أسرار ونوادر في حياة نجيب محفوظ

أسرار ونوادر في حياة نجيب محفوظ


03/09/2022

حسين عبدالرحيم

اسم نجيب محفوظ لم يكن مرادفًا للأدب والروايات والكتب فقط، بل كان يعني أيضًا الندوات الفكرية والنقاشات الثقافية الدائمة. والمعروف أنّ معاصريه من الكتّاب والمثقفين المصريين كانوا يقصدونه ليتعلموا من أستاذهم. يتحلّقون حوله ويقرأون له أعمالهم، ثمّ يسمعون نقده لها. يتحاورون في شتى أمور الحياة، سياسية وفنية وأدبية، ويستنيرون بآرائه.

ورغم مرور ستة عشر عاماً على رحيله ومائة وأحد عشر عامًا على ميلاده وعشرات الكتابات النقدية والتسجيلية والحوارية معه وعنه، مازال هناك الكثير والكثير ممّا هو محجوب ومخفي بقصد أو من دون قصد. وفي هذا التحقيق، سوف نقدم شهادات ورؤى لبعضٍ ممن رافقوا "الأستاذ" في جلساته وحواراته وحزنه المحجوب قبل فرحه. منهم من رحل عن دنيانا، ومنهم من لا زال حيًّا. ولكن جميعاً عرفوه وخلّدوا حكاياتهم معه، فتركوا بشهاداتهم تلك صورةً عن محفوظ الأستاذ والإنسان والصديق.

فمن ذكريات الكاتب سعيد الكفراوي عنه قوله: "زجرني الأستاذ مرّةً لأنني شتمت أم كلثوم. كان محفوظ يقصد الندوة في مقهى "ريش"، وكنا نجتمع من حوله لنحادثه ونقرأ له ونسمع تعليقاته. في يوم، حضر الى المقهى وكانت هزيمة يونيو 1967 قد أصابتنا باليأس الشديد، وكان صوت أم كلثوم ينطلق من مذياع عتيق من فوق الرف في المقهى. كنت آتياً إلى المقهى منهك القوى، ومُتلف الأعصاب وغير قادر على سماع أي شيء. فقمت بسبّ الستّ، معتبراً إياها بوق دعاية للنظام الذي تسبب في هزيمتنا، ومغيبة لوعي الناس ، ساعتها رأيت الشرر يتطاير من عينيه، وهبّ واقفاً وانصرف، ليتوقف أمام إحدى العمارات العتيقة في ناصية سليمان باشا. أكملت كلامي القاسي بينما ظلّ واقفاً بعيداً لا ينبس بحرف. ثم فوجئت به يناديني؛ فهرولت ناحيته. حدق إليّ بغضب ثم وضع يده علي كتفي، وقال بصوت عال: إياك أشوفك أنت وعفيفي! فاهم يا كفراوي؟ وانصرف".

نجيب محفوظ في جلسة برفقة السيدة أم كلثوم

الأستاذ والسياسة

أمّا الناقد الأدبي مصطفى عبد الغني، فحدّثنا عن إحدى ذكرياته عندما سأله ذات يوم عن الشكل والقناع الديني الذي اتخذه ستاراً متعمداً في روايته المصادرة "أولاد حارتنا "، فأجاب: "يا مصطفى أنا كان لازم أبحث عن شكل جديد يحميني من السلطة. "أولاد حارتنا" يا مصطفى بيه تناقش قيمًا ثلاث: الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية".

أمّا عن دور المفكرين يهود كتبوا تقارير عدة كانت سبباً في فوزه بجائزة نوبل؟"، فأجابنا مصطفى عبد الغني: "رأيت بنفسي في منتصف الثمانينات الكاتب الراحل يوسف إدريس وشخصيات يهودية معروفة، كانت تزكي اسمه من خلال تقارير مطولة وأنا أعرف نجيب محفوظ جيداً، فهو لم يسع َ للجائزة بل هي التي سعت  إليه، فإذا قرأنا أعماله فسنكتشف أنه لم يتعرض لذكر اليهود ولا الديانة اليهودية".

ويقول الفنان التشكيلي محمد الشربيني عن محفوظ: "غزو لبنان كان سبباً في دخوله المستشفى. ما زلت أذكر وكأنه قد حدث قبل لحظات آخر كتاب قرأته له، وهو بعنوان "الإسلام والعلم" وترجم عن المجلس الأعلى للثقافة، عقّب الأستاذ نجيب محفوظ قائلاً:

الموضوع ليس جديداً، لكنّ التناول جديد. الإسلام يا محمد قيمة أخلاقية عظيمة وسامية.

وانتهت الجلسة، وبدأت الحرب الإسرائيلية على بيروت في نفس الأسبوع ، وفوجئت بخبر سقوط الأستاذ علي الأرض وارتطامه بقطع من الأثاث في منزله".

وتقول الأديبة فوزية مهران: "كان يسألني الأستاذ: لماذا أنت مُصرّة علي حكْيك  لي عن تفاصيل هذا المسرح (اللامعقول). فهل ترين أن هناك تشابهاً في أعمالي؟ فقلت: مسرح اللامعقول غرائبي وكثير التفسيرات، وأنا أرى فيك موهبة كتابة مسحية عبثية تفوق هذه الأعمال اللامعقولة، فأنت تملك روح المرح والسخرية والروح الشعبية المصرية في خلق النكت. ضحك وفوجئت بعد ذلك بأنه عكف علي قراءة النصوص لآداموف وبيكيت وأوجين يونسكو".

قدم الفنان نور الشريف أكثر من 15 عملاً سينمائياً مستوحى من قصص وروايات نجيب محفوظ

وتضيف: "أتذكر أنني كنت أحكي له قصة "الأستاذ" لكاتبها يونسكو، وهي قصة قصيرة وحوّلها إلى مسرحية من فصل واحد ومشهد واحد فاستغرقته وضحك محفوظ كثيراً ومن ثم عقّب قائلاً:  وماذا ترك لي يونسكو لأكتبه؟".

أمّا الشاعر أحمد الشهاوي فيقول: "كنت قد تعودت على إجراء حوار سنوي مع الأستاذ، ينشر في جريدة مصرية شهيرة بشكل شبه دوري. صعدت إلى مكتبه في جريدة الأهرام لأستطلع وجهة نظره في الحوار عقب نشره مباشرة علي صفحة كاملة ففوجئت بالأستاذ نجيب وقد استدرك بشكل عبقري يندور وجوده، ومعقباً على فقرات الحوار من أسئلة وأجوبة قائلاً: "يا أستاذ أحمد، الحوار محذوف منه أربعة أسطر! وهذا جعلني في غاية الحرج والدهشة لغلبة اليقظة وقوة الذاكرة عند أديب نوبل".

واستذكره الناقد أسامة عرابي بقوله: "كان يطلب مني الحضور مبكراً لقراءة ما يكتب عنه من مقالات ودراسات ، وأذكر أنني قرأت له على جلسات ثلاث دراسات غاية في الأهمية قدمها جورج عن رواية "رحلة ابن فطومة ". أما إذا انتظم عقد الجلسة وحضر رفاقها فإنه يمتنع ويتوقف عن سماع قراءة أي شيء يتعلق به : قائلاً لي بحسم " الجلسة الآن أصبحت ملككم فلا داعي للاستمرار في قراءة أشيائي. وكان يسأل صديقين لنا عرفا باللطف والظرف ورواية الملح والطرائف هما: بليغ بطرس و"رأفت موريس " عن أحداث النكت والقفشات فيما بين الحوارات الساخنة.

ويقول الناقد السينمائي محمد عبد الفتاح: "سألت الأستاذ نجيب ذات يوم: أنت في كل الأعمال التي قمت بكتابة السيناريو لها كنت راضخاً لأهواء المنتج، ومن بعده المخرج، فرد نجيب محفوظ قائلاً: ما دمت قبلت أنك تشتغل "ترزي" (خيّاطًا) يبقي لازم تكون في خدمة الزبون وليس في خدمة هواك!".

وفي الخاتمة، نتذكر شهادة للفنان نور الشريف عن الأستاذ قائلاً:

"قدمت أكثر من 15 عملاً سينمائياً مستوحى من قصص وروايات الكاتب الكبير مع علي بدرخان وعاطف الطيب وحسن الإمام وغيرهم ، ولكن الرواية التي توقفت عندها وسحرتني بل أوجعتني رحلة بطلها الوجودي كانت رواية " قلب الليل". قرأتها لأكثر من سبع مرات ، ومع عدة جلسات مع المخرج عاطف الطيب والكاتب الراحل بمكتبه في الأهرام قال لي عبارة لا أنساها : يا أستاذ نور أنت عارف أنني أحبك جداً وأنت كمان بطلي من أول كمال عبد الجواد في الثلاثية لكن ليتك تعرف أن جعفر الراوي في قلب الليل هو امتداد طبيعي لحيرة عرفة الحمزاوي والناجي والناجي الكبير ويقول نور : كانت شخصية جعفر الراوي بطل " قلب الليل " هي حقيقتي المخفاة وحقيقة كل إنسان مثقف حقيقي".

عن "النهار العربي"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية