تاريخ الإخوان كما كتبوه: الاستسلام للوهم (2)

تاريخ الإخوان كما كتبوه: الاستسلام للوهم (2)

تاريخ الإخوان كما كتبوه: الاستسلام للوهم (2)


15/10/2023

وقفنا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة من المقالات حول تاريخ الإخوان من مصادرهم، حول ما تميزت به أفكار الإخوان من سمات، من وجهة نظر الكاتب جمعة أمين عبدالعزيز ، في الكتاب الذي حمل عنوان "أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين"، في سياق تسويق هذه الأفكار والمقولات، وكانت النقطة التي توقفنا عندها من هذه السمات هي ما أسماها الكاتب "العناية بالتكوين والبناء التربوي المتكامل".

اقرأ أيضاً: تاريخ الإخوان كما كتبوه: قراءة بين السطور(1)

راهن حسن البنا في مسألة التكوين على أفكاره الخاصة في عملية التربية وتأهيل العناصر، وهو ما تضمنته رسالة التعاليم التي بسط فيها واجبات العضو المسلم والتي قدم فيها بالقول:

"هذه رسالتي إلى الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين ...، أما غير هؤلاء فلهم دروس ومحاضرات وكتب ومقالات ومظاهر وإداريات ولكلّ وجهة هو موليها"، اختار البنا منذ البداية أن تكون عضوية الجماعة على مستويين؛ الأول خاص يتعلق بمن قدّم لهم رسالة التعاليم وأسماهم الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين، وهؤلاء لهم تكوين عسكري خالص أسماه بمفرداته "التكوين الجهادي"، وكان الأساس الذي كوّن مناهج جماعات العنف من بعده.

يعرض الكاتب في إطار التسويق لفكرته، على لسان أحد منظري الجماعة، وهو الدكتور يوسف القرضاوي؛ أنّ دعوة الإخوان دعوة اكتملت مقومات نجاحها، فما هي تلك المقومات؟

والثاني مستوى عام له أدبياته الخاصة المراوغة، التي تصنع جمهوراً عاماً يختبىء فيه أعضاء التنظيم، يباشرون مهمتهم في الوصول للسلطة مستخدمين هؤلاء كحصان طروادة، بل وغنيمة تقدم حين الحاجة في محرقة السلطة.

عندما اعتصم الإخوان في رابعة العدوية، كانوا يخططون للاصطدام بالدولة وإحداث كربلائية جديدة، تعيد تعويم التنظيم في الوعي العام بعد سقوطهم السياسي والأخلاقي، وكان ذلك تنفيذاً أميناً لهذا التصور في درجات العضوية، عضوية ممتازة وعضوية عادية ولكلّ درجاته وأدواره، لماذا لم يسأل أحد عن عدد من سقطوا في المواجهات بين الإخوان والدولة المصرية من تلك القيادات، مقابل من سقطوا من القواعد ليدرك وضوح ما نقوله!

اقرأ أيضاً: كيف تصبح السجون ميداناً لإعادة تأهيل المتطرفين التائبين؟

هذا التكوين والبناء التربوي المتكامل الذي يحدثنا عنه الكاتب جمعة عبد العزيز، هو الذي أفرز هذا الواقع التنظيمي؛ قيادات تتمتع بكلّ الامتيازات وتفرّ من المواجهة التي أطلقتها، وقواعد تدفع ثمن حماقات ونزق وطموح تلك القيادات، هذا حقاً هو البناء التربوي المتكامل!! الذي يدّعي استلهام منهج الصحابة والتابعين، ولا ينفكّ يتمتم بكلمات التسبيح والثناء على الرعيل الأول لدعوة الإسلام.

يواصل الكاتب ترهاته في وصف فكر البنا قائلاً: "البنا بدأ بتصحيح منهج التفكير ليكون المنهج إسلامياً، فاهتم ضمن ما ساقه من عناصر بتخليص العقل من النظرة الجزئية للإسلام، فلا تضخيم للجزئيات والفرعيات على حساب الكليات والقطعيات، ولكن نظرة كلية شاملة بفهم واعٍ وعقل مستنيرٍ لتميز الفهم بالشمول والعموم والسمو والدوام والكمال".

اقرأ أيضاً: الإخوان ومشاهد الانقسام: أين ذهبت الربانية؟

كلّ من درس أفكار الجماعة وراقب سلوكها عبر تاريخها منذ النشأة وحتى اليوم، يدرك بجلاء أنّ هذا الكلام لا يعدو كونه كلاماً إنشائياً فارغاً يكذّبه الواقع بوضوح، فالكلّ يعلم أنّ الجماعة صيغة عسكرية لقائد يعلم كلّ شيء ويصدر الأوامر، وثمة قواعد تنفذ بكلّ ثقة عمياء دون أن تفكر في هذا التكليف أو القرار، وأنّ بنية القرار والتفكير هي بيئة مغلقة، تعوم في بحر من الاستبداد والجهل بسنن العمران البشري وقواعد التدافع الاجتماعي.

خيار حسن البنا الفقهي من قضية الشورى أنّه كان يراها معلّمة وليست ملزمة، بمعنى أنّه وحده المخوَّل بإصدار القرار، وهذا ربما يكشف بجلاء موقف الإخوان من الديمقراطية التي يحتفظون لها بمعنى خاص، فالديمقراطية هي ديمقراطية المرة الواحدة التي تصل بهم للحكم، ثمّ استبداد مقيم باسم الدين.

اقرأ أيضاً: الوردي: الوعظ عندما يتعالى على المجتمع

هذا عن طريقة اتخاذ القرار الذي لم يتغير حتى بعد حسن البنا، وافتقار من جاء بعده لكاريزما القيادة التي كان يتمتع بها، والتي كانت قادرة ربما على تمرير سلوكه المستبد، لكن الأهم أنّ منهج الجماعة، كشأن كلّ الجماعات الراديكالية، لا يقيم وزناً للعقل أو المنطق السياسي أو الواقع، بل، على العكس، يمارس لوناً منظّماً من الإنكار لهذا الواقع مستسلماً للدوغما وللأحلام؛ فهو، على عكس ما يقول الكاتب، يتمسّك بالجمود الذي أصاب النظرية السياسية الإسلامية، التي لم تتجاوز فقه الأحكام السلطانية أو التجارب البدائية في الحكم الإسلامي، والتي كانت تعبيراً عن واقع قبلي واجتماعي أكثر من تعبيرها عن قيم إسلامية أمر الله تبارك وتعالى بها، وحثّ المسلمين على الإخلاص لها.

اقرأ أيضاً: هل يلزم أن يكون المثقف متسقاً مع أفكاره؟

تمسّك الإخوان بشكل تاريخي محدّد، واعتبروه صحيح الإسلام، دون أن ينفتحوا على الواقع أو التاريخ، ومن ثم تمسكوا بالجمود في التفكير والنظر، فضخّموا الفروع على حساب الأصول، إلى حدّ أنّهم اعتبروا الحكم من الأصول وليس الفروع، على خلاف كلّ فقهاء أهل السنّة، يقول البنا: "الحكم في كتبنا معدود ضمن الأصول وليس الفروع" فلم يتمتع الإخوان أبداً لا في مسلكهم الدعوي أو السياسي بتلك النظرة التي يمتدحها الكاتب في أفكار البنا، من نظرة كلية شاملة أو فهم واعٍ أو عاقل، بل العكس هو الصحيح، بدليل المآلات، كما يقولون؛ فالنظرة التي تحكم الإخوان وغيرهم من الجماعات هي الثقافة الحدّية، التي تقسّم العالم إلى خير وشرّ، نور وظلام، أبيض وأسود، رغم أنّ واقع الناس وتفاعلهم معه عبر التاريخ، يؤكّد أنّنا إزاء أمر غاية في التعقيد فصّله علماء العمران البشري والاجتماعي.

اقرأ أيضاً: خطورة الخلط بين التديّن والتطرّف

لكنّ قوة الاستسلام للحلم وكثافة الأيديولوجيا تحجب الحقائق عادة، ويبدو الهرب من الواقع عبر النوستالوجيا المتوهمة للماضي أمراً مسلياً لنفوس الإخوان، تأمل حجم مشاهدة الدراما التركية التي تخاطب هذا الوهم في نفوسهم وحجم حرصهم على متابعتها، لتدرك أنهم مستسلمون تماماً للوهم وسعداء به، وهذا ما يفعله المخدّر عادة، حين يحلّق بصاحبه في الأوهام، ضارباً ستاراً كثيفاً على الواقع الصعب المليء بالمتغيرات والحقائق المؤلمة.

ثم يعرض الكاتب في إطار التسويق لفكرته، على لسان أحد منظري الجماعة، وهو الدكتور يوسف القرضاوي؛ أنّ دعوة الإخوان دعوة اكتملت مقومات نجاحها، فما هي تلك المقومات التي يتحدث عنها؟

اقرأ أيضاً: لماذا يكره السلفيون التصوف؟

أوّلها أن تكون الحاجة داعية إليها لتسدّ فراغاً قائماً، فما هو الفراغ الذي ملأته جماعة الإخوان؟ دعوياً مثلاً، في ظلّ جماعات دعوية وخيرية كانت تعمل في الساحة المصرية، كانت آخرها جمعية الشبان المسلمين، التي دشّنت قبل تأسيس الإخوان بعامين، وكان البنا، بحسب ما يدعي، من مؤسسيها، لماذا لم يبقَ عضو فيها يقدم من خلالها إسهامه النادر؟ ولماذا لم ينشط هؤلاء في أيّة جمعية من تلك الجمعيات؛ سواء الجمعية الشرعية أو أنصار السنة أو الهداية أو غيرها من عديد تلك الجماعات؟ الساحة لم تكن خالية، كما ادّعى البنا، بل أخلى هو الساحة لحساب جماعته، التي التهمت أبرز عناصر تلك الجمعيات وحوّلت مسارها من الدعوة والعمل الخيري إلى السياسة والصراع على الحكم، هذا على المستوى الدعوي؛ فهل أفلحت الجماعة سياسياً وخلقت قوة سياسية لتكون رافعة وطنية لقضية الاستقلال والتحرر وبناء دولة عصرية، أم تسلطت على أكبر أحزاب الأمة، وهو الوفد، لتضعفه لحساب الملك والإنجليز معاً. إلا الحماقة أعيت من يداويها!

اقرأ أيضاً: 3 أفكار تصنع عقل المتطرف

ثاني السمات التي عدّها الكاتب من مقومات نجاح الجماعة أن ترزق بقيادة واعية حكيمة تعرف غايتها وطريقها، هل كان البنا هو تلك القيادة الواعية الحكيمة التي أدخلت الجماعة بعد عشرة أعوام من تأسيسها في صراع مفتوح مع كلّ فرقاء الساحة المصرية، ليعادي الجميع ثم يصرع هو جراء هذه المواجهة المفتوحة، في شباط (فبراير) 1949، أية حكمة في ذلك؟ وهل كان البنا يعرف طريقه بالفعل؟ وهو الذي أدرك قبل مقتله خطل تفكيره وقصر نظره حين قال لا حظ لنا في السياسة.

عندما اعتصم الإخوان في رابعة العدوية، كانوا يخططون للاصطدام بالدولة وإحداث كربلائية جديدة، تعيد تعويم التنظيم في الوعي العام بعد سقوطهم السياسي والأخلاقي

ثالث مقومات النجاح من وجهة نظره؛ أن تكون وسائلها لتحقيق غايتها واضحة، كذلك معروفة المراحل والخطوات، وأنا أحيل هنا، للواقع والتاريخ، ليدرك القارىء دون عناء أنّها لم تكن يوماً واضحة، لا في أهدافها ولا في وسائلها ولا في سلوكها ولا حتى لوائحها، وهي تمزج بين السرّية والعلنية، العنف والسلمية، الدعوة والسياسة، الرجل مراوغ منذ البداية، حتى في نمط العضوية، كما أسلفنا، لم نكن يوماً أمام حركة علنية واضحة الأهداف واللوائح. تأمّل ما قاله أحد رجال النظام الخاص، الدمرداش العقالي، عن أنماط العضوية التي تحدثنا عنها، حين يقول: في الجماعة رجال الورشة ورجال المعرض؛ رجال الورشة هم رجال النظام الخاص الأعضاء المجاهدون أشبه بمن يرتدون لباس الشغل، يحملون المطرقة والأزاميل، بينما رجال المعرض منمّقون مبتسمون يرتدون البدلة وربطة العنق، في إشارة إلى النظام الخاص والنظام العام، والتاريخ حافل بالشواهد التي تضيق بذكرها سطور مقال.

اقرأ أيضاً: فضيلة الحوار: تذكّر أنا لستُ أنتَ

في سمة أخرى، يقول إنّ مواقفها من القضايا الكبيرة واضحة غير غامضة ولا غائمة، وسأذكر مثالاً واحداً لموقف الإخوان من حكومة بريمر في العراق واشتراك الإخوان فيها؛ حيث أجاب عاكف، مرشد الجماعة آنذاك، حين سألوه عن ذلك بالقول: "أهل مكة أدرى بشعابها"، تبّاً لهذا الوضوح في قضية كبيرة مثل احتلال قطر عربي من قِبل قوة أجنبية واشتراك الإخوان في دعم هذا الاحتلال.

هذا غيض من فيض التناقض بين الأقوال والأفعال في سلوك الإخوان ونواصل في الحلقة القادمة بسط المزيد حتى يتبين لنا الخيط الأبيض من الأسود من الفجر.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية