أردوغان و"آيا صوفيا"... محاولة لهزيمة التاريخ من أجل انتصار سياسي

أردوغان و"آيا صوفيا"... محاولة لهزيمة التاريخ من أجل انتصار سياسي


14/07/2020

لا يثير قرار تحويل "آيا صوفيا" جدلاً دينياً أو سياسياً جديداً، بل إنّه جدل تاريخي عميق، بضفاف سياسية وحضارية، شكّلت صورتها طبيعة الأحداث التي مرّت على هذه الكنيسة، وأقول كنيسة، لأنه، ولو بعد آلاف الأعوام، إذا ما مضى قرار أردوغان وترجم عملياً باعتباره مسجداً، يمكن لأيّ أحد أن يتساءل: ما أصل هذا المسجد؟ سيكون الجواب: إنّه كان كنيسة.

لا يثير قرار تحويل "آيا صوفيا" جدلاً دينياً أو سياسياً جديداً، بل إنّه جدل تاريخي عميق بضفاف سياسية وحضارية

يعود بناء هذه الكنيسة إلى القرن السادس الميلادي، والمسألة ليست سرداً تاريخياً، إنما لتوضيح الفكرة، بمعنى أنّ هذه الكنيسة بقيت كنيسة إلى ما يتجاوز الـ "1000" عام، ثم صارت مسجداً، لما يقارب الـ "500" عام، ثمّ تحولت إلى متحف لما يقارب الـ "85" عاماً. وإذا ما اعتبرنا أنّ الأرقام لا تقول ما يُراد لها أن تقوله، فإنّ الوقائع تفعل ذلك حتماً.

اقرأ أيضاً: أردوغان يجد طريقاً جديداً إلى القدس يمر عبر آيا صوفيا

حين انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى دولة روما الشرقية ودولة روما الغربية، رغبت الكنيسة الشرقية بأن تتخذ رمزاً دينياً حضارياً كمقابل موضوعي لروما الغربية، التي تُعتبر وريثة الإمبراطورية الرومانية القديمة، كما تقول الدكتورة علية الجنزوري في كتابها "البابوية والإمبراطورية الرومانية"، وهي الكنيسة المتفوقة تاريخياً، لكنّ روما الشرقية أرادت أن تقابل المجد البابوي لروما الغربية، بصناعة جوهرة التاج الكنسي الجديد، وهنا ولدت "آيا صوفيا" كرمز ديني، وتعبير حضاري جديد لروما الثانية، أو القسطنطينية التي أصبحت مدينة الأبهة والفخامة الأوروبية.

اقرأ أيضاً: أردوغان مطالب بالإجابة... لماذا غير موقفه من آيا صوفيا؟

بقيت القسطنطينية ألف عام تشكّل معلماً فخماً في حياة أوروبا، وعاصمة للدنيا في اللهو والأرستقراطية والفن والجمال، وعاصمة أيضاً للدين، من خلال رمز كنائس أوروبا وعلامتها الفارقة "سانت صوفيا"، حتى جاء محمّد الفاتح، وخاض حرباً معها، وانتصر عليها، وهنا يتجلّى الشاهد على الجدل الديني والتاريخي الذي كانت "آيا صوفيا" تمثل علامته الأبرز، فتحطيم قوة روما والانتصار على هذه الحضارة الإمبراطورية الساحرة، والثقافة الأرستقراطية التي أدهشت العالم آنذاك، لا يمكن التعبير أو الإعلان عنه ببساطة، إلّا من خلال إقامة أوّل صلاة جمعة للجيش المنتصر في أكثر رموز هذه الحضارة مكانة، فكان اختيار "الفاتح" لـ "آيا صوفيا"، ليس كما يقال إنه لم يجد مكاناً يتّسع لجموع الجند والمحاربين المنتصرين إلّا في هذه الكنيسة، بل لأنه أراد أن يعلن الشكل الحضاري الجديد للدولة والخلافة الإسلامية، فاتخذها مسجداً بعقد بيع من المسيحيين المهزومين الذين انصاعوا لأمر السلطان الجديد.

اقرأ أيضاً: آيا صوفيا: هل تعاني إسطنبول من نقص في المساجد؟

إنها إذن، ليست كنيسة فحسب، ولا مسجداً فحسب، ولا وثيقة أو حجّة أو عقد بيع، إنها رمزية دولة جديدة، بدأ بها أيضاً "أتاتورك" عهد الحكم، فاتخذها وسيلة أيضاً لإعلان الشكل الجديد للدولة العلمانية والمدنية، التي لا تقبل بسطوة الدين، فانتزعها من سياقها الديني "المسيحي والإسلامي" وأعلنها منطقة وسطى، أو ساحة خضراء، ليس لها أيّ دور، إلّا من خلال أن تكون "متحفاً" تاريخياً محايداً.

اقرأ أيضاً: "ازدواجية أردوغان" في الحديث عن آيا صوفيا.. بالإنجليزية منفتح وبالعربية "فاتح"

لقد حسم أتاتورك بذلك الموقف من "آيا صوفيا" مسيحياً وإسلامياً، إلى أن جاء اليوم رجب طيب أردوغان، ليفتح الجدل الديني التاريخي على مصراعيه، ويضع على تاج دولة "العثمانيون الجدد" ذاك الرمز التاريخي للإمبراطورية من بيزنطة إلى القسطنطينية وصولاً إلى إسطنبول. فهو يدرك تماماً أنّ "آيا صوفيا" قيمة عميقة ورمزية تاريخية دينية "مسيحية وإسلامية معاً"، ولا يمكن طمس هذا الاعتبار بوثيقة بيع، فهو لا يريد أن يخلق حالة عدائية وكراهية بين المسلمين والمسيحيين، بانتصار يظنه الكثيرون انتصاراً دينياً، إنما يريد أن يقول إنني "الرجل القوي" لتركيا" اليوم، وإنّ الأزمات التي دخلت في أتونها تركيا في المنطقة في سوريا والعراق وليبيا تحتاج إلى حدث قوي، ومشهد شديد الوقع، يستثمر به سياسياً داخل تركيا وخارجها.

أردوغان اليوم لا يحتاج إلى مسجد كبير، ودلالة تحويل آيا صوفيا قد تكون مشبعة، إمّا بالمزاجية والكراهية وإمّا بالمصالح السياسية

لم يكن أردوغان معنياً بتاريخ "آيا صوفيا" ولا تبعيتها الدينية ولا برمزيتها الحضارية، فحين كان رئيساً لبلدية إسطنبول، واجه المسلمين هناك، الراغبين بها أن تكون مسجداً، وقال لهم: "املؤوا المساجد الموجودة أوّلاً، قبل أن تطالبوا بذلك"، ومرّت سنوات على ذلك، وسنوات أيضاً وهو في رأس هرم السلطة، ولم يلتفت إليها، وكان في أوقات سابقة، بصفته رئيساً لتركيا، في موقف أكثر قوّة داخلياً من الآن، فلماذا الآن...؟، فهو لا يحتاج لأزمة داخلية جديدة، ولا لكراهية وعداء خارجي جديد، ولا يريد أن يتناقض مع أقواله السابقة بأنّ تركيا علمانية، فينتصر عليها دينياً في حرب دينية غير معلنة، ولهذا، لا أجد تفسيراً محايداً ومعقولاً -بالنسبة إليّ- فهناك من سيخالف ذلك جملة وتفصيلاً وبشراسة، لا أجد تفسيراً إلّا أنه يريد أن ينتصر سياسياً، في حرب داخلية، ستتجلى في عام 2023، حيث الانتخابات الرئاسية القادمة، فيريد أن يملأ الخزّان الانتخابي له، ببعض الانتصارات الدينية فيما يتعلق ببعض الأوراق، مثل "غزة" و"القدس" و"آيا صوفيا"، وهي انتصارات تنسجم مع طبيعة ناخبيه ومزاجهم العام.

اقرأ أيضاً: كيف ربط الرأي العام الغربي بين أسلمة آيا صوفيا وتهويد الأقصى؟

كوني مسلماً يملؤني الفخر بأن يكون للمسلمين مسجد بحجم عظمة ورمزية "آيا صوفيا"، لكنني لا أجدني مقتنعاً بقرار أردوغان، فهو يخلق عدائية وكراهية كبيرة، وأرى في كونه "متحفاً"، خياراً منصفاً لا يغرق تركيا في كراهية عمياء، من أجل مغامرة سياسية غير محسوبة النتائج، تماماً مثل مغامرات أردوغان العسكرية في ليبيا مثلاً.

سأفترض جدلاً أنّ "محمّد الفاتح" كان يحتاج فعلاً لمسجد كبير، فأخذ آيا صوفيا عن طيب خاطر من أناس ما زال -آنذاك- ألم هزيمة دولتهم في قلوبهم، سأفترض ذلك جدلاً، باعتباره قدّم أيضاً تسامحاً واضحاً نحو أتباع الأديان الأخرى، فأعطى أماكن للعبادة لليهود والأرمن أيضاً، لكنّ أردوغان اليوم لا يحتاج إلى مسجد كبير، ولا تشكّل إضافة مسجد إلى عدد مساجد تركيا إضافة كبرى ومهمّة وذات دلالة، إلّا أن تكون هذه الدلالة مشبعة، إمّا بالمزاجية والكراهية وإمّا بالمصالح السياسية.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية