حسن حنفي: الإخوان وباريس.. التراث والتجديد

حسن حنفي: الإخوان وباريس.. التراث والتجديد

حسن حنفي: الإخوان وباريس.. التراث والتجديد


23/05/2023

محمد الحدّاد

كُتب الكثيرُ عن الدكتور حسن حنفي الذي وافته المنيّة يوم 21 أكتوبر الماضي، بعض ما كتب يتعلّق بمؤلفاته الغزيرة التي رامت تأسيسَ مشروعٍ فكري شامل للتوفيق بين التراث والحداثة، وبعضها بشخصيته المتميزة التي ظلّت باستمرار عصيّة على التصنيف، وعلى التقسيمات السائدة، في المعركة المستعرة بين دعاة الحداثة ودعاة الأصالة.

والدكتور حنفي أثار الجدل باستمرار، بجمعه بين اليسار والإسلامية خاصة، فهو مبتدع عبارة “اليسار الإسلامي” التي توضع عادة عنوانًا لمشروعه. وأثار الجدل بحقيقة علاقاته بالإخوان المسلمين، وعلاقته بالماركسية.

وفي أفريل 1997، أصدرت “جبهة علماء الأزهر”، وهي تجمّع من أقلية من أساتذة الأزهر قريبة من تيار الإسلام السياسي، فتوى بتكفيره، معتمدة على مقاطع واردة في كتابه «من العقيدة إلى الثورة» الصادر سنة 1988؛ أي أنها حاكمته على أقوال كان قد نشرها قبل عشر سنوات. وكان لهذا الحدث خطورة خاصة باعتباره جاء بعد فتوى مماثلة أصدرتها الجبهة بحقّ الكاتب فرج فودة، وكان نتيجتها اغتياله.

هذا المقال سيتطرّق إلى جانبٍ آخر غير معروف، يتصل بالفترة التي قضّاها بفرنسا، وأعدّ فيها أطروحته للدكتوراه بجامعة السوربون بباريس. ذلك أنّ قليلاً من الدراسين قد اطلعوا على هذه الأطروحة. فحنفي مشهور من خلال كتاباته باللغة العربية التي بدأت تُشتهر منذ إصداره، سنة 1980، كتاب «التراث والتجديد ـ موقفنا من التراث القديم»، متضمنا برنامجاً طموحاً لإعادة بناء الفكر الإسلامي.

وقد سخّر حنفي حياته لتطبيقه منذ ذلك الوقت، وجسّده عمليّاً في عشرات المجلدات الصادرة التي ظلَّت بدورها تؤجّج الجدل بسبب غرابة المنهج الذي اعتمدته في عملية إعادة قراءة التراث، وبخاصة علمي الكلام والتصوف. وربما كانت المقارنة الوحيدة الجائزة هي كتاب «تجديد الفكر الديني في الإسلام» لمحمد إقبال. لكنّ مشروع حنفي أضخم بكثير من ناحية الكمّ، وأكثر تشعّباً من ناحية المضمون.

كان حسن حنفي قد قدم إلى باريس سنة 1956 لإعداد رسالة دكتوراه في الفلسفة، وقد أعدّها باللغة الفرنسية وناقشها سنة 1966. كان حنفي من الجيل الذي يضمّ عبد الله العروي، وهشام جعيط، ومحمد أركون، ثم لاحقاً محمد عابد الجابري، نهلوا جميعاً من ثقافة عاصمة الأنوار في فترة كانت تشهد فيها حراكاً فكرياً منقطع النظير، ومخاضاً أكاديمياً بين تياراتٍ متصارعة.

وقد اختلف كلّ واحد من هؤلاء في اختيار الفلسفة التي سيتخذها مرجعيته الأساسية. العروي اختار الماركسية النقدية، وجعيط الفلسفة الظاهرتية، وأركون مدرسة التاريخ الجديد، والجابري فلسفة ميشيل فوكو وغاستون باشلار.

أما اختيارُ حنفي فكان، من منظورِ تلك الفترة، اختيارًا شاذًّا. ومن هنا تبدأ صعوبة تصنيفه في تيارات الفكر العربي المعاصر. لذلك كانت أطروحته المكتوبة باللغة الفرنسية وثيقةً مهمة لكشف البدايات الأولى لفكره.

كان حنفي قد قدِم إلى فرنسا تاركاً بلاده مصر في أوج المخاض الثوري مع جمال عبد الناصر، وفي صراع الثورة مع الإخوان المسلمين المدعومين آنذاك من بلدان الخليج. وكان عبد الناصر قد قرّر التوجه نحو روسيا، عندما رفضت الولايات المتحدة الأمريكية بيعه الأسلحة، ومساعدته لتأسيس سدّ أسوان. وأصبحت مصر في قلب الصراع بين الكتلتين الشيوعية والغريبة.

وفي السنة ذاتها التي استقرّ فيها حنفي بفرنسا، حصل العدوان الثلاثي على مصر بمشاركة فرنسا. كان حنفي معجباً، ككلّ العرب آنذاك، بالزعامة المصرية وفخوراً بما أطلقه الرئيس المصري من مشاعر النخوة لدى المصريين، ولدى العرب عامة. لكنّه كان ممزقاً أيضاً بين هذا الإعجاب، وصراع عبد الناصر مع الإخوان الذين انتمى إليهم حنفي في الفترة السابقة، بل إنَّ عبد الناصر والسادات وغيرهما من الضباط الأحرار كانوا أيضاً في علاقة بالإخوان في فترة ما، وكان سيّد قطب عضواً في لجنة قيادة الثورة قبل اصطدامه بها.

ثم أصبحت الحرب مستعرة بين الضباط الأحرار والإخوان بعد اكتشاف نفاق الجماعة، وعلاقاتها المريبة مع القوى الأجنبية وتخزينها للأسلحة، وإخفائها للتنظيم السرّي. وبعد أن طلبت الجماعة رسمياً من عبد الناصر إصدار قرار بمنع المرأة من الدراسة والعمل، وتحريم الفن والسينما والمسرح، وهو ما لم يكن معقولاً في مصر التي كانت آنذاك تستمدّ جزءاً من تأثيرها في العالم العربي من الثقافة والفنون، وكانت المرأة فيها في أعلى درجات التحرّر.

هكذا بدأ يتبلور لدى حنفي هدف أساسي وجّه نحوه كلّ كتاباته لاحقاً، وهو أن يضع “أيديولوجيا” للثورة العربية، غير الأيديولوجيا الإخوانية التي أصبحت عائقاً أمام الثورة، لا سيما أن عبد الناصر نفسه دعا في أحد خطاباته المثقفين إلى المساهمة في الثورة بالفكر، مشدّداً على أنّ معركة الأفكار لا تقلّ قيمة عن معركة السلاح.

كان حنفي وهو في بيته الصغير المتواضع في باريس يعمل على جبهتين: الجبهة الأولى إعداد أطروحة دكتوراه تستجيب للشروط المفروضة في الجامعات الغربية، بما في ذلك السيطرة على اللغة الفرنسية التي لم يكن يتقنها إتقاناً تاماً آنذاك، والتعمق في المناهج الأكاديمية الغربية التي لم يعرفها بنفس التفصيل والعمق في الجامعة المصرية.

أما الجبهة الثانية؛ فمسؤولية صياغة أيديولوجيا الثورة، ورفع التعارض بينها وبين الإسلام. كان حنفي يعتقد، مثل أغلب الناس آنذاك، أنّ المدّ الثوري سيتواصل دون نهاية، ويعمّ العالم العربي كله، كما حصل مع الثورة الفرنسية سابقاً، ولم يكن يتوقّع أنّ الأوضاع ستنقلب رأساً على عقب بمجرد وفاة عبد الناصر، فتتخلّى مصر عن الاشتراكية، وتصبح موالية للولايات المتحدة الأمريكية، وتوقف الحرب على إسرائيل، وتعقد معها أوّل معاهدة سلام عربية، ويتحوّل فيها نموذج القيادة من الزعيم القومي إلى الرئيس المؤمن.

رغم كلّ التغيرات الجوهرية التي حصلت بالمقارنة بالسنوات العشر التي عاشها حنفي بباريس، فقد ظلّ مصرّاً على مواصلة نفس المنهج. وكانت أطروحته تأسيساً لهذا المنهج وتدقيقاً له. فلعلّ من المثير أن نعلم أنّ مقدمة الأطروحة قد تضمنت اعترافاً مفصّلاً بالعلاقة بين حنفي والإخوان المسلمين، من حيث الفكر على الأقلّ، وتأكيداً للتأثير الذي مارسه سيد قطب عليه، حتى أنه يعدّه في الأطروحة قمّة التجديد الديني في الإسلام.

لكنّه يعرض أيضاً ابتعاده عن ذلك الفكر، ونهله من مناهل أخرى مختلفة تمام الاختلاف بعد أن عاش في باريس، وتمرّس بالثقافة الفرنسية. فإقامته بفرنسا من جهة، والصراع بين الإخوان وعبد الناصر من جهة أخرى، دفعاه إلى مراجعاتٍ عميقة وولّدا لديه الرغبة في تجاوز الطرفين نحو شيء جديد مستمدّ من الفلسفة الحديثة، لكنّه مطبّق على التراث الإسلامي.

لقد كان من المفارقات أن يناقش حنفي أطروحته في السوربون، وسيد قطب في السجن ينتظر تنفيذ حكم الإعدام بحقه. لقد أبعدته سنوات باريس عن أجواء القاهرة المشحونة ودفعته في أحضان الهرمنطيقا. ينبغي أن نعود قليلاً إلى الوراء لنرسم صورة سريعة عن الوضع الثقافي في فرنسا آنذاك الذي كان بعيداً عن الثورات السياسية والقضايا الدينية.

كانت الماركسية تسيطر سيطرة كبرى، وكانت أفكار الحرية الشخصية الأكثر راديكالية تتعاظم، وقد انتهت بثورة من صنف آخر في فرنسا، ثورة الشباب المتحرر من القيم القديمة سنة 1968. وفي المستوى الأكاديمي البحت، كان الصراع قائماً بين التاريخ والهرمنطيقا، وكانت الغلبة شبه المطلقة فيه للتاريخ.

فقد شهدت فرنسا ميلاد التاريخ الجديد، الذي لم يكن ماركسياً تماماً، ولا كان من صنف الكتابة التاريخية القديمة. إنه تاريخ مدرسة الحوليات التي أسّسها قبل الحرب العالمية الثانية كلّ من لوسيان فيبر (1878- 1956) ومارك بلوك (1886- 1944)، وقد نشطت المدرسة بعد الحرب، وأصبحت المرجعية الأساسية للمؤرخين، ومارست تأثيراً على مجمل العلوم الإنسانية والاجتماعية، لا سيما أن بلوك كان من أبطال فرنسا أثناء الحرب، عذّب وحكم عليه بالإعدام، وهو يدافع عن بلده.

أدخلت هذه المدرسة تغييرات جوهرية في ممارسة الكتابة التاريخية، وتفاعل معها المثقفون من العالم كله، ومنهم المثقفون العرب، مثل محمد أركون الذي جمعته بباريس صداقة مع حنفي في تلك الفترة. وقد تحدّث حنفي عنها بمناسبة تأبين محمد أركون عند وفاته سنة 2010. وبعد ذلك كان لحنفي صداقة قوية مع المفكر المغربي محمد عابد الجابري، واشتركا معا في كتاب عنوانه «حوار المغرب والمشرق».

لكن حنفي لم يتأثر لا من قريب ولا من بعيد بتلك المدرسة، واختار بديلاً عنها الهرمنطيقا؛ وتعني علم التأويل الحديث، وهو مختلف عن التأويل الديني القديم، من جهة كونه لا يقتصر على النصوص الدينية، بل يتناول كلّ أصناف النصوص من دينية وأدبية وتاريخية وسياسية، وغيرها.

وهو يرتبط بالفلسفة الألمانية، وألمانيا كانت العدوّ والمحتل لفرنسا أثناء الحرب. ومؤسسَا الهرمنطيقا هما فريديريك شلايرماخر (1833-1911) وولهيم ديلتاي (1833-1911). لقد شذّ حنفي عن السائد، واختار في أطروحته تطبيق مناهج الهرمنطيقا على نصّ تراثي إسلامي في أصول الفقه. ولا نبالغ إذا قلنا إنّ كلَّ ما كتبه بعد ذلك باللغة العربية كان تفصيلاً لهذا المجمل، وسيراً في هذه السبيل، وتطبيقاً لبرنامج طموح وضع معالمه في مدينة الأنوار.

التقيت حنفي أوّل مرة بمناسبة تقديمه لكتاب “التراث والتجديد” وكان لقاء عابراً، وكتبت عنه ناقداً بعد سنوات، وبمناسبة صدور كتابه «في علم الاستغراب» الذي رأيته شعبويّاً وبعيداً عن الفكر والأكاديميا. وتعرّفت عليه عن قرب بعد الثورات العربية، فقد اشتركنا في برنامج أكاديمي أطلقته جامعة إيطالية لتحليل تطورات هذه الثورات، عدا عن كوننا عضوين في المجلس العلمي لمؤسسة ريزيت دوك الإيطالية في حوار الأديان.

عبر هذه المناسبات تعرّفت أكثر على الشخص: متواضع إلى أبعد الحدود، مؤمن إيماناً أعمى بمشروعه، لم تهتز قناعاته بمرور الأزمنة، متأكد أنّ أفكاره هي التي ستوفّق بين الإسلام والحداثة، يدافع عن كتاباته بشراسة لكنّه يتقبّل الاختلاف والنقد بصدر رحب. سألته أكثر من مرة: لقد مرت موجتان ثوريتان، ولم تلق كتاباتك الأثر المطلوب، فكان يحيلني إلى الشهرة التي لقيتها هذه الكتابات في إندونيسيا وماليزيا وتركيا، أي عند غير العرب.

وتظلّ أسئلة كثيرة عالقة: هل نحتاج أصلاً إلى ثورات كي نحتاج معها إلى أيديولوجيات ثورية؟ هل ساهم حنفي في إبعاد الشباب عن مهالك الإسلام السياسي بكتاباته الفلسفية التي تنطلق من عمق التراث الديني؟ كيف يمكن أن نحدّد مساهمة حنفي في تطوير الدراسات الدينية في العالم الإسلامي؟ ما هو الموقع الحقيقي لفكر حنفي في الفكر العربي المعاصر؟ هل أصاب حنفي عندما راهن على الهرمنطيقا على حساب التاريخ، على عكس جيله من المثقفين الذين شاركهم الإقامة بباريس في فترة ما؟

أسئلة ستوجه الكتابات والدراسات حول حنفي مستقبلاً، وسيتواصل معها الجدل حول هذا المفكّر الذي ترك مجلداتٍ ضخمة تحتاج إلى التعريف بها، وربما شرح ألغازها لدى غير المتخصصين. لكنّ بصمته في الفكر العربي، بل الإسلامي، قد رسخت منذ صدور كتابه «التراث والتجديد». وثقافته الواسعة وعلمه الغزير في التراث لا تحتاج إلى إثبات غير تصفّح تلك المجلدات.

عن "كيوبوست"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية