الأحقاد العنصرية تحرك تركيا في ناغورني قره باغ

الأحقاد العنصرية تحرك تركيا في ناغورني قره باغ


05/10/2020

جوان سوز

تواصل القوات المسلّحة الأذربيجانية بدعمٍ كبير من تركيا منذ أكثر من أسبوع، هجومها العسكري واسع النطاق على جمهورية "آرتساخ" الأرمنية، والمعروفة بإقليم "ناغورني قره باغ"، وذلك بالرغم من دعوة جهاتٍ دولية وإقليمية مثل روسيا والاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن ومجموعة مينسك وإيران وغيرها لوقفٍ فوري لإطلاق النار، فما الذي يجري على الأرض؟

جرت العادة أن تشهد جمهورية "آرتساخ" المستقلة والتي أُعلن عن تأسيسها من جانبٍ واحد مطلع العام 1992، مناوشاتٍ حدودية مع جارتها أذربيجان التي ترفض استقلالها وتعتبرها جزء محتل من أراضيها، خاصة وأن الاتحاد السوفياتي كان قد ضمّ الإقليم إدارياً لباكو، لكن معظم سكانه الأرمن يرفضون الانضمام إليها، وبسبب ذلك دخلوا في نزاعٍ مسلّح مع القوات الأذربيجانية المسلحة لنحو 5 سنوات بين الأعوام 1989 و1994، حيث تمّ التوصل لهدنةٍ تقضي بوقف دائم لإطلاق النار.

ومنذ العام 1994، تقع اشتباكاتٍ محدّودة ومؤقتة بين "قوات دفاع آرتساخ" التي تتخذ من مدينة ستيباناكيرت عاصمةً لها، وبين القوات الأذربيجانية رغم الهدنة التي لا تزال قائمة بين الطرفين. وقد دخل الجانبان في اشتباكاتٍ عنيفة لآخر مرة قبل الصراع الحالي، مطلع ابريل من العام 2016، واستمرت تلك المواجهات لثلاثة أيامٍ فقط.

ولم تتمكن القوات الأذربيجانية المسلحة من مواصلة القتال في "آرتساخ" ضد المقاتلين الأرمن في ابريل 2016، نتيجة عدّة عواملٍ أبرزها طبيعة المنطقة الجبلية والقاسية، التي أجبرت باكو على التراجع حينها وايقاف هجومها، لكنها عاودت بعد مضي أكثر من 4 سنوات قصف مقاطعةٍ أرمينية تقع ضمن الحدود الدوليّة المعترف بها شمال شرق العاصمة يريفان.

وكانت تلك الهجمات التي حاولت باكو من خلالها دخول عمق الأراضي الأرمينية مطلع يوليو الماضي، بمثابة التحضير لحربٍ جديدة ضد "آرتساخ"، فقد نشرت وسائل إعلامٍ دولية بعد ذلك بأسابيع تقاريرٍ تكشف عن تجهيز أنقرة لمرتزقةٍ سوريين لإرسالهم للقتال مع القوات المسلّحة الأذربيجانية، وذلك بالتزامن مع ارسالها الآلاف منهم في وقتٍ سابق هذا العام للقتال في ليبيا.

وقد تضاربت الأنباء حول أعداد المرتزقة السوريين الذين وصلوا إلى نقاط المواجهات بين باكو وستيباناكيرت منذ هجوم الأولى على الأخيرة يوم 27 سبتمبر الماضي، فالاستخبارات الأرمينية تقول إن عددهم بلغ نحو 4000 مقاتل، بينما تتحدّث وسائل الإعلام عن مئات وأحياناً الآلاف. والمؤكد الوحيد هو وصولهم بالفعل بأعدادٍ كبيرة إلى الحدود الأذربيجانية مع "آرتساخ".

والملفت أن هؤلاء المرتزقة سرّبوا بأنفسهم فيديوهات وصور توثّق وجودهم على الجبهات الأذربيجانية، كما سبق وأن فعلوا الأمر ذاته في ليبيا، ونتيجة ذلك عبّرت موسكو ومعها باريس عن قلقهما من استخدام الإرهابيين المأجّورين في الحرب الحالية.

وبحسب مسؤولين حكوميين في يريفان، فإن الدعم التركي لا يتوقف على إمداد باكو بمرتزقة سوريين فحسب وإنما يشمل أيضاً ضبّاطاً أتراكاً مع عتاد وسلاحٍ متطوّر أبرزه الطائرات المسيّرة من دون طيار. وقد أكد رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان قبل أيام وجود نحو 150 شخصاً من كبار المسؤولين في الجيش التركي والذين يشرفون على الهجوم الأذربيجاني عن قرب.

وعلى الرغم من الوقائع والمعطّيات التي تبيّن الدعم التركي الكبير لأذربيجان في هذه المعركة عن طريق مدِّها بالمقاتلين والأسلحة المتطوّرة وخبراء من الجيش، تحاول أنقرة التغطية على دعمها لباكو من خلال تروّيج وسائل إعلامها لاستخدام يريفان و"آرتساخ" لمقاتلين من حزب "العمال الكُردستاني"، لكن الحقائق على الميدان تنفي هذه الدعاية التي تحاول تركيا نشرها.

ففي وقت سابق، شارك أكراد إيزيديون في حرب استقلال "آرتساخ" عن أذربيجان والتي خلّفت ما يزيد عن 30 ألف قتيل وآلاف الجرحى ونحو مليون مشرّد بين 1989 و1994، وأولئك الأكراد كانوا أصحاب الأرض وسكانها الأصليين ولم تجلبهم يريفان أو ستيباناكيرت من تركيا على سبيل المثال ولم يكونوا كذلك أعضاءً  في حزب " العمال الكُردستاني".

وقد كشفت وزارة الدفاع الأرمينية أن عدد أولئك الأكراد وصل حينها إلى نحو 500 مقاتل كرّمتهم يريفان قبل سنوات في ذكرى استقلال "آرتساخ" عن باكو، وهناك فيديوهات توثّق هذا التكريم، ما ينفي وجود أكراد قدِموا مؤخراً إلى "آرتساخ".

والمثير للسخرية حول المشاركة المزعومة لـ "العمال الكردستاني" في الحرب الدائرة هو أن وكالات أنباءٍ تركية تقول في تقاريرها إن مقاتلي الحزب عبروا من الأراضي السورية إلى تركيا عبر حافلات نقلٍ برّية ومن ثم وصلوا إلى "آرتساخ" دون أن تعترضهم الاستخبارات التركية. وهذا بحدّ ذاته دليل إضافي ينفي إمكانية وصول مقاتلين أكراد إلى المنطقة المتنازع عليها بين باكو ويريفان، فمرورهم عبر تركيا أمرٌ مستحيل لا سيما وأن أنقرة تلاحق الحزب وتصنفه كمنظمة "إرهابية".

كما أن الرئيس الأرميني أرمين سركيسيان تطرّق للتقارير التي تتحدّث عن مشاركة مقاتلي "العمال الكردستاني" في الحرب الحالية، واعتبر في مقابلة تلفزيونية مع "العربية" أن "وجود مقاتلين من هذا الحزب على جبهات القتال هو محض كذبٍ وافتراء".

وفي هذا الصدد، لابدّ أيضاً من التذكير بجمهورية "كُردستان الحمراء" أو "كُردستان" السوفياتية التي أقيمت للمرة الأولى في القوقاز وضمت أجزاء من "آرتساخ" في فترة ما بين الحربين العالميتين، لكن نهايتها كانت مأساوية، حيث دُمِرت مطلع الثلاثينات من القرن الماضي ونفيّ منها معظم سكانها الأكراد (المسلمين على وجه الخصوص) وأرسلوا بناءً على أوامر الاتحاد السوفياتي إلى دولٍ أخرى مثل كازاخستان وطاجيكستان وغيرها، وذلك إرضاءً لتركيا الحديثة ومؤسسها مصطفى كمال أتاتورك.

وفي عام 1992 وعقب انهيار الاتحاد السوفياتي تمّ تهجير ما تبقى من الأكراد (المسلمين أيضاً) مرة أخرى من جمهورية "آرتساخ" نتيجة الحرب التي دارت بين الجمهورية وأذربيجان وسقوط جمهورية "كُردستان الحمراء" مرةً ثانية والتي لم تدم طويلاً آنذاك بعد نفي رئيسها إلى ايطاليا، فيما بقي الأكراد الإيزيديون يحاربون مع الأرمن للحصول على استقلالهم عن أذربيجان التي لم تعترف إلى الآن بالوجود الكردي على أراضيها. ولهذا السبب من الطبيعي اليوم أن نصادف أكراداً في الجيش الأرميني وكذلك في جيش "آرتساخ" ليس لأنهم أعضاء في حزب "العمال الكردستاني" وإنما باعتبارهم سكان المنطقة الأصليين.

كما أن هناك أكراداً يعيشون في أرمينيا وقد اعترفت يريفان بوجودهم دستورياً ولديهم نواب في البرلمان ويقلدون المناصب في معظم مؤسسات الدولة، وهذا كله ينفي المزاعم التركية التي تحاول أنقرة بثها لاتهام "العمال الكُردستاني" بالقتال إلى جانب "آرتساخ" وأرمينيا ودعمه لصدّ الهجوم الأذربيجاني المدعوم من أنقرة.

وبالإضافة لما سبق، هناك نقطة أخرى في غاية الأهمية وهي مطالبة أنقرة لأرمينيا بوقف ما أسمته "العدوان على أذربيجان"، وهو مطلب غير منطقي ولا يتوافق مع الواقع، فالجيش الأذربيجاني هو من بدء الهجوم على "آرتساخ" وقد استهدف كذلك مناطقٍ مأهولة بالسكان داخل أرمينيا. وقد أسقطت يريفان قبل أيام 4 طائراتٍ حاولت خرق مجالها الجوي.

لذلك المجريات الميدانية تؤكد أن يريفان وستيباناكيرت في موقعٍ دفاعي وليس هجومي، وعليه يجب على المجتمع الدولي أن يطالب باكو ومن خلفها أنقرة بإيقاف الهجوم العسكري الحالي والذي راح ضحيته حتى الآن عشرات المدنيين بين قتلى وجرحى من سكان "آرتساخ" وأرمينيا، بالإضافة إلى عشرات الجنود الذين كانوا يتصدون للهجوم العسكري، ناهيك عن استهداف باكو لصحافيين ميدانيين، آخرهم اثنين من صحيفة "لوموند" الفرنسية الدولية وآخرين من وسائل إعلامٍ روسية وأرمينية.

إن عدم إرغام باكو على وقف فوري لإطلاق النار، سيضعنا أمام إبادة أرمنية جديدة شبيهة لسابقتها التي حصلت في حقبة السلطنة العثمانية البائدة، وهو أمر يجب ألا يسمح المجتمع الدولي بتكراره اليوم بعد مرور مئة و5 سنوات على تلك المجازر الدموية والمروّعة بحق الأرمن.

عن "أحوال" تركية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية