خطاب العنف الدموي في كتاب "الصارم المسلول"... قراءة نقدية

خطاب العنف الدموي في كتاب "الصارم المسلول"... قراءة نقدية

خطاب العنف الدموي في كتاب "الصارم المسلول"... قراءة نقدية


15/06/2023

ما يزال كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول" لابن تيمية يثير الجدل في صفوف الخبراء والباحثين، خصوصاً أنّه عُدّ أحد المراجع الإيديولوجية الملهمة لجماعات التكفير والعنف الديني في العصور الحديثة، إذ يتجاوز حدود الفتوى الدينية المتعينة في الحكم الفقهي على من سبّ الرسول، عليه السلام، إلى وضع إيديولوجيا متكاملة في نقض مبادئ التعايش والسلام المقررة في أصول الأديان السماوية والشرائع الإنسانية.

الكتاب أثار فضول الباحث المغربي محمد أمعارش، الذي أعدّ دراسة حوله بعنوان "تفكيك أصول خطاب العنف الدموي: قراءة نقدية لكتاب ابن تيمية "الصارم المسلول على شاتم الرسول"، قارب فيها صنعة الفتوى في المجال الديني الإسلامي، وتفكيك عدد من استراتيجيات بناء الفتوى وصناعتها، انطلاقاً من اقتناع هيرمينوطيقي أصولي يعتبر الفتوى اجتهاداً بشرياً ظنياً.

خطورة "الصارم المسلول"

يرى الباحث المغربي أنّ الخطورة البالغة لـ "الصارم المسلول" تكمن في تغليبه الإرهاب والترهيب على الحِجاج والحوار والتفاهم، وسلّه السيوف في كل الاتجاهات، وفي القضايا الفرعية الخلافية بين المسلمين أنفسهم.

وأشارت الدراسة إلى وجود سوابق على ابن تيمية ولواحق عديدة في التاريخ الإسلامي، كان فيها أصحاب خطاب العنف والإرهاب من بين ضحايا خطابهم، فكما فتكوا بخصومهم ممّن يخالفونهم الرأي بفتوى القتل ديناً أو سياسة، قُتلوا هم أيضاً بالفتوى الدينية والسياسية القاتلة نفسها.

غلاف الكتاب

ولفتت الدراسة المنشورة على موقع "المركز العربي لدراسات التطرف"، إلى أنّه كلّما سُلّ السيف في نزاعات التأويل والخصومات العقدية، والحوارات الفكرية والخلافات السياسية، وصار إليه الأمر والنهي وتلبست به الفتوى، دار هذا السيف على الجميع وذاقوا منه، بلا استثناء، بقدر ما أذاقوه بعضهم بعضاً، إذ خطاب العنف لا يستثني أحداً ويتعشى مساء بأبنائه كما تغذى ظهيرة بخصومه، فعلى قَدْر ما شَيطنوا كل رأي واجتهاد تُشيطَن آراؤهم واجتهاداتهم.

واستند الكاتب في دراسته إلى مجموعة من الأمثلة، من عصرنا، عن تداول المسلمين السيوف المسلولة على رقاب بعضهم البعض، وتعاطي القتل، وتبادل التكفير والتكفير المضاد، حتى إنّك لا تجد عالم دين أو متكلماً فيه، أو صاحب رأي واجتهاد في القضايا الفكرية والأمور الفقهية، لم يُعرض على السيف، ولم يسلم من لسان التكفير وسنان التهديد بالقتل من شركائه في الملة والدين.

الخطورة البالغة لـ "الصارم المسلول" تكمن في تغليبه الإرهاب والترهيب على الحِجاج والحوار والتفاهم

كما استند إلى التكفيرات المتبادلة بين الجماعات الدينية والمجموعات المذهبية، وضرب بعضهم رقاب بعض، والتحريض على القتل بمجرد الظنة والشبهة والخلاف في الرأي والفروع، ناهيك عن الخلاف في الأصول، وكذا الإشارة إلى العنف اللفظي الشنيع الذي يرسله المفتون على فتاوى واجتهادات غيرهم.

الأصل القتل وإسقاط العفو

وفي قراءته النقدية للكتاب، اعتبر الكاتب أنّه في "الصارم المسلول" لا اعتبار لمصالح المسلمين مع العالمين، ولا احترام لمقتضيات الجدال والردّ بالتي هي أحسن، ولا المعاملة بالمثل مع أهل الأديان الأخرى، إذ يقرّ بحق المسلم في "سبّ دينهم الباطل وإظهار معايبهم"، مع منعهم من إظهار شيء من دينهم أو إعلانه.

وقال: إنّه لا مراعاة في الكتاب لمقاصد الدين في الرحمة بالخلق، ولا لحلم الرسول وعفوه عند المقدرة عمّن هجاه، وصفْحه عمّن شتمه وآذاه، ولا إعمال لقاعدة درء الحدود بالشبهات، أو تغليب الخطأ في العفو عن المسيء على الخطأ في تنفيذ العقوبة عليه، وتوصية الرسول بالتماس المخارج والأعذار للمسيئين على التماس أدلة الإدانة والتوريط، خصوصاً أنّ العقوبة مغلظة وفيها سفك دماء وإزهاق أرواح.

أشارت الدراسة إلى وجود سوابق على ابن تيمية ولواحق عديدة في التاريخ الإسلامي، كان فيها أصحاب خطاب العنف من بين ضحايا خطابهم

واعتبر أنّ الكتاب لم يكتفِ بتقرير حكم تكفير وكفر المستهزئ بالدين والمستخف برموزه، بل يتعداه إلى إيجاب قتله، بله قتل من لا يعتقد بوجوب القتل، إذ التشكيك في حكم القتل، أو ترك هذا الحكم وتعطيله وإسقاطه، خذلان لله ولرسوله.

محمد أمعارش خلص إلى أنّ قارئ كتاب "الصارم المسلول" سينتهي إلى خلاصات خطيرة في استطرادات واستنباطات ابن تيمية وتفريعاته على المسائل، تتجاوز حُكم شاتم الرسول، إلى إعلان الحرب والقتال على المعاهدين من أهل الهدنة المقيمين في بلدانهم إن آذوا المسلمين، وعلى أهل الذمة إن أظهروا شيئاً من دينهم "الباطل"، وإن لم يؤذوا المسلمين.

واعتبر الكاتب أنّ احتفاء جماعات العنف الديني في الإسلام بهذا الكتاب، والاستشهاد بمقتطفات منه في خطاباتها وفي مشاهد ذبحها وتحريقها للمخالفين والأسرى، والتي تنقلها شاشات وسائل الإعلام المرئية، دليل على وقعه الخطير والسيّئ على شباب المسلمين والأغرار ممّن تولوا مهمة الترجمة الأمينة لخلاصاته وتوصياته في العصر.

الوضع الاعتباري الاجتماعي للكتاب/ الفتوى

وترى الدراسة أنّ كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول" عبارة عن فتوى موسعة ومفصلة، ولذلك يتم تصنيفه تارة بالنظر إلى إفتائه في نازلة ضمن مصنفات الفتوى، ويتم تصنيفه تارة أخرى بالنظر إلى موضوعه المتعلق بأصول الاعتقاد في النبوة والإيمان بالنبي ضمن كتب العقيدة وأصول الدين، وبالنظر إلى خوضه في الحدود والأحكام الشرعية المتعلقة بالعقوبات على المخالفات، يُصنّف ضمن الكتب الفقهية والتشريعية، وبالنظر إلى الطابع السجالي الذي بنى به منهجيته وساق به أطروحاته الصارمة بشأن تعين عرض سابة وشاتمة المقدسات على السيف ولا شيء غيره، لمواجهة أطروحات الترخص والتساهل والتسامح المضادة، يُصنّف الكتاب ضمن كتب الردود والجدل.

 الباحث المغربي محمد أمعارش: كتاب "الصارم المسلول" كله مختصر في عنوانه

ويستحضر الكتاب مناخ عصره وانخراط ابن تيمية في أتون الصراعات الدينية والطائفية والمذهبية في بلاد الشام، والتي سعت سلطات الإقليم لاحتوائها وتهدئتها تارة، والاستفادة منها تارة أخرى في خلق التوازنات وتقوية نفوذ الدولة ومؤسساتها الرسمية لمواجهة المخاطر المتربصة بها، وما ضرْب ابن تيمية وسجنه في الواقعة إلّا علامة على انزعاج قطاع عريض من فقهاء المذاهب ومشايخ الصوفية والقضاة والأمراء من تدخلات ابن تيمية في الحياة العامة، بفتاوى مهيجة ومستفزة للاستقرار والأمن الهشين بالمنطقة.

ولفت الباحث إلى توسع حملات تكفير ابن تيمية لمخالفيه في المذهب والعقيدة والسياسة والفكر والرأي، بالتزامن مع توسع حملات خصومه في تكفيره، وكثيراً ما رفعوا أمره إلى السلطات، وسعوا في تجريم فتاواه، وسُجن مرات عديدة بتهم الإساءة إلى الدين، مع الإشارة إلى ما تخفيه هذه التهم من وجود صراع مصالح ومراكز ونفوذ بين فرقاء وشركاء الفعل السياسي والديني لاستقطاب الجماهير أو التقرب للسلطات.

واعتبر أنّ ابن تيمية بصنيعه في "الصارم المسلول" قد خلّد انتصاره العلمي والسيكولوجي في هذه الواقعة، وإن لم ينتصر في الواقع بما كان يأمله من قتل النصراني المتهم، وعلى هذا يمكن اعتبار فتوى "الصارم المسلول" تعبيراً عن موقف سيكولوجي لابن تيمية أكثر منه تعبيراً عن موقف الإسلام.

استراتيجيات صناعة العنف في الكتاب/ الفتوى

يعتقد الباحث المغربي في قراءته النقدية أنّ الكتاب صنع من النصوص المنقولة نسيجاً نصياً آخر هو الكتاب نفسه في بنيتيه السطحية والعميقة، ومن شأن فتح العمليات الإنتاجية المتوارية خلف الكتاب المنتوج أن يزيل الستار عن هذا المشهد المسرحي الآخر الذي تجري فيه مختلف الانزياحات والتحويلات والتنقيلات غير الظاهرة لنصوص وآثار سابقة.

واعتبر أنّ هذا الكتاب/ الفتوى ليس مجرد عمل تدويني ونقلي لتراث السلف في المسائل المفتى بها فحسب، بل حركة تحويلية بامتياز لهذا التراث وزحزحة لمركزه، في إطار برنامج قرائي محكوم بأفق كتابته المتمثلة في الشبكة المعقدة لإنتاجه ضمن هذا الكل الاجتماعي Le tout social الذي نسمّيه ثقافة العصر وصراع المصالح ونزاع التأويلات.

الدراسة: فتاوى القتل والسيف المسلول في كل الاتجاهات ما هي إلا إساءة للرسول، تفوق في خطورتها ونتائجها الضارة إساءات الأغيار

فقد قام ابن تيمية بإسقاط الاختيارات والانتقاءات الجدولية من مدونة التراث الحديثي والفقهي واللغوي والكلامي والأصولي على القاعدة التركيبية لخطابه؛ أي تنزيلها على نَحْوِ فهمه وتقعيده وخطاطة إدماجه وتنميته للنصوص النقلية القديمة المختلفة والمتنوعة السياقات في نص/ كتاب جديد منسجم ومتماسك، يشطب كل الاختيارات المتعارضة في مسألة حكم شاتم الرسول وعقوبته غير اختيار الحكم بالسيف.

وحسب الدراسة، فإنّ هذا الكتاب عمل على النصوص وتعديل لها اجتماعياً وثقافياً (الاجتهاد = بذل الجهد)، حتى تصلح للاستعمال الجديد والمبادلة الزمانية.

وشدّد الكاتب على أنّ كتاب "الصارم المسلول" كله مختصر في عنوانه، وأنّه اعتمد على استراتيجية الجمع والتفرقة وعلى حكم التغيير على الفتوى.

هذا، وخلصت الدراسة إلى أنّ فتاوى القتل والسيف المسلول في كل الاتجاهات، ما هي إلا إساءة للرسول تفوق في خطورتها ونتائجها الضارة إساءات الأغيار، وتخلفاً بالمسلمين عن ركب هذا التقدم والتعاون الحضاري، وجناية كبرى في تاريخهم المعاصر.

مواضيع ذات صلة:

"الدولة الإسلامية".. لماذا هي مستحيلة؟

"الإرهاب: مقدمة نقدّية".. كيف نفهم الظاهرة بعيداً عن السائد؟

"الفلسفة في زمن الإرهاب": هل من وصفة لمواجهة أخطار الإرهاب المدمّرة؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية