الحرب المنسية في السودان

الحرب المنسية في السودان

الحرب المنسية في السودان


23/10/2023

محمد أبو الفضل

يبدو أن الحروب تجبّ بعضها بعضا أو تقوّض الاهتمام بها، فبعد حوالي ستة أشهر من التركيز على الصراع بين قوات الجيش السوداني والدعم السريع غطت الحرب التي تشنها القوات الإسرائيلية على قطاع غزة على ما يجري في السودان من تطورات عسكرية وتحركات سياسية.

 بات هذا التحول من السمات العالمية اللافتة، فكما أثر اشتعال الحرب بالسودان في سحب أضواء الإعلام من الحرب الروسية – الأوكرانية وتبريد المواجهة بين الولايات المتحدة والصين، سحبت الحرب على غزة الأضواء من السودان.

أدت الحرب التي نشبت بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية عقب عملية عسكرية قامت بها كتائب عزالدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، في السابع من أكتوبر الجاري داخل الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل، إلى توجيه الأنظار بعيدا عن السودان، كأن الحرب التي اتسعت رقعتها على أراضيه انتهت أو طويت صفحاتها.

لم يعد كثيرون يتحدثون عنها خارج نطاق السودانيين المعنيين بها مباشرة، وحتى هؤلاء بينهم من يتابعون بكثافة مجريات الحرب على غزة بما لها من روافد إنسانية، وما لامسته من تأثير في وجدان العرب والمسلمين والعالم، وقد يؤدي استمرارها فترة طويلة إلى التعامل معها باعتبارها أمرا عاديا، كما هو الحال بالنسبة إلى السودان الآن.

من الطبيعي أن يقلل طول أمد الصراعات التركيز عليها، وتحدث تغيرات طارئة على جدول أعمال العالم، وأجندة كل منطقة على حدة وفقا لما يدور من تطورات، فعندما حدث انقلاب عسكري في النيجر في يوليو الماضي انصب اهتمام دوائر كثيرة، أبرزها الإعلام، على هذا الحدث الذي زادت سخونته مع حدوث انقلاب آخر في الغابون.

حصدت المواجهة بين قادة الانقلاب العسكري في النيجر وفرنسا اهتماما ملحوظا مع تصميم حكومة نيامي على خروج القوات الفرنسية من أراضي النيجر، ثم استجابت أو رضخت باريس لذلك وقامت بوضع خطة للانسحاب التدريجي، لكن لم تلغ تطورات النيجر الاهتمام بالحرب في السودان تماما لاسيما مع اشتداد سخونة المعارك بين الطرفين المتصارعين وامتدادها إلى أقاليم سودانية مختلفة.

عدم الحديث عن الأزمة المحتدمة في السودان لا يعني وقف الحرب، وعدم متابعة التفاصيل لا يلغي الصراع، فهناك شريحة كبيرة من السودانيين منخرطة فيه ومهمومة بالمراحل التي يمر بها من كر وفر، وصعود وهبوط، بين الجيش والدعم السريع، وربما نسيان الحرب من جانب قوى إقليمية ودولية عديدة وفرّ لهما فرصة للحركة الميدانية بلا سقف أو ضوابط عسكرية، ومنح أحدهما أو كليهما قدرة على خرق بعض المحرمات الإنسانية، ومحاولة التلاعب بمسارات سياسية مختلفة.

أفضى نسيان المجتمع الدولي للحرب في السودان إلى وقف الحديث عن استئناف المفاوضات بين الطرفين، وتجميد غير محدود بوقت زمني لمنبر جدة الذي كادت تدب الحياة في شريانه عقب تجمدها، وفرملة ملف العقوبات التي بدأتها الولايات المتحدة على كيانات وشخصيات تابعة للطرفين المتحاربين أو قريبين منهما، أو من لهم أدوار خفية ومركبة في الأزمة، مثل الإخواني علي كرتي.

انتهز الاتحاد الأفريقي غياب الحرب في السودان عن أجندات إقليمية ودولية متباينة وبدأ يستعيد نشاطه في الحوار مع شريحة مهمة من القوى المدنية، فمعظم الجهات الإقليمية والدولية التي استنفرت بعد اندلاع الحرب في الخرطوم انكفأت للاهتمام بحرب غزة، خاصة مصر التي شغلتها الحرب الإسرائيلية على القطاع وما تنطوي عليه من سيناريوهات تمس أمنها القومي مباشرة عن السودان.

تجاوب القوى المدنية مع طروحات الاتحاد الأفريقي حاليا يشير إلى إمكانية الانخراط في عملية منتجة، ويبعدها عن التعرض لضغوط كبيرة من قوى مختلفة، كذلك الحال بالنسبة إلى قوات الجيش والدعم السريع، وتظل الضغوط محصورة في مكونات موجودة على الأرض وما يمتلكه كل طرف من أدوات تساعده على التفوق وفرض رؤيته.

لا زال السودان بعيدا عن النقطة التي يمكن القول معها إن الجيش تفوق أو قوات الدعم السريع كسبت المعركة أو أن القوى المدنية أخذت تفرض رؤيتها، أو حتى الاتحاد الأفريقي سيطر على مفاتيح إدارة الأزمة، كل ذلك لم يحدث حتى الآن، وغياب السودان عن أجندة المجتمع الدولي لا يعني نسيانه لدى أطرافه الرئيسية.

اعتاد السودان على نسيان حروبه وتجاهل أزماته، لأنها معقدة وتستغرق وقتا طويلا، واللاعبون فيها يصعب حصرهم، والظاهر منهم أقل من القوى المشاركة في إدارة معاركه السياسية وحروبه الخفية، وقد حدث ذلك مع الحرب التي استمرت عقودا في جنوب السودان، وشهدت الحرب في دارفور صعودا وهبوطا، وسئم سودانيون من مناكفة نظام الرئيس السابق عمر البشير إلى أن تمكنت ثورة شعبية من الإطاحة به.

يستحق السودان لقب صاحب أكثر الحروب المنسية في العالم، فهي كثيرة ومتعددة وممتدة ولا تقتصر على أقاليم محددة، وهذه المرة الأولى التي تشهد فيها العاصمة الخرطوم ضجيجا عسكريا عنيفا ويتم تجاهله سريعا.

لم يعتقد كثيرون أن يفتر الاهتمام الدولي بالسودان أو يدخل صراعه الخطير حقلا واسعا من النسيان يجعله غائبا عن خارطة قوى انتفضت بكل طوائفها عندما اندلعت الحرب، ووقتها بدا كأن قياداتها لن يغمض لها جفن بعدها.

لا أعلم ما هو مصير من صدعوا السودانيين بتقديم النصائح والمشورة بعد أن أصبحوا خارج الصورة. ولا أعلم ما هو رد فعلهم عندما يجدون انتصارا يحققه أحد الطرفين قبل أن تبرد الحرب على غزة، وحتما سيحدث برود سواء توقفت أو استمرت قوات الاحتلال في قصفها، فالحرب في أوكرانيا مستمرة، والصراعات والنزاعات في كل من سوريا واليمن وليبيا تحافظ على تواصل الدوران.

قد تبرد الحرب على غزة عندما يتم اعتياد التعامل مع قصف الطائرات والصواريخ الإسرائيلية، ولا يتم الالتفات إلى السودان بالروح نفسها التي سادت سابقا، وتظل حربه منسية أو لا تحظى بالدرجة ذاتها من الاهتمام الخارجي.

وربما تواجه العودة المحدودة بواقع جديد، حدثت فيه تحولات كبيرة لصالح أحد الطرفين، ودخول قوى محلية غيّرت موازين الحرب، فالتجاهل الخارجي ليس بالضرورة يعني تجاهلا داخليا، لأن المشاركين في الحرب لن يفقدوا بوصلتهم أو يتخلوا عن أهدافهم إلا إذا انتصر طرف انتصارا لا يحمل تشكيكا.

يستطيع السودان أن يعيش على وقع الحرب سنوات، وقد تتشكل خارطة عسكرية وسياسية لا تجد الكثير من القوى السودانية مكانا فيها، فالبيئة العامة في البلاد مهيأة لتشكيل كانتونات في أماكن عدة، شمالا وجنوبا، وشرقا وغربا، أو أن تتمكن القوى المدنية من تجميع شتاتها وتوحيد رؤاها ومواقفها وتعود رقما محوريا في المعادلة السودانية، فهي جهة قادرة على تغيير الدفة بعد أن ضاق صدر المواطنين من الحرب.

عن "العرب" اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية