سترات صفراء وإرهاب أسود.. الصراع بين الديمقراطية والإرهاب في فرنسا

الإرهاب

سترات صفراء وإرهاب أسود.. الصراع بين الديمقراطية والإرهاب في فرنسا


18/12/2018

بالتزامن مع تعرض الحكومة الفرنسية، وقوات الأمن الفرنسية، لضغوط هائلة من احتجاجات "السترات الصفراء" المناهضة للحكومة؛ حيث تمّ نشر الآلاف من رجال الشرطة وقوات الأمن، السبت الماضي، 15 كانون الأول (ديسمبر) 2018؛ جاء الهجوم الإرهابي الذي تبنّاه تنظيم داعش، بعد قيام الأجهزة الأمنية بقتل منفذ الهجوم، المدعو شريف شيخات، الجمعة، 14 كانون الأول (ديسمبر) 2018، في حيّ نيودورف مدينة ستراسبورغ.
اقرأ أيضاً: السترات الصفراء ونزع السحر عن الديمقراطية

وفي التفاصيل، قُتل، مساء الثلاثاء،11 كانون الأول (ديسمبر) 2018؛ 4 أشخاص، وأصيب 11 آخرون، في إطلاق نار وقع وسط مدينة ستراسبورغ السياحية، ومقرّ البرلمان الأوروبي؛ الذي كان أعضاؤه يعقدون فيه اجتماعاتهم الدورية ذلك اليوم، حسبما أفادت السلطات الفرنسية.

وحدث إطلاق النار، بشكل عشوائي، في سوق لمستلزمات عيد الميلاد في مركز المدينة، بطريقة تشي بأنّ المهاجم كان يطلق النار من قناصة، وذكرت السلطات الفرنسية أنّ المهاجم أصيب خلال عملية مطاردة أمنية.
وقد أعلنت النيابة العامة الفرنسية؛ أنّ حادث إطلاق النار عمل إرهابي، وأنّ نيابة مكافحة الإرهاب تفتح تحقيقاً في الهجوم الإرهابي، ولم تعرف بعد دوافع المهاجم.

اقرأ أيضاً: تظاهرات "السترات الصفر" هذه حصيلة الموقوفين والمصابين
وقالت تقارير إعلامية فرنسية: إنّ "شريف شيخات، يبلغ 29 عاماً، وكان مدرجاً على لوائح الإرهاب، ولد في شباط (فبراير) من عام 1989، في ستراسبورغ، واعتنق أفكاراً دينية متطرفة، عندما كان يمضي فترة عقوبة بالسجن؛ إذ سبق وأدين بسبع وعشرين تهمة سرقة وعنف، وقضى فترات بسجون فرنسا وسويسرا وألمانيا؛ حيث تمت إدانته بجرائم صغيرة، مثل: الاعتداء على شاب بسكين، والسرقة بالعنف، وعاد إلى فرنسا عام 2017، عقب قضائه عقوبة في ألمانيا. وأدرج في قائمة "إس"، التي تضمّ الأشخاص الذين يشكلون خطراً على أمن فرنسا".
من احتجاجات "السترات الصفراء" المناهضة للحكومة

الصراع بين الديمقراطية والإرهاب
بعد العملية الإرهابية؛ هبّ عددٌ من وزراء الحكومة وإعلاميين للدعوة إلى ضرورة وقف احتجاجات "السترات الصفراء"، بحجة توحيد الجهود في مواجهة الإرهاب، وأن توقف التظاهرات السبت، 15 كانون الأول (ديسمبر)، بعد هجمات ستراسبورغ.
ورفعت الحكومة مستوى التأهب الأمني في البلاد، عقب العملية الإرهابية، وفق ما أعلن وزير الداخلية، كريستوف كاستنير، كما فرضت إجراءات رقابة مشددة على حدودها، وفي كلّ أسواق عيد الميلاد.

يمكن أن تقودنا "نظرية المؤمرة" إلى حدّ الادعاء بأنّ عملية ستراسبورغ ربما تكون مدبرة من قبل الحكومة

وكانت فرنسا قد فرضت حالة الطوارئ بعد الاعتداءات المسلحة الدامية في باريس، العام 2015؛ حيث شهدت، في الثالث عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، أسوأ اعتداء في تاريخها؛ عندما هاجم جهاديون العديد من المواقع، وقتلوا 130 شخصاً، وأصابوا 350 آخرين، وكانت من بين المواقع المستهدفة؛ قاعة باتاكلان للحفلات الموسيقية بالدائرة الباريسية الـ 11، وحانات، ومطاعم، و"ستاد دو فرانس" شمال العاصمة، وأعلن تنظيم داعش آنذاك مسؤوليته عن الهجمات.
وقبل ذلك، فرضت حالة الطوارئ أيضاً، بعد اضطرابات شهدتها الضواحي، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2005، وبعد ثلاثة أعوام من قيام مجموعات من الإرهابين بقتل 130 شخصاً في باريس، في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، تقول أجهزة مكافحة الإرهاب: إنّ "وجهة تركيزها تغيّرت، وبدلاً من الهجمات المنسّقة، بات همّها الرئيس تجنّب الهجمات المنفردة من متطرفين يتحرّكون دون أن تكون لديهم صلات مباشرة بالجماعات الإرهابية، وتعني هجمات "الذئاب المنفردة"".

اقرأ أيضاً: نتائج تحقيقات اعتداء ستراسبورغ
يمكن أن تقود "نظرية المؤمرة" إلى حدّ الادعاء بأنّ عملية ستراسبورغ ربما تكون مدبرة من قبل الحكومة، لحرف بوصلة الاتجاهات، ومحاولة شقّ صفّ السترات الصفراء، بالنظر إلى أنّ البرلمان الأوروبي، الذي يتخذ من ستراسبورغ مقراً له، أغلق، مع عدم تمكّن أعضاء البرلمان الأوروبي والموظفين والصحفيين من مغادرة المبنى، والبرلمان في دورته العادية حالياً، مع مئات من النواب الأوروبيين والمسؤولين الذين يقومون بالزيارة الشهرية إلى ستراسبورغ من بروكسل.
كما كانت أجهزة الاستخبارات الفرنسية قد ألمحت إلى إمكانية حصول هجمات تستهدف أسواقاً ومهرجانات في مناسبة عيد الميلاد، بعد ورود تهديدات من قبل منظمات إرهابية.

منفذ العملية شريف شيخات

مسؤولية داعش عن العملية
وتؤدي التصريحات الرسمية، والبيانات والتصريحات، وما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل التنظيمات الإرهابية، غالباً، إلى تشوش المشهد بعد العمليات الإرهابية مباشرة.
وهذه ظاهرة انتشرت في العالم، خاصة بعد موجة إرهاب تنظيم داعش، بعد عام 2014، وإعلان دولة الخلافة، وعمليات التنظيم في عدد من مدن العالم، خاصة في فرنسا، وانتشار ظاهرة "إرهاب الذئاب المنفردة".
وهذا التشويش يقسم إلى قسمين: الأول: مقصود لغايات سياسية تهم صانع القرار، يقوم ببناء قصته خبراء مختصّون في دوائر صنع القرار، وكثيراً ما تخرج هذه القصة عن السيطرة بعد انتشارها.

اقرأ أيضاً: تعرّف إلى منفّذ هجوم ستراسبورغ
والثاني: خارج عن إرادة صانع القرار، وتصنعه الفواعل الاجتماعية النشطة ساعة وقوع الحادث، ومن ضمنها؛ وسائل إعلام الدولة من جهة، والجماعة الإرهابية من جهة مقابلة ومنافسة، وهنا يكون التنافس على أشدّهِ بين الطرفين.
ومن رحم هذه الأجواء المشحونة تولد أشكال التضليل الإعلامي والدعاية؛ لكسب الرأي العام، أو تجنيد الأتباع، و"خداجات" الإشاعات، ونظريات المؤامرة.
في المثال الأول؛ يمكن أن نلاحظ كيف سارع تنظيم داعش، عبر "وكالة أعماق"، فور الإعلان عن قتل الشرطة الفرنسية لمنفذ العملية مسؤوليته عن العملية.
ورغم أنّ داعش تأخر في إعلان انتماء شيخات للتنظيم، إلّا أنّ مجموعات من مؤيدي التنظيم احتفلوا بالعملية، والتعبير عنها على شبكة الإنترنت، وقناة "تلغرام"، بعبارات وتعليقات تحتفل به كأحد جنود الخلافة، ونشر صور له، قبل إعلان داعش مسؤوليته عن العملية، وهو ما يرجّح أنّه ربما كان قد بايع تنظيم داعش بالفعل. مع أهمية ملاحظة أنّ تنظيم داعش قلّما يتبنى عمليات إرهابية في أوروبا، قبل مقتل منفذيها، وهذا أحد أقذر وجوه الإرهاب في صراعه مع الديمقراطية والحرية.

 قلّما يتبنى تنظيم داعش عمليات إرهابية في أوروبا، قبل مقتل منفذيها

بدايات دخول الفوضى

في المثال الثاني؛ يمكن أن نلاحظ كيف سارع العديد من أصحاب "السترات الصفراء" إلى القول، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إنّ عملية ستراسبورغ ما هي إلّا مؤامرة من حكومة ماكرون، لمنعهم من النزول إلى الشارع، يوم السبت 15 كانون الأول (ديسمبر) الجاري؛ إذ كيف لشخص مراقب 24 ساعة دون توقف ولا يمكنهم اليوم اعتقاله؟ مؤكدين أنّ حملة السترات الصفراء لن تتوقف إلى أن تتمّ الموافقة على جميع المطالب، وأنّ الحركة مستمرة، وسيكون الشارع الفيصل بينهم وبين الحكومة الفرنسية.

اقرأ أيضاً: الذئاب المنفردة: هل هي إستراتيجية أم تكتيك؟

كما اعتبر المتظاهرون عبر مواقع التواصل أنّ ما حدث في ستراسبورغ مؤسف، لكن هذا ليس من شأنهم، ولا يهم تحركهم في شيء، وهو المهم، مؤكدين "لن تتوقف السترات الصفراء"، وبالفعل خرج أصحاب السترات الصفراء، وإن بأعدادٍ أقل، وقاموا بالتظاهر، السبت الماضي، غير آبهين بتحذيرات ومطالب حكومة ماكرون.
وهنا يمكن ملاحظة بدايات دخول الفوضى والخلاف والصراعات والتنافس السياسي على حساب قيم الحرية والديمقراطية التي تعدّ أسّ الجمهورية الفرنسية.
فما عدّها البعض عملية إرهابية؛ ذهب آخرون إلى أنّها مجرد مؤامرة من حكومة ماكرون لمنع المتظاهرين من النزول إلى الشارع، وإعلان حالة الطوارئ، للتضييق على حرية المحتجين من أصحاب السترات الصفراء، وبالفعل قامت الحكومة برفع مستوى التأهّب الأمني، وعززت الإجراءات الأمنية على الحدود الفرنسية، خوفاً من هروب منفذ العملية إلى دول أوروبية مجاورة.
ورأى العديد من البرلمانيين أنّ إعلان حالة الطوارئ لم يكن ضرورياً، وهو إجراء استثنائي، تمّ اتخاذه عقب هجمات باريس، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015؛ التي راح ضحيتها 130 شخصاً.
وقالت وزيرة العدل، نيكول بيلوبي: "بإمكان فرنسا الارتقاء إلى مستوى الأحداث دون إثارة حالة الطوارئ"، مؤكدة أنّ رفع مستوى التأهّب يمكّن عناصر الأمن من تجنّب أيّة محاولة إرهابية تهدّد الأمن العام.

وزيرة العدل نيكول بيلوبي: بإمكان فرنسا الارتقاء إلى مستوى الأحداث دون إثارة حالة الطوارئ

وأعلن وزير الداخلية الفرنسي رفع مستوى التأهب الأمني؛ حيث حشد 700 من عناصر الأمن في مدينة ستراسبورغ، للبحث عن المشتبه به، بعد هروبه لمدة يومين، إلى جانب رفع عدد عناصر الأمن والجيش على الحدود مع ألمانيا وسويسرا، وأسواق عيد الميلاد والأماكن العامة، ووضعت السلطات ما يسمى الرقم الأخضر للعامة؛ للتبليغ عن المشتبه به، ووزعت صورته في جميع المناطق الفرنسية.
ثم تبع ذلك؛ قيام السلطات بتسريب المعلومات عن منفذ العملية، شريف شيخات، إلى وسائل الإعلام، والقول إنّه من أصل مغربي، من مواليد 1989، ولد في ستراسبورغ، ومدرج في قائمة "أس"؛ التي تضمّ المتطرفين والخطرين على الدولة الفرنسية، وقد عرف، بحسب تصريحات جيرانه، بالسرقات والعنف والسطو، مؤكدين أنّهم لم يلاحظوا عليه أيّ شكل من التطرف أو الالتزام الديني!

اقرأ أيضاً: إرهاب الذئاب المنفردة لدي سيمون: صرخة إنذار
وأنّه كان متهماً في قضية "محاولة القتل والتآمر الإجرامي لارتكاب جريمة" منذ آب (أغسطس) الماضي، وصدر قرار بالقبض عليه، صبيحة العملية الإرهابية، حيث لاذ القاتل بالفرار بينما تمّ القبض على شركائه!
وقد رأى القاضي السابق في مكافحة الإرهاب، مارك تريفيديتش، في إحدى المقابلات التلفزيونية؛ أنّ الهجوم ليس منظماً أو متصلاً بمجموعة إرهابية أرادت أن تفعل شيئاً ما في السوق، وإلا لكانوا فعلوا ذلك والسوق مفتوح.
من جانبه؛ صرّح كاتب الدولة بوزارة الداخلية الفرنسية، لوران نونيز: بأنّ شيخات أصبح متطرفاً بين عامَي 2013 و2015، وعند وجوده بالسجن جذب انتباه أجهزة الاستخبارات الخاصة بالعنف والتطرف، إثر ممارساته الدينية والدعوية، ومنذ ذلك الحين أصبحت كلّ خطواته تحت المراقبة؟

كاتب الدولة بوزارة الداخلية الفرنسية، لوران نونيز

الأسئلة والشكوك
كلّ هذه التصريحات الرسمية الكثيرة، وغير المتسقة بالنسبة إلى خبراء مكافحة الإرهاب والمحللين السياسيين، أثارت الأسئلة والشكوك.

الثورة الفرنسية صنعت قيم الحرية والديمقراطية بالوقت نفسه الذي صنعت فيه الإرهاب بشكله المعاصر

ومن هنا، يبدو، جاء تساؤل العديد من المحللين والسياسيين، حول عدم الانتباه إلى رغبة شيخات في المرور إلى مرحلة التنفيذ لعمل إرهابي، رغم أنّه يخضع لمراقبة شديدة، وهو ما أجاب عنه كاتب الدولة بوزارة الداخلية الفرنسية، لوران نونيز، بسذاجة: "للأسف، لم تتم ملاحظة أيّة رغبة في القيام بعمل ما"! وكأنّه كان من المفروض على شيخات أن يصرح لسجانيه بأنّه ينوي القيام بعملية إرهابية، ولمصلحة تنظيم داعش؟!
ولعلّ من مفارقات التاريخ العجيبة؛ أنّ الثورة الفرنسية صنعت قيم الحرية والديمقراطية بالوقت نفسه الذي صنعت فيه الإرهاب بشكله المعاصر.
ويبدو أنّ قدر فرنسا سيبقى محكوماً بالصراع بين قيم الحرية والديمقراطية وتهديد الإرهاب العالمي والنزعات الشعبّوية.

اقرأ أيضاً: سعود الشرفات: ظاهرة الذئاب المنفردة ستنتشر أكثر
فما يجري اليوم في فرنسا؛ هو صراع عنيف بين قيم الديمقراطية والحرية والإرهاب، والسؤال هو: هل يمكن العبور من خلال الديمقراطية وقيمها إلى مكافحة الإرهاب، أم ينجح الإرهاب بالعبور ليدمر الحرية والديمقراطية وقيمها؟
وهنا يجب ألّا يغيب عن البال أنّ ماكرون جاء أصلاً بشكل صاعق ومفاجئ، كممثل للعقلانية الديمقراطية والليبرالية الغربية ضدّ تمدد الشعبّوية واليمين المتطرف المحفز الأكبر للإرهاب العالمي، فهل ينجح في العبور بالحريات والديمقراطية لمكافحة الإرهاب دون أن يكبح ويعرقل أسس هذه الديمقراطية التي يدعي الكثير من الفلاسفة والمحللين الغربيين اليوم بأنها هرمت وتكاد تلتهمها القومية والشعبّوية؟

الصفحة الرئيسية