حركة النهضة.. تهاوي الجدار الأخير

حركة النهضة.. تهاوي الجدار الأخير


05/11/2020

مختار الدبابي

باتت الاستقالات في حركة النهضة من الحجم الثقيل، ليس فقط لنوعية الأسماء ولكن الأهم هو محتوى الخطاب الذي باتت تقوله، والذي أخرج الحركة الإسلامية من صورة المقدس الذي رسمته لنفسها طيلة سنوات كونها متآلفة متضامنة لا أحد يقدر على اختراقها إلى دائرة البشري الإنساني ليظهر قاع الصراعات على المناصب.

قال لطفي زيتون، القيادي الذي دائما ما يثير الجدل بتصريحاته من داخل النهضة وخارجها، وقد سبق أن استقال وعاد، إن الحركة ما تزال حركة دينية في استدعاء الآيات والأحاديث لتمجيد رئيسها، وبقائه على رأس التنظيم الإسلامي لعقود، وللهجوم على من يعارضون صورة الزعيم، في إشارة إلى قائمة المئة الذين أصدروا رسالتين علنيتين طالبوا فيهما الغنوشي بالتنحي وعدم تعديل القانون الداخلي الذي يمنعه من الترشح لدورة جديدة.

زيتون يقول إن الحركة لم تغادر المربع الديني، لكن الواضح أن الحركة قد غادرت هذا المربع تماما وصارت حركة سياسية براغماتية ما يجمع بين قيادييها هو بقايا صور لمثل قديمة مثل الإخاء والسمع والطاعة، لكن مفعول هذا السحر بدأ يتلاشى لتظهر الخلافات.

إن الدين هنا واجهة للبقاء والتوظيف السياسي، وليس كرؤية للحل مثل الخطاب الذي كانت ترفعه قبل ثورة 2011 وخاصة في صورتها الأولى الجماعة الإسلامية ثم حركة الاتجاه الإسلامي.

وهذا الفرز مهم، فالحركة تناور في الداخل لإظهار أنها حركة محلية مدنية تخلت عن مطلب تحقيق الشريعة وتريد أن تنسى ماضيها، فيما تسوق في الخارج على أنها حركة إسلامية. وهذه الازدواجية تتيح لها البقاء في دائرة المناورة وتحقيق اعتراف داخلي وخارجي بهوية متناقضة لحسابات تتعلق بالاستثمار السياسي والإعلامي.

يجب تفكيك هذه المعادلة لإظهار أن صفة إسلامية باتت جزءا من المناورة والاستقطاب. وقد قاد إشراك الإسلاميين في العمل السياسي والمدني العلني إلى نتيجة واحدة هي تضخيم البراغماتية، التي تعود إلى رغبة كامنة في تسلق سلّم الدين للوصول إلى السلطة والتمكين أكثر من كونها رغبة في خدمة الدين كقيم أخلاقية وتربوية.

ولهذا قبل الإسلاميون في تونس والمغرب بيسر بالفصل بين السياسي والدعوي، وهو فصل يضحي بالدعوى لفائدة السياسي ويكشف عمق المعادلة التي تقوم على توظيف الدين في معركة السلطة، وهذا هو المحور المفصلي في نقد جماعات الإسلام السياسي.

يشار هنا إلى أن المستقيلين ركزوا في نقدهم لأداء المؤسسة السياسية للإسلاميين على نقد الواجهة الشكلية، أي كيفية إدارة السلطة، ومنْ الأحق بها، وكيفية استثمار لعبة الديمقراطية في إزاحة هذا وتصعيد الآخر للقيادة. لا مؤاخذة بشأن انزياح الديني عن السياسي ما يؤكد أن السياسي هو المسيطر في الثقافة الداخلية للتنظيم الإسلامي، وحتى اتهام زيتون لحركة النهضة بأنها حركة دينية كان في سياق نقد توظيف الجانب الشكلي من الخطاب الديني لتهميش الخصوم وإجبارهم على الصمت أو الاستقالة.

لقد لبست الحركات الإسلامية الحديثة لبوس الدين لتحقيق مشاريع سياسية مثل ما فعلت الحركات السرية في التاريخ الإسلامي، طبعا مع مراعاة اختلاف الشروط التاريخية وتفاصيل الأفكار وخلفياتها المذهبية.

ولا يعود المسار الذي وصلت إليه حركة النهضة من خلافات واستقالات إلى الضغط الإعلامي والسياسي الذي مورس عليها خلال السنوات العشر الأخيرة، فهذا يقوي بداخل منتسبيها مقوم نظرية المؤامرة، وهو ما يمنع إلى الآن حصول الاستقالات بشكل أكبر خاصة لدى قيادات الصف الثاني والثالث وعلى مستوى المناطق.

ويكمن المعطى الرئيسي في الاستقالات النوعية التي تشهدها الحركة وحالة التململ والغضب الذي يجتاح المجموعات المغلقة على مواقع التواصل في تآكل صورة الجماعة ذات الهوية التربوية الإسلامية داخل التنظيم، وهي صورة تقوم في غالبها على السمع والطاعة والإيثار وعدم الترشح الشخصي لأي مهمة قيادية مهما كان حجمها، على أن يتولى الآخرون ترشيح من يستحق وتزكيته.

انقلبت الصورة الآن تماما، وصار الصراع على المناصب واضحا، وهو ما يستدعي تزكية الذات وتوسيع دائرة الحلفاء، وخاصة إعداد ملفات عن المنافسين وإظهار عيوبهم وأخطائهم، ولهذا صارت تتسرب إلى خارج التنظيم اتهامات بالفساد المالي لهذا الشخص أو ذاك وتدور العرائض للضغط، وتداخل الشخصي بالعشائري والمناطقي في الترشيحات للمهام.

إن هذا المناخ الجديد هو الذي يفسر تصعيد خطاب المستقيلين ضد الغنوشي والمطالبة باستقالته ومعارضة أي تعديل في القانون الداخلي يمدد بقاءه بشكل أو بآخر على رأس الحزب، فضلا عن رفض مناورة صهره رفيق عبدالسلام بتقديم مبادرة تقوم على الفصل بين رئيس الحركة كمهمة إجرائية تقنية وصفة الزعيم الذي يحق له وحده الترشح للمسؤوليات السياسية الوطنية (الانتخابات الرئاسية، أو رئاسة الحكومة، ورئاسة البرلمان)، وتأجل المؤتمر لمدة عامين آخرين.

ولن يقف الأمر عند الاستقالات وإطلاق التصريحات القوية التي يقابلها الغنوشي بالصمت. ومن شبه المؤكد أن يعلن المنسحبون عن حزب جديد يجمع بينهم ويكون بمثابة الرد المباشر على احتكار الغنوشي للقيادة وما توفره من أوراق قوة.

لكن هذا الحزب لا يمتلك من هوية له سوى كونه واجهة للغاضبين على سياسات رئيس حركة النهضة، خاصة أن المستقيلين بينهم تباينات فكرية واضحة بين خطين، الأول ثوري يعتقد أن النهضة باعت مطالب الثورة لشراء الاعتراف بها بين دوائر النفوذ، والثاني يعتقد أن الحركة كان يجب أن تتخلى عن سياسة اللعب على الحبال وأن تنحاز إلى مسار التوافق مع القوى المدنية بما في ذلك قلب تونس، والكف عن المناورات، خاصة أن تصريحات المنسحبين قد كشفت حجم التخريب والمناورة الذي مارسته الحركة في الحكومات المتعاقبة، وخاصة حكومة إلياس الفخفاخ للتحكم فيها وقطع الطريق أمام تأثير الرئيس قيس سعيد.

وكشفت الاستقالات المتتالية، وخاصة تصريحات لطفي زيتون وعبدالحميد الجلاصي وعماد الحمامي، أن النهضة تعيش ما يشبه الانتفاضة ليس فقط ضد سياسات الغنوشي، ولكن باتجاه رسم هوية جديدة، أو هويات متعددة بفعل تنوع الروافد والتجارب.

وفيما كان الكثير من المحللين والسياسيين ينظرون إلى الخلافات بين الإسلاميين على أنها مناورة لتخفيف الضغط، كانت هناك مؤشرات قوية على أن الجدار الذي يخفي الخلافات بدأ يتهاوى، ذلك أن العمل العلني القانوني يسحب من الإسلاميين المظلومية التي هي أهم عنصر لشعبيتهم في سنوات ما قبل الثورة، وكانت صورتهم كضحايا في مواجهة الدولة تجلب لهم التعاطف، وهو تعاطف بدأ بالتلاشي التدريجي بعد انتخابات أكتوبر 2011، حيث فقد الإسلاميون أكثر من مليون من سجل داعميهم خلال أقل من عشر سنوات.

لقد سحب الانتقال السياسي، الذي شهدته تونس ما بعد 2011 الإسلاميين إلى مربع النور مع ما يتطلبه ذلك من اكتشاف خطابهم الاجتماعي والاقتصادي وقدرتهم على المناورة تجاه الضغوط المحلية والخارجية بشأن إسلاميتهم ودفعهم إلى التنازلات، وهي الطريق التي تفضي الآن إلى الخلافات والانشقاقات.

عن "العرب" اللندنية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية