قصص من سجون الحوثيين: أرقام وحالات إنسانية تكشف حجم الكارثة

قصص من سجون الحوثيين: أرقام وحالات إنسانية تكشف حجم الكارثة

قصص من سجون الحوثيين: أرقام وحالات إنسانية تكشف حجم الكارثة


23/01/2024

بلغ عدد المعتقلين والمختطفين في سجون الحوثيين، منذ استيلائهم على السلطة في أيلول (سبتمبر) 2014 حتى نهاية آب (أغسطس) 2022، أكثر من (16800) مدني يمني، بحسب تقرير للشبكة اليمنية للحقوق والحريات. وثمّة تقارير عن الموضوع نفسه نشرها "التحالف اليمني لرصد انتهاكات حقوق الإنسان"، ومنظمة "مساواة للحقوق والحريات". من بين المختطفين في سجون الحوثيين: (389) سياسياً، و(464) ناشطاً، و(340) إعلامياً، و(176) طفلاً، و(374) امرأةً، و(342) تربوياً، ونحو (512) شيخاً وشخصية اجتماعية، و(216) واعظاً، و(154) أكاديمياً، و(217) طالباً، و(96) محامياً وقاضياً، و(93) طبيباً، و(376) موظفاً، و(293) من عمال النظافة والمهمشين، و(81) من الأجانب واللاجئين، و(78) تاجراً. ومن بين المختطفين لدى الحوثيين مسنّون تتجاوز أعمارهم الـ (60) عاماً، وكذلك أطفال وجرحى ومرضى.

وقد قُتل بسبب التعذيب (293) معتقلاً مدنياً، و(147) تمّت تصفيتهم داخل السجون، و(282) توفوا بسبب الإهمال في السجون، و(92) قضوا بنوبات قلبية؛ بعد حرمانهم من وصول العلاج اللازم لهم. كما أصيب (52) معتقلاً بفشل كلوي وشلل كُلِّي أو نصفي نتيجة التعذيب والإهمال. وتوفي أكثر من (98) معتقلاً بعد خروجهم من سجون ميليشيات الحوثي بأيام قليلة. وأكدت التقارير أنّ نحو (1317) ما يزالون مخفيين قسرياً، من بينهم (84) امرأة و(76) طفلاً. وتذكر التقارير أنّ ميليشيات الحوثيين قامت بإخضاع نحو (4012) معتقلاً ومختطفاً للتعذيب النفسي والجسدي، منهم (463) حالة تم اتخاذهم دروعاً بشرية.

وإذا ما استكملنا رصد المآسي خارج السجون التي حدثت لملايين اليمنيين منذ استيلاء الحوثيين على السلطة -المشردون والموتى بسبب الأوضاع، والذين فقدوا وظائفهم وأموالهم ومدخراتهم وتجارتهم، ومن تعطلت أو توقفت دراساتهم- لوجدنا أنّ أغلب اليمنيين قد تحولوا إلى أرقام لم تعد تهمّ كثيراً الإعلام العالمي والعربي والمجتمع الدولي.

مخاوف لا تنتهي بإطلاق السراح

قبل أن تجد قضية اختطاف الحوثيين للمدنيين طريقها إلى الإعلام كان اختطاف الشباب محدوداً، لكنّه معروف ومخيف بالنسبة إلينا في صنعاء. كنا نسمع بقصص عن شباب يتم اختطافهم ثم يُطلق سراحهم لاحقاً لقاء مبلغ مالي للجهة التي اختطفته. ولم يكن ممكناً الركون إلى الوساطات والعلاقات لإطلاق سراح المختطفين؛ لأنّ العاصمة صنعاء كانت مقسمة إلى مناطق نفوذ لأشخاص نافذين تابعين للحوثيين ويتصرفون بمعزل من رقابة سلطة أعلى، وكأنّ الاختطاف وسيلة لكسب المال، كما كان يشاع وقتها في 2016م، وثمّة سبب آخر لعدم تدخل شخصيات لها مكانتها؛ حتى لا يزيد مبلغ الفدية.

اعتصام أمهات يطالبن بإطلاق سراح أبنائهن المختطفين لدى الحوثيين

من بين آلاف الشباب الذين اختُطفوا في مدينة تعز كان ابن أختي الشاب. كان في طريقه مارّاً بمنطقة الحوبان التابعة لجماعة الحوثيين، هناك تم إيقاف السيارة التي كان يقودها واعتقلوه وأودعوه في سجن مدينة الصالح التي كانت حلم الشباب للحصول على شقة سكنية فيها، قبل أن يحولها الحوثيون إلى معتقل يضم آلاف المختطفين وأسرى الحرب والمخفيين قسرياً. لم يكن أحد يتوقع أن تطول مدة اعتقاله، لكنّ مدة سجنه طالت إلى أكثر من (3) أعوام، قضى نصفها في معتقل مدينة الصالح، ثم في سجن آخر في مدينة ذمار.

خشيتُ من الكتابة عنه في الـ (فيسبوك) بحسب توصيات من الأهل؛ حتى لا تتحول قضيته إلى رأي عام أو تلتفت إليه الأنظار فيُصنف بأنّه ذو شأن؛ فيتأخر إطلاق سراحهِ ويزيد مبلغ فديته. وبعد شهور من المحاولات لإطلاق سراحه عبر وساطات وخسارة مبالغ مالية، ذهبت إلى جيوب اللصوص، فقدنا الأمل في إطلاق سراحه، خاصة أنّ عمليات تبادل الأسرى لم تشمله. وحتى بعد أن خرج من المعتقل الحوثي، وعاد إلى مدينة تعز ظل صامتاً، ربما خوفاً من اعتقاله مرة ثانية، ومثلما صمتنا عند اختطافه، التزمنا الصمت عند إطلاق سراحه. واليوم بعد مرور حوالي (3) أعوام على حياته حراً، ما زال خائفاً من التعبير عمّا لاقاه في سجون الحوثيين، إلى درجة لم يوافق على المشاركة في أسئلة هذه المادة، مع أنّه يعيش اليوم في مدينة لا تخضع لسلطة الحوثيين.

من عرض الأزياء إلى العرض أمام المحاكم

في 20 شباط (فبراير) 2021، وهنّ في طريقهن إلى جلسة تصوير في العاصمة صنعاء، اختُطفت انتصار الحمادي وصديقتها يسرى الناشري، وزميلات أخريات يعملن في مجال عرض الأزياء. تم إيقافهن من قبل حوثيين في نقطة تفتيش مستحدثة، وبدون أمر رسمي أو مذكرة قبض أو تفتيش، اقتيدت الفتيات إلى مكان مجهول، وعصبت أعينهن، وأجبرن على البصم على أوراق لا يعرفن محتواها، وثم أخفيت الفتيات قرابة أسبوعين في سجن سرّي، ولم يُعلَن عن القبض عليهن، وينقلن إلى سجن رسمي إلا بعد أن ثار الرأي العام. ملابسات القبض هذه تطعن في صحة الاتهامات وتجعلها عملية اختطاف بوصف محامي انتصار، خالد الكمال.

تذكر التقارير أنّ ميليشيات الحوثيين قامت بإخضاع نحو (4012) معتقلاً ومختطفاً للتعذيب النفسي والجسدي، منهم (463) حالة تم اتخاذهم دروعاً بشرية

انتصار الحمادي (من أب يمني وأم إثيوبية)، ويسرى الناشري (من أب يمني وأم سورية)، في بداية العشرينات، وكانتا قبل اختطافهما تعملان في مجال عرض الأزياء، وسبق لانتصار العمل كممثلة في عملين تلفزيونيين، وكانت المعيل الوحيد لأسرتها المكوّنة من (4) أشخاص من ضمنهم والدها وشقيقها المصاب بإعاقة جسدية. كانت انتصار تقوم بجلسات تصوير أزياء وتشارك صورها على (إنستغرام وفيسبوك)، وأثناء اختطافها صودر هاتفها، وصنّفت صورها تلك على أنّها فاضحة.

وجّهت للفتاتين تهم تعاطي الحشيش والدعارة، وهي تهم لا تقوم على "أيّ دليل حقيقي"، بحسب محامي انتصار، الذي شدد على براءتها من التهم التي نُسبت إليها. يستند في هذا إلى أنّ محاضر الضبط في النيابة العامة ظهرت خالية من أيّ دليل يدين انتصار وصديقاتها. يُظهر محضر الضبط أنّه قُبض على انتصار وليس بحوزتها سوى "شنطتها وهاتفها المحمول وعلبة مكياجها"، لذلك أمر قاضي التحقيق في النيابة العامة رياض الأرياني بالإفراج عنهن فوراً، "كما أنّ المحكمة الجزائية رفضت استلام ملف القضية؛ كون التهم غير مثبتة والأدلة ناقصة". ومن أجل تلفيق التهم استدعى الحوثيون قاضياً من طرفهم، وعندما لم يجد أدلة كافية ضد الفتاتين أمر بإجراء فحص عذرية قسري لانتصار الحمادي، لولا تدخل منظمة العفو الدولية وشخصيات دولية كالسفير البريطاني الذي طالب الحوثيين عبر حسابه في (تويتر) بالإفراج عن الحمادي.

إجراءات تطعن في صحة التهم

بعد خروج يسرى الناشري من السجن؛ بسبب مرضها، صرّحت لوسائل إعلامية بأنّ الحوثيين جاؤوا من البحث الجنائي وقدّموا لهما عرضاً للعمل معهم لاستقطاب شخصيات سياسية معارضة إلى شقق مشبوهة مزودة بكاميرات: "قالوا لنا إنّنا إذا أردنا أن يفرجوا عنّا، فلننفّذ ما طلبوه منّا، وعندما رفضنا قالوا إنّ علينا تحمل تبعات هذا الرفض".

بعض الصحفيين المختطفين من قبل الحوثيين

في عام 2022 حُكم على الشابتين بالسجن (5) أعوام بتهم "الدعارة" و"تعاطي المخدرات"، وبعد عامين قضتهما انتصار في السجن استؤنفت المحاكمة، وكان من المتوقع الاكتفاء بالعامين، لكنّ القاضي أيَّد الحكم الابتدائي، ممّا دفع انتصار للتعبير عن الظلم الواقع عليها، فهددها القاضي بمضاعفة المدة إلى (10) أعوام.   

بحسب ناشطين حضروا المحاكمة، فإنّ "القاضي تصرف كخصم لانتصار الحمادي وزميلتها طوال فترة جلسة النطق بالحكم... وقد ظهر تحيز القاضي واضحاً في تعامله مع المتهمتين بالنظرة الدونية تجاههما؛ إذ كان يتبنّى أحكاماً مسبقة تطعن في مهنيته وعدالته".

قُتل بسبب التعذيب (293) معتقلاً مدنياً، و(147) تمّت تصفيتهم داخل السجون، و(282) توفوا بسبب الإهمال في السجون، و(92) قضوا بنوبات قلبية؛ بعد حرمانهم من وصول العلاج اللازم لهم

بحسب يسرى الناشري، قامت مسؤولة العنبر بضرب انتصار بسلك كهربائي في جميع أجزاء جسدها، "حتى تورم وجهها وكُسر أنفها، كما أنّها تتعرّض للتمييز والتنمر بسبب لونها، وتُجبر على لبس النقاب، والخروج في أوقات محددة إلى باحة السجن للاستماع إلى خطب قائد الحوثيين عبد الملك الحوثي، تحت طائلة المعاقبة بالسجن الانفرادي أو الضرب".

في مايو (أيار) 2021 دعت منظمة العفو الدولية إلى الإفراج الفوري عن الحمادي، قائلة إنّها تعرضت "لسوء المعاملة"، و"أرغمت على الاعتراف بجرائم عدة"، وعوقبت لمعارضتها القواعد الاجتماعية "شديدة الذكورية".

حلّ صقر السماوي مكان خالد الكمال، بعد تعرّضه لمضايقات وتهديدات لترك القضية بسبب تصريحاته لوسائل الإعلام. تحدث الكمال عن توقيفه من قبل جماعة مسلحة نصحته بترك قضية الحمادي، وبعد أيام كان في زيارة إلى السجن المركزي لمقابلة موكلته. هناك أوقفه مدير السجن ورمقه بنظرة ازدراء، وطلب منه بطاقة مزاولة المهنة، وبعد أن أخذ البطاقة أمر بحبسه... وبعد محاولات من وكيل السجن سمحوا له بالخروج بدون بطاقته التي ما تزال مصادرة. وفي هذا إثبات أنّ القضية مسيسة من قبل السلطات الحوثية من البداية، رغم أنّهم يتهمون المنظمات المحلية والدولية بتسييس القضية.

هذا الوضع دفع بانتصار إلى محاولة الانتحار مرتين، بحسب الناشري والكمال. انهارت أسرة الحمادي وكذلك أسرة الناشري. عن هذا الأثر تقول يسرى: "كنت أعاني داخل السجن، وأهلي يُعانون خارجه من وصمة المجتمع الظالمة التي دفعت بمالك المنزل إلى طرد أهلي والبحث عن منزل آخر؛ بسبب الصورة التي روّجها الحوثيون وإعلامهم عنّي وعن صديقتي انتصار، وقنواتهم التي جيشوها لتشويه صورتنا...، وحتى بعد أن خرجتُ من السجن، ما زلت أعاني من نظرات الناس الدونية تجاهي، حتى أنّ أختي كلما حصلت على وظيفة يرفضونها ما أن يكتشفوا أنّها أختي، وعندما غادرتُ صنعاء كان على أهلي أن يغادروا معي، لكي لا يتعرضوا للضرر أو الاعتقال بسببي، لذلك تركوا أعمالهم ومدارسهم والتزاماتهم وغادرنا".

انتصار التي كانت تحلم بالخروج من اليمن الضيق وجدت نفسها في جُحر أضيق، وأصبحت قضيتها أداة لتخويف وردع المجتمع، وفي الوقت نفسه يمكن للحوثيين استعمالها لابتزاز المنظمات الإنسانية والمجتمع الدولي، كما هي سياستهم عند خطف الآلاف من المدنيين الذين ورد ذكرهم في مطلع هذه المادة.

أن تعمل صحفياً في صنعاء

كتب الشاب يونس عبد السلام، الذي كان معتقلاً في سجون الحوثيين: "في صنعاء، الثامن من آب (أغسطس) 2021، أنهيت داومي كمحرر لدى موقع أخبار. خرجت للعشاء والتجول لرصد معلومات أو للالتقاء بأشخاص على مقربة من مطار صنعاء، للحصول على معلومات عن سجون سرّية للحوثيين داخل مطار صنعاء. وعند نقطة على مقربة من المطار، تمّ إيقافي وإنزالي من دراجة نارية، وأخذ أحد عناصر النقطة التابعة للحوثيين هاتفي، وبعد مشادة كلامية أجبرني على فتح الهاتف، ليفتح حسابي في الـ (فيسبوك) وآخر محادثات الـ (واتس أب)، رسائل عمل صحفي، هي كل ما عثر عليها، ليقتادني إلى داخل المطار، وبعد إشهار السلاح في وجهي وتهديدي بالتصفية، تم الرمي بي داخل زنزانة على مقربة من البوابة الرئيسية للمطار، لأبقى هناك داخل زنزانة مظلمة مليئة بالأحجار والعلب البلاستيكية، وبرفقة (3) سجناء بدا من تصرفاتهم الجنون.

عارضة الأزياء انتصار الحمادي

بقيت واقفاً ساعات، لم أتمكن وسط صراخهم ورعب ملامحهم من الجلوس أو الاستلقاء حتى صبيحة تلك الليلة. لم أنم مدة (3) ليالٍ خلال بقائي في المكان، أخذوني بعدها إلى غرفة تحقيق في المطار، فتش المحقق هاتفي ولابتوبي، وصعّد لهجة خطابه بالتدريج حتى تلفيق تهمة تخابر مع جهات أجنبية، طلبت التواصل مع أيّ أحد من عائلتي أو أصدقائي وزملائي فرفض.

أعادوني إلى الزنزانة، وفي الليلة التالية حضر بضعة ملثمين واقتادوني نحو باص بعد عصب لفافة قماش على عينيّ. كانت رحلة نحو المجهول، لم يحدثني أحد منهم إلى أين سيذهبون بي، ولم أعرف أنّني في الأمن السياسي إلا بعد مرور أيام وسط الظلام، لا أرى فيها شيئاً من كفي، وساعات مؤلمة من التحقيق والضرب.

في أقبية الأمن السياسي، تعرف جيداً من يحكمك، كيف تسير الأمور برفضك أو حتى قبولك. سيمر وقت طويل قبل أن تتجرأ على طلب الحمّام أو انتظاره، لئلا تتبول داخل علبة تشرب بها الماء والشاي، تطلب بطانية لا تأتي، فتحتضنها في الخيال محاولاً التهدئة من روعك وبردك. أيام حتى تعتاد على الألم وضيق (4) جدران من حولك، تفكر بإخراج رأسك من نافذة أسفل الباب، إن نسيها السجان فجأة مفتوحة، لتتلمس إن كان ثمّة كائن حي إلى جوارك.

ما لا ينسى من بين التفاصيل، طابور الحمّام الصارم لجناح يختنق بعشرات السجناء، البدلة الزرقاء التي ترتديها لأسابيع ولا يسمح لك بغسلها، جمع القاذورات من حولك داخل الزنزانة وخارجها، أصوات الزوامل من خارج الغرف تغنّي للسيد القائد، توددك لمجرم أن يمنحك سيجارة، لا لرغبة في التدخين، بل لرغبة في تشارك الحديث معه، للاطمئنان أنّه كائن بشري مثلك لن يقتلك.

مواضيع ذات صلة:

صحافيون في سجون الحوثي يواجهون الإعدام بعد أعوام من التعذيب... ما القصة؟

ضحية أخرى للتعذيب في سجون الحوثيين... كيف توفي جهاد مكابر؟

هذا ما تعرض له مختطفون في سجون الحوثيين... شهادات حية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية