئيس الذي سيجيّر له تفسيره لآيات القرآن الكريم متى استطاع إلى ذلك سبيلاً، فلن يفوّت أي فرصة ليكرّس مفهومه لـ"الاستعلاء على جاهلية" هذا الزمان، التعبير الذي هرب إليه معبراً عن مكنونات نفسه التي لا يُفهم منها إلا تكفير معظم المسلمين باسم ترك حاكمية الله، بعد أن مرّ بمجموعة عاصفة من التحولات في حياته استقر فيها أخيراً بالسخط على هذا المجتمع الذي "هجر طريق الحق".

غلاف "في ظلال القرآن" لسيد قطب

رحلة "الظلال"

لا يمكن فهم سيد قطب، خاصة في السنوات الأخيرة من حياته، دون التعريج على التقلبات الفكرية التي عاشها الرجل، وانعكست على كتاب "في ظلال القرآن" نفسه، الذي مرّ بعملية تنقيح مقصودة لآرائه السابقة، بل والتبرؤ منها كما صرّح، حتى وصل بالكتاب "تقريباً" إلى الصورة التي يريدها، بعدم مجاراة الجاهلية في شيء من تصوراتها، ولا في شيء من أوضاعها، كما يقول في آخر كتبه (معالم في الطريق) الذي يعد خلاصة "ظلاله": "لا بد أن نَثبُت أولاً، ولا بد أن نستعلي ثانياً، ولا بد أن نُري الجاهلية حقيقة الدرك الذي هي فيه بالقياس إلى الآفاق العليا المشرقة للحياة الإسلامية التي نريدها".

لا يمكن فهم سيد قطب خاصة في سنوات الأخيرة دون التعريج على التقلبات الفكرية التي عاشها

مرّ سيد قطب بعدة مراحل في حياته، بدأها شاعراً رومانسياً وناقداً لامعاً (أقرب إلى الليبرالية) تغلب عليه الروح الوطنية والنزعة القومية الواضحة، ثم اتجه بحكم تأثره بأستاذه العقاد إلى الكتابة في الإسلاميات، ثم ليحسم أمره إلى الإسلام الحركي بعد انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين العام 1953.

ورغم هذه التغيرات الحدّية، إلا أنّ ثمة مزاجاً مشتركاً ينتظم شخصيته وانعكس على كل كتاباته رغم تباينها، وهو "الاستعلاء" والاعتداد بالنفس الذي جعله في معركة دائمة مع من حوله، غير عابئ بالعواقب.

تمثل رحلة "في ظلال القرآن" تحولات المرحلة الإسلامية في حياة سيد قطب؛ التي بدأت بالتركيز على الجانب الفني والأدبي في القرآن الكريم، كما في كتابيه "التصوير الفني في القرآن" في العام 1945، و"مشاهد القيامة في القرآن" العام 1947، وقد عمل في كليهما على إظهار نماذج من الصور الفنية الرفيعة في كتاب الله بأسلوب أخّاذ غير مسبوق موظِّفاً قلمه الذي صقلته قراءاته وحصيلته النقدية الفريدة.

لم يفوّت قطب فرصة ليكرّس مفهومه لـ"الجاهلية"

وبعد سفره إلى الولايات المتحدة في نهاية الأربعينيات أخذ مزاجه الإسلامي يتبلور حركياً بالتدريجي، فظهر له "العدالة الاجتماعية في الإسلام" في العام 1949، و"معركة الإسلام والرأسمالية" و"السلام العالمي والإسلام" في العام 1951.

في بداية الخمسينيات أخذت علاقته  بجماعة الإخوان المسلمين تتوثق باعتبارهم "حقلاً صالحاً للعمل للإسلام على نطاق واسع في المنطقة كلها بحركة إحياء وبعث شاملة"، وأخذ نَفَسه الإسلامي يأخذ طابعاً أكثر راديكالية، ومن أهم المؤلفات التي أصدرها في تلك الفترة، "هذا الدين"، و"الإسلام ومشكلات الحضارة"، و"خصائص التصور الإسلامي"، وتعد الطبعة المعدلة من "العدالة الاجتماعية في الإسلام" أبرز علامات التغير الجديد الذي أصابه بعد الفصل الذي أضافه إليه ليحمل أفكاره الجديدة (حاضر الإسلام ومستقبله)، وقد صدّر هذه الطبعة بإهدائه الشهير الذي فُهم منه بأنّه تلميح لجماعة الإخوان رغم نفيه لذلك لاحقاً: "إلى الفتية الذين ألمحهم في خيالي قادمين يردون هذا الدين جديدا كما بدأ.. إلى هؤلاء الفتية الذين يجاهدون باسم الله، في سبيل الله، على بركة الله أهدي هذا الكتاب".

أعاد قطب نشر "في ظلال القرآن" بعد أن أجرى عليه تنقيحات جوهرية لتتوافق مع ما استقر عليه

وفي هذه المرحلة أعاد قطب نشر كتابه "في ظلال القرآن" بعد أن أجرى عليه تعديلات وتنقيحات جوهرية لتتوافق مع ما استقر عليه من أفكار وآراء انقلب فيها على معظم ما كان يؤمن به طيلة حياته السابقة.

وُلد كتاب "الظلال" أواخر العام 1950 من خلال زاوية تحت عنوان (في ظلال القرآن) في مجلة "المسلمون"، التي كان يصدرها زوج ابنة الإمام حسن البنا والسكرتير الشخصي له سعيد رمضان (والد الداعية الإخواني الشهير طارق رمضان).

لقيت هذه الكتابات قبولاً واستحساناً واسعاً من القراء، مما دفع مكتبة دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة للتعاقد مع سيد قطب لإصدارها في كتاب مستقل، فتوقف عن نشر سلسلته في المجلة عند الحلقة السابعة، وظهر الجزء الأول من الكتاب في تشرين الأول (أكتوبر) 1952، وواظب على نشر تفسير جزء واحد من أجزاء القرآن الثلاثين شهرياً وفق اتفاقه مع دار النشر ليتم 16 جزءاً حتى كانون الثاني (يناير) 1954، قبل اعتقاله والحكم عليه بـ15 عاماً إثر حادثة المنشية، لكنه تابع إصدار بقية الأجزاء من سجنه الذي لم يكمل فيه محكوميته لخروجه بعفو صحي في أيار (مايو) 1964. 

اقرأ أيضاً: كيف تسبّبت "هجرة سيّد قطب" في الدفع بآلاف الشباب المسلم إلى المحرقة؟

ورغم ما روّجه الإخوان من تعرض سيد قطب للتعذيب خلال فترة سجنه الأولى، فإنّ الوقائع تفند هذه المزاعم قطعاً، بل يمكن القول إنّ العكس تماماً هو ما حصل، بدليل صدور الطبعة الأولى من الكتاب قبل قرابة 5 أعوام من الإفراج عنه؛ ذلك أنّ السلطات سمحت له بحرية الكتابة رغم أنّ لوائح السجون كانت تمنع ذلك، والأغرب، وفق ما يقول خالد عكاشة في كتابه "أمراء الدم" الصادر العام 2014، أنّ "الرئيس جمال عبد الناصر أصدر قراراً بتعيين الشيخ محمد الغزالي، وكان من كبار موظفي وزارة الأوقاف آنذاك، لتيسير أحوال سيد قطب فيما يتعلق بإمداده بما يشاء من الكتب، ومراجعة ما يكتبه مع الناشر قبل أن تأخذ طريقها إلى الطبع".

الشيخ الغزالي كان هو أول من دعا سيد قطب للانضمام إلى جماعة الإخوان

وبالمناسبة يذكر محمد عمارة أنّ الشيخ الغزالي، الذي اعتقل لاحقاً لأقل من سنة العام 1965، كان هو أول من دعا سيد قطب للانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكان ذلك في العام 1950 بعد أن توطّدت علاقة الرجلين، لكنه قال له: "الأفضل أن أكون بعيداً"!

ألقي القبض على سيد قطب مرة ثانية في آب (أغسطس) 1965 لدوره في تشكيل تنظيم سري "منفصل عن الجماعة" لقلب نظام الحكم وتفجير القناطر الخيرية، وفق شهادة فريد عبد الخالق مرافق حسن البنا وعضو الهيئة التأسيسية ومكتب الإرشاد الأسبق في الجماعة، في الحلقة الأخيرة من لقاء الجزيرة معه في برنامج شاهد على العصر التي بُثت بتاريخ 14/3/2004.

رغم محاولات التجميل فثمة شواهد عديدة في "الظلال" أنّ "الجاهلية" عند قطب ليست سوى تعبير عن التكفير

حتى العام 1965 أكمل سيد قطب تنقيح تفسير أول ثلاثة عشر جزءاً من القرآن وتوقف بسبب اعتقاله الثاني عند بداية تفسير سورة الحجر، وكان أصدر الجزء الأول من الطبعة المنقحة الأولى مطلع العام 1960.

وبعد إعدامه بتاريخ 29 آب (أغسطس) 1966، ظهرت الطبعة الثانية كاملة وقد تضمنت هذه التنقيحات وما تم حذفه من الطبعة الأولى من اللجنة المعنية بمراقبة الكتاب كمقدمة سورة الفجر، ومقدمة سورة البروج التي ضمنها المؤلف أيضاً كتابه "معالم في الطريق" تحت عنوان "هذا هو الطريق".

في العام 1978 ظهرت "الطبعة الشرعية السابعة" التي قدم لها شقيقه محمد قطب، وذلك في ستة مجلدات من الحجم الكبير عن "دار الشروق" اللبنانية، وتضمنت إضافات وتنقيحات تركها المؤلف ونشرت لأول مرة بعد موته، وتعد هذه الطبعةَ التي استقر عليها الكتاب في رحلته الطويلة.

 

 

 

 

ما بين الظلالين

يمكن ملاحظة الفرق بين الطبعة الأصلية التي تقوم "أساساً" على منهج التذوق الأدبي، والمنقحة (التي تضاعف حجمها عن الطبعة الأولى) ما إن تتم مقارنة لغة المقدمتين؛ يقول قطب في الأولى:

"كل ما حاولته ألا أُغرِق نفسي في بحوث لغوية أو كلامية أو فقهية تحجب القرآن عن روحي، وتحجب روحي عن القرآن".

غلبت على النافين تهمة التكفير عند سيد قطب "القراءة المبيتة" لنصوصه

ويتابع موضحاً: "في ظلال القرآن، عنوان لم أتكلفه؛ فهو حقيقة عشتها في الحياة؛ فبين الحين والحين كنت أجد في نفسي رغبة خفية في أن أعيش في ظل القرآن فترة، أستروح فيها ما لا أستروحه في ظل سواه.. حاولت أن أعبّر عما خالج نفسي من إحساس بالجمال الفني العجيب في هذا الكتاب المعجز، ومن شعور بالتناسق في التعبير والتصوير، ولقد كانت هذي إحدى أماني منذ فرغت من كتاب التصوير الفني في القرآن..".

وفي مقدمة الطبعة الثانية يحذف سيد قطب هذا الكلام الشفيف كله، ليهيئ ساحة تفسيره لخطابه الجديد:

"عشت أتملى - في ظلال القرآن - ذلك التصور الكامل الشامل الرفيع النظيف للوجود.. لغاية الوجود كله، وغاية الوجود الإنساني.. وأقيس إليه تصورات الجاهلية التي تعيش فيها البشرية، في شرق وغرب، وفي شمال وجنوب.. وأسأل.. كيف تعيش البشرية، في المستنقع الآسن، وفي الدرك الهابط، وفي الظلام البهيم وعندها ذلك المرتع الزكي، وذلك المرتقى العالي، وذلك النور الوضيء؟

وعشت - في ظلال القرآن - أحس التناسق الجميل بين حركة الإنسان كما يريدها الله، وحركة هذا الكون الذي أبدعه الله.. ثم أنظر.. فأرى التخبط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن السنن الكونية، والتصادم بين التعاليم الفاسدة الشريرة التي تملى عليها وبين فطرتها التي فطرها الله عليها. وأقول في نفسي: أي شيطان لئيم هذا الذي يقود خطاها إلى هذا الجحيم؟".

اقرأ أيضاً: كتاب سفر الحوالي يبعث سيد قطب من جديد

لا يقف الأمر عند المقدمة بطبيعة الحال التي وردت فيها كلمة "الجاهلية" خمس مرات، إذ يظهر هذا الهاجس الجديد بتعمده ذكر هذه الكلمة أكثر من 560 مرة في تفسيره، وهذا العدد بالتأكيد كان مرشحاً للتضاعف لو كُتب له تنقيح بقية تفسيره.

ما يقطع بتأثير أبي الأعلى المودودي على سيد قطب أنه ذكره في 31 موضعاً من "الظلال"

ابحث عن "المسلم العظيم"

لطالما مثّلت نقطة التحول الجذري الأخير لأفكار سيد قطب سراً غامضاً خاصة في تنقيحاته لكتابه "في ظلال القرآن"، لكن قراءة متأنية للكتاب تزيح جانباً من هذا الغموض.

من ضمن التعديلات التي أجراها سيد قطب على كتابه ولم يكن لها أي ذكر في الطبعة الأولى –إضافة إلى تركيزه على كلمة الجاهلية- تكراره لـ "الحاكمية" 77 مرة، وهو كما هو معروف المصطلح الذي أشاعه أبو الأعلى المودودي قبله بسنوات في معظم كتاباته.

اقرأ أيضاً: بعد أن تذوب الشموع حول ضريح الشيخ قطب

ما يقطع بتأثير زعيم الجماعة الإسلامية بباكستان على قطب أنه ذكره في 31 موضعاً من "الظلال" بالإحالة إلى 12 كتاباً له، واصفاً إياه بـ"المسلم العظيم" و"المسلم الصادق".

وهو ما يؤكده أبو الحسن الندوي في كتابه "التفسير السياسي للإسلام" تحت عنوان "التصريحات المماثلة لدى سيد قطب"، إذ يقول: "وقد أعجب الكاتب الإسلامي الكبير الأستاذ سيد قطب الشهيد إعجاباً شديداً بكتاب الأستاذ المودودي "المصطلحات الأربعة في القرآن" ووافقه كل الموافقة في الآراء والأفكار التي يتضمنها".

غلاف كتاب "التفسير السياسي للإسلام" لأبي الحسن الندوي

ومن الأمثلة العديدة على التأثر الواضح بطروحات المودودي حول الحاكمية عندما يقول سيد قطب في معرض تفسيره لسورة الأنفال "والقاعدة النظرية التي يقوم عليها الإسلام -على مدار التاريخ البشري- هي قاعدة: "شهادة أن لا إله إلا الله". أي: إفراد الله –سبحانه- بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية.. إفراده بها اعتقاداً في الضمير، وعبادة في الشعائر، وشريعة في واقع الحياة؛ فشهادة أن لا إله إلا الله، لا توجد فعلاً؛ ولا تعتبر موجودة شرعاً إلا في هذه الصورة المتكاملة التي تعطيها وجوداً جدياً حقيقياً يقوم عليه اعتبار قائلها مسلماً أو غير مسلم..".

اقرأ أيضاً: كيف نظر سيد قطب إلى المرأة؟

لم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ نقل قطب عن المودودي مقتطفات حرفية كان أطولها من كتابه (الجهاد في سبيل لله) تمتد في المجلد الثالث من "الظلال" عبر الصفحات 1444 – 1452، بعد أن مهّد لها بقوله "فإن هناك بقية في بيان طبيعة الجهاد في الإسلام وطبيعة هذا الدين يمدنا بها المبحث المجمل القيم الذي أمدنا به المسلم العظيم السيد أبو الأعلى المودودي .. وسنحتاج أن نقتبس منه فقرات طويلة لا غنى عنها لقارئ يريد رؤية واضحة دقيقة لهذا الموضوع الخطير العميق في بناء الحركة الإسلامية".

اقرأ أيضاً: صفحات مجهولة من حياة سيد قطب

ورغم تأثيرات المودودي الواضحة على سيد قطب، إلا أنّه يمكن بتحليل خطاباته بشكل عام، ملاحظة عامل آخر لا يمكن إهماله داخل شخصيته ولّد لديه الاستعداد لهذا التلقي، وهو نزوعه الرومانسي الدائم نحو المثالية التي قادته في النهاية إلى التطرف باسم "إعادة اكتشاف الإسلام".

ولعل علي الوردي في كتابه "نظرية المعرفة عند ابن خلدون" الذي كتبه العام 1950، يقدم تنبؤاً فريداً بحتمية مآلات من يحملون مثل أفكار سيد قطب (والمودودي نفسه) ممن يدعون إلى "تأسيس دين جديد" أول أهدافه إحياء أو استعادة التقاليد القديمة "للعصر الذهبي" على حد تعبيره، إذ يقول "غير إنّ تلك التقاليد الأقدم غالباً ما تُفسر من جديد وتكتسب معنى جديداً.. يُعتقد أنه المعنى "الحقيقي" و"الصحيح" الذي أسيء فهمه أو تشوّه بمرور الزمن" موضحاً أن هذا "المثالي" سيبدأ بمجرد أن تضطرب مشاعره بتوظيف "العقلانية" و"المنطق" ليتغلب على العقبات التي لا ترضى عنها قناعاته، حد "شيطنة" كل من يعارضه.

كتاب "نظرية المعرفة عند ابن خلدون" لعلي الوردي

جاهلية أم تكفير؟

يقول د.معتز الخطيب في كتابه (سيد قطب والتكفير) "يجب الفصل، بحدّة، بين الأفكار والأشخاص، وبين صحة الأفكار وتضحية أصحابها ومصيرهم، فموت الأشخاص في سبيل فكرة لا يعني صحتها".

مثّل الخلاف حول أفكار سيد قطب ساحة معركة لم تهدأ بين المهاجمين له بتهمة التكفير، والمدافعين عنه ممن غلبت عليهم "القراءة المبيتة" للنص، واقعين، فيما يبدو، تحت سطوة موت الرجل "شهيد مبادئه"، ذاهبين أنّه لم يقل بتكفير المجتمعات، وأنّ وصفه لها بالجاهلية لا يعدو كونه نوعاً من الاستعارة، التي  أسيء فهمها، كسلمان العودة في مقاله  (سيد قطب في الميزان)، وراشد الغنوشي فيما كتبه تحت عنوان (ما مدى مسؤولية قطب عن حركات التكفير والعنف؟).

اقرأ أيضاً: سيد قطب: معالم في طريق مضطرب

رغم محاولات التجميل التي يلجأ إليها المدافعون في هذه المسألة، فإن ثمة شواهد عديدة في "الظلال" تثبت بما لا يترك أي احتمال للشك أنّ "الجاهلية" عنده ليست سوى تعبير مخاتل عن تكفير يتوارى خلف سحر البيان الذي طالما أتقنه؛ إذ يقول في المجلد الثاني: "إن الجاهلية ليست فترة من الزمان؛ ولكنها وضع من الأوضاع، هذا الوضع يوجد بالأمس، ويوجد اليوم، ويوجد غداً، فيأخذ صفة الجاهلية، المقابلة للإسلام، والمناقضة للإسلام..".

كما يؤكد في المجلد الثالث، في عبارة لا تقبل تأويلاً ولا تدع مجالاً للنقاش (وفق تعبير أبي الحسن الندوي): "إنّ الدعوة الإسلامية -على يد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم- إنما تمثل الحلقة الأخيرة في سلسلة الدعوة الطويلة إلى الإسلام بقيادة موكب الرسل الكرام.. وهذه الدعوة على مدار التاريخ البشري كانت تستهدف أمراً واحداً: هو تعريف الناس بإلههم الواحد وربهم الحق، وتعبيدهم لربهم وحده ونبذ ربوبية الخلق.. ولم يكن الناس - فيما عدا أفراداً معدودة في فترات قصيرة - ينكرون مبدأ الألوهية ويجحدون وجود الله البتة، إنما هم كانوا يخطئون معرفة حقيقة ربهم الحق، أو يشركون مع الله آلهة أخرى: إما في صورة الاعتقاد والعبادة، وإما في صورة الحاكمية والاتباع، وكلاهما شرك كالآخر يخرج به الناس من دين الله الذي كانوا يعرفونه على يد كل رسول، ثم ينكرونه إذا طال عليهم الأمد، ويرتدون إلى الجاهلية، التي أخرجهم منها، ويعودون إلى الشرك بالله مرة أخرى.. إما في الاعتقاد والعبادة، وإما في الاتباع والحاكمية، وإما فيها جميعاً".

اقرأ أيضاً: سيد قطب.. بشّر بنجيب محفوظ ثم أمر بقتله!

ويقول أيضاً في المرادفة بين الشرك والجاهلية التي يصف بها المجتمعات المعاصرة عند تفسير الآيات 12 إلى 19 من سورة الأنعام: "إن هذه العصبة تواجه اليوم من الجاهلية الشاملة في الأرض، نفس ما كانت تواجهه العصبة التي تنزلت عليها هذه الآيات، لتحدد على ضوئها موقفها، ولتسير على هذا الضوء في طريقها".

ويتابع بقوله: "لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية، وعادت البشرية إلى مثل الموقف الذي كانت فيه يوم تنزل هذا القرآن"، بل يصل به الأمر إلى القول صراحةً: "البشرية بجملتها، بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات: "لا إله إلا الله" بلا مدلول ولا واقع.. هؤلاء أثقل إثماً وأشد عذاباً يوم القيامة، لأنّهم ارتدوا إلى عبادة العباد.. من بعد أن كانوا في دين الله"!

وفي موضع آخر يؤكد قطب: " إما إسلام وإما جاهلية، إما إيمان وإما كفر، إما حكم الله وإما حكم الجاهلية".

أبرز من اتهم سيد قطب بتكفير المسلمين يوسف القرضاوي نفسه

وشهد شاهد من أهلها

لعل كثيرين يجهلون أنّ من أبرز من اتهم سيد قطب بتكفير المسلمين يوسف القرضاوي نفسه، وذلك في أكثر من مناسبة، كانت البداية العام 2004 مع كتاب مذكراته (ابن القرية والكتاب) فضلاً عن لقاءات تلفزيونية ومقالات؛  ومن أبرز ما كتبه في هذا السياق مقال نشره موقع "إسلام أون لاين" بتاريخ 4/5/ 2004 تحت عنوان "هل يكفّر سيد قطب مسلمي اليوم؟ تمييز المؤمنين من المجرمين.. أُولى المهام!".

لا يكاد يختلف الباحثون حول تأثير كتابات سيد قطب في معظم الجماعات الإسلامية

يبدأ القرضاوي هذا المقال بقوله: من قرأ "ظلال القرآن" لسيد قطب في طبعته الأولى لم يجد فيه شيئاً يدل على هذه الفكرة: تكفير المسلمين الذين يعيشون في العالم الإسلامي اليوم. ولكن من قرأ الأجزاء الأخيرة منه التي كتبها وهو في السجن بعد تغير اتجاهه الفكري، وكذلك الأجزاء الأولى التي عدّلها، وظهر ذلك في طبعته الثانية وما بعدها يجد هذه الفكرة المحورية تسري في الكتاب في عشرات المواضع، بل في مئاتها، يذكرها ويؤكدها كلما جاءت مناسبة، بل في أدنى مناسبة لها".

ثم يتابع: "وسنكتفي هنا بالاقتباس من تفسير سورة الأنعام، من الجزء السابع، ومن سورة الأنفال والتوبة من الجزء العاشر، على اعتبار أن سورة الأنعام من القرآن المكي، وسورتي الأنفال والتوبة من القرآن المدني".

ومما يقتبسه القرضاوي من "الظلال" للتدليل على ما ذهب إليه:

"ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا.. إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين، في أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للإسلام".

"وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله -بهذا المدلول- فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد، كائناً ما كان اسمه ولقبه ونسبه. وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله -بهذا المدلول- فهي أرض لم تَدِن بدين الله، ولم تدخل في الإسلام بعد".

اقرأ أيضاً: في ذكرى رحيله..سيد قطب مُلهم الإخوان ومرجع الحركات الجهادية

ويتابع "إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون، إن الإسلام بيّن والكفر بيّن.. الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله بذلك المدلول، فمن لم يشهدها على هذا النحو، ومن لم يقمها في الحياة على هذا النحو؛ فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين.. المجرمين..".

 

 

 

 

ثم يعقب القرضاوي على هذا الكلام بقوله: "هذا هو الرجل يصرح -بل يصرخ- بما لا يدع مجالاً للشك والاحتمال: أنّ الأوطان التي كانت تعتبر في يوم من الأيام "داراً للإسلام"، وأنّ هؤلاء الأقوام (من سلالات المسلمين) الذين كان أجدادهم مسلمين في يوم من الأيام.. لم يعودوا مسلمين، .. لأنهم لم يشهدوا أنّ "لا إله إلا الله" بمدلولها الحقيقي كما حدده هو، وأشق ما تعانيه الحركات الإسلامية أنها لم يتضح لها هذا المفهوم الجديد.. وهو يريد من هذه الحركات ودعاتها أن يجهروا بكلمة الفصل ولا يبالوا بـ"تهمة تكفير المسلمين"، فالحقيقة أنهم ليسوا مسلمين!!".

"التهذيب" هو الحل؟!

من الواضح أنّ هذا الكلام وغيره قد وضع جماعة الإخوان المسلمين في حرج، فها هو عصام تليمة الداعية الإخواني الهارب المدير السابق لمكتب يوسف القرضاوي يدعو لتهذيب "الظلال" وذلك في مقال له على موقع "إسلام أون لاين" تحت عنوان "نعم يحتاج الظلال لتهذيب واختصار"، بحجة أن ما يجب حذفه، بنظره، موجود كاملاً في كتاب (معالم في الطريق)!

غلاف كتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب

وحتى تتضح فكرته، كما يقول، يسوق تليمة نموذجاً يقارن فيه بين الطبعتين الأولى والثانية، وهو تفسير قطب لقوله تعالى: "ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين. ونجنا برحمتك من القوم الكافرين. وأوحينا إلى موسى وأخيه أن اتخذا لقومكما بمصر بيوتاً، واجعلوا بيوتكم قبلة" (يونس: 85-87).

فيقول سيد قطب في الطبعة الأولى تعقيباً على هذه الآيات: "وعقب هذا التميز، وفي فترة الانتظار بعد الجولة الأولى، وإيمان من آمن بموسى، أوحى اللّه إليه وإلى هارون أن يتخذا لبني إسرائيل بيوتاً خاصة بهم، وذلك لفرزهم وتنظيمهم استعداداً للرحيل من مصر في الوقت المختار، وكلفهم تطهير بيوتهم (واجعلوا بيوتكم قبلة)، وبتزكية نفوسهم (وأقيموا الصلاة)، والاستبشار بنصر اللّه.. وتلك هي التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة النظامية.. ولقد يستهين قوم بهذه التعبئة الروحية، ولكن التجارب ما تزال إلى هذه اللحظة، تنبئ بأن العقيدة هي السلاح الأول في المعركة، وأنّ الأداة الحربية في يد الجندي الخائر العقيدة لا تساوي شيئاً كثيراً في ساعة الشدة".

دعا عصام تليمة إلى تهذيب "الظلال" بحجة أن ما يجب حذفه موجود في (معالم في الطريق)

أما في الطبعة الثانية فيتغير خطاب قطب تماماً: "وهذه التجربة التي يعرضها اللّه على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة، ليست خاصة ببني إسرائيل، فهي تجربة إيمانية خالصة. وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت، وفسد الناس، وأنتنت البيئة.. وهنا يرشدهم اللّه إلى أمور: اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها.. اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد. تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي؛ وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح، وتزاول بالعبادة ذاتها نوعاً من التنظيم في جو العبادة الطهور".

ويستند تليمة في اقتراحه هذا إلى ما فعله محمد قطب، عندما قام بحذف فصل كامل من كتاب (الإسلام والسلام العالمي)، في طبعات دار الشروق كلها، متهماً "أنّ هناك بعض الأعمال العلمية في هوامش الظلال، ونسبة بعض الكتب، والإحالات، هذا أعتقد جازماً أنّه من عمل الأستاذ محمد قطب شقيق الشهيد سيد قطب"!

دشّن قطب "في ظلال القرآن" ومعه ملخصه "معالم في الطريق" بمصطلحاته "البراقة" التي اجترحها كالاستعلاء والعصبة المؤمنة وجاهلية القرن العشرين، بداية النهج للجماعات التي ستتبناه وتطبقه عملياً بالقتل والإرهاب باسم نصرة دين الله، اقتداء بقطب نفسه الذي خطط لذلك باسم "رد الاعتداء"، وفق ما يذكر في وثيقة اعترافاته بخط يده التي اشُتهرت باسم "لماذا أعدموني"!

أكد سيد قطب أن الجاهلية هي الجاهلية والذين يظنون أنفسهم "مسلمين" عليهم أن يستفيقوا

ولا يكاد يختلف الباحثون حول تأثير كتابات سيد قطب في معظم الجماعات الإسلامية التي ظهرت منذ السبعينيات وعلى رأسها جماعة الجهاد في مصر، حتى أنّ زعيمها أيمن الظواهري اعترف في كتابه "فرسان تحت راية النبي" أنّ أفكار سيد قطب كانت المحرك الرئيس للجهاد في نفوسهم، في حين أكد مؤسس "جماعة المسلمين" شكري مصطفى في كتابه "وثيقة الخلافة" أنّ كل من خرج على أفكار صاحب "الظلال" وأقر بإسلام المجتمعات المعاصرة فقد وقع في الكفر والجاهلية الكبرى.. تماماً كما لخص سيد قطب هذه الحال عندما قال: الجاهلية هي الجاهلية.. والذين يظنون أنفسهم "مسلمين" وفي "دين الله" عليهم أن يستفيقوا.. إن كانوا ما يزالون يصرون على ادعائهم الإسلام!

كتاب "فرسان تحت راية النبي" للظواهري

 

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية