لماذا ترفض بريطانيا الكشف عن وثائق رحلة النازي رودولف هس؟

لماذا ترفض بريطانيا الكشف عن وثائق رحلة النازي رودولف هس؟


31/08/2020

 ترجمة: علي نوار

رغم مرور خمسة وسبعين عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية، ما تزال "رحلة هس" يلفّها الغموض في ظلّ رفض وزارة الخارجية البريطانية الكشف عن وثائق رحلة القيادي النازي السابق، رودولف هس، باعتبار أنّها ما تزال "تمسّ الأمن القومي"؛ لذا فإنّ الأسئلة ما تزال تُطرح بلا جواب: لماذا طار أحد أقرب معاوني هتلر إلى اسكتلندا في أوج الحرب العالمية؟ ما الرسالة التي كان يحملها معه؟ لماذا فشلت مهمّته؟ هل أجهزة المخابرات البريطانية لها يد في ذلك؟ هل تحرّك هس منفرداً أم إنّ هتلر كان على دراية بكلّ ذلك؟ لمَ لم يظهر هس مطلقاً على العلن؟ ما السبب وراء إيداعه سجناً هائلاً وحده بعد الحرب؟ كيف توفّى؟ هل انتحر أم تعرّض للاغتيال؟

اقرأ أيضاً: هل غيّرت المخدرات مجرى الحرب العالمية الثانية؟

يبدأ تسلسل الأحداث ليلة السبت، 10 أيار (مايو) من العام 1941، حين سقط الرجل الثاني في الرايخ الثالث، ومساعد هتلر وزعيم الحزب النازي رودولف هس بمظلّة فوق إيجلسهام، وهي منطقة أسكتلندية تقع بالقرب من مدينة جلاسجو، اشتعلت النيران في الطائرة المقاتلة طراز "ميسرشميت بي إف 110دي"، غير المزوّدة بأيّة أسلحة، فقط خزّاني وقود احتياطيين تحت جناحيها لدى هبوطها أرضاً، كانت الساعة 11.09 ليلاً.

طائرة هس بعد تحطمها في اسكتلندا

يعاني هس أثناء عملية الهبوط كسراً في الكاحل، ويحيط به رجال من "هوم جارد"، قوات الاحتياط البريطانية المحلّية، كان عمره وقتها 48 عاماً، ورغم أنّه طيّار مخضرم، إلّا أنّ هذه كانت أول عملية هبوط بمظلّة يجريها في حياته، وحين أٌلقي القبض عليه، عرّف عن نفسه على أنّه الكابتن ألفريد هورن، وأنّه مكلّف بـ "مهمّة خاصّة"، ثم طلب إيصاله بدوق هاملتون الذي كان منزله يقع على مبعدة 15 كيلومتراً.

ليس ثمة شكّ في أنّ إنجلترا كانت فيها مجموعة من الشخصيات المهمة، أغلبهم من علية القوم، يؤيّدون التفاهم مع ألمانيا، كان هدفهم إنهاء الحرب

كان الدوق شخصية مؤثرة في الطبقة السياسية البريطانية، ويرتبط بصداقة وثيقة مع العائلة الملكية، وعضواً في مجلس اللوردات، فضلاً عن كونه قائد جناح في القوات الجوية الملكية، وقد كان في تلك الليلة متواجداً بمركز عمليات المنطقة التي سقطت فيها الطائرة الألمانية.

اقتيد هس إلى مستشفى "ماريبيل باراكس"، وهناك أفرغوا محتويات جيوبه وجرّدوه من ممتلكاته بما فيها رسالة إلى دوق هاملتون، الذي توجّه صباح 11 أيار (مايو)، لرؤية الأسير الذي يتخلّى عن هويته الزائفة أمامه، ويفصح عن اسمه الحقيقي قائلاً: "أنا رودولف هس".

في انتظار تشرشل

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يلتقي فيها الرجلان وجهاً لوجه، فقد كانا يعرفان بعضهما منذ دورة الألعاب الأولمبية التي أقيمت في برلين، عام 1936، ويتعرّف هاملتون سريعاً على هس ويصغي لكلماته.

قال الألماني إنّه جاء بعرض للسلام مع البريطانيين، وأضاف أنّ الـ "فوهرر" لا يريد إنزال الهزيمة بإنجلترا، ويتطلّع لإنهاء الحرب، كما كشف أنّ رحلته كانت المحاولة الرابعة للوصول إلى بريطانيا العظمى، وأنّ المحاولات الثلاث السابقة باءت بالفشل بسبب سوء الأحوال الجوية، كان وضع هس، كوزير في الرايخ، والمخاطر التي عرّض نفسه لها، ضمانة كافية لحسن النوايا.

اقرأ أيضاً: مائة سنة على نهايتها: الحرب العالمية الأولى من خلال الرواية

رأى هاملتون أنّ التحايل على وسائل الدفاع الجوي البريطانية، والقفز بالمظلّة للمرة الأولى ليلاً، وبعمر 48 عاماً، لا يمثّل ضمانة فحسب؛ بل إنجازاً، على أقلّ تقدير، لكنّه قدّر، في الوقت ذاته، أنّه ليست لديه صلاحية مناقشة العروض الألمانية.

طلب هس بدء المفاوضات في أقرب وقت ممكن، إلّا أنّ هاملتون تركه دون أن يقدّم له أيّة تعهّدات.

ونستون تشرشل يصنع إيماءته الشهيرة V for Victory في عام 1943

وفي اليوم نفسه؛ بعث هاملتون إلى نائب وزير الخارجية، ألكسندر كادوجان، يطلب لقاءه، على أنّ الأخير أجابه باستحالة اللقاء قبل 10 أيام على أقل تقدير، وإدراكاً منه بعدم إمكانية الانتظار كلّ هذا الوقت، توجّه هاملتون إلى تشرشل شخصياً الذي استقبله بعد انتظار سويعات معدودة، وأخيراً تمكّن الدوق من إبلاغ رئيس الوزراء البريطاني بكلّ ما جرى، كان ردّ تشرشل هو عبارة تحمل دلالات عديدة "الدودة داخل الثمرة".

المفاوضات تفشل

بدا أنّ البريطانيين لم يكونوا متعجّلين للحوار مع هس؛ ففي 12 أيار (مايو)، عاد هاملتون إلى لندن، حيث اجتمع برئيس الوزراء، وأعطى كادوجان تعليماته لإيفون كيركباتريك، الذي سبق أن عمل في السفارة البريطانية ببرلين، بالتواصل مع هس.

تقابل كيركباتريك وهاملتون مع الألماني الذي فصّل على مدار ساعتين تقريباً الدوافع وراء رحلته، انتقد هس عداء إنجلترا لألمانيا، الذي رأى أنّه السبب وراء اندلاع حربَين عالميتَين، معرباً عن اندهاشه إزاء هذا الإصرار على الوقوف في وجه أكبر قوّة في أوروبا، كذلك هس شددّ على أنّ هزيمة تامة لبريطانيا لا تروق لهتلر، الذي كان يرى الإنجليز والألمان أشقّاء في العرق.

كان الحلّ الذي قال هس إنّ هتلر يعرضه؛ هو أن تفسح لندن المجال لألمانيا في أوروبا، مقابل السماح للبريطانيين بالاحتفاظ بإمبراطوريتهم، والشرط الثاني هو تغيير الحكومة البريطانية؛ فهتلر لم يكن مرحِّباً بفكرة التفاوض مع تشرشل الذي دأب على اتهامه بالسعي نحو تدمير ألمانيا، وكونه السبب في اشتعال فتيل الحرب.

اقرأ أيضاً: العرب في الحرب العالمية الأولى

تزعم روايات أخرى أنّ هس اقترح "سلاماً-تعادلياً" على بريطانيا، شريطة السماح لألمانيا بمواجهة الاتحاد السوفييتي الذي كان يُعدّ العدو الحقيقي وقتذاك.

وفي الأيام التالية تمّ استجواب هس عدّة مرات، ما أضعف حماسته، شعر أنّ البريطانيين مفرطين في التحفّظ، وبعد بدء المفاوضات، انتهت بلا نتيجة، رأى هس أسبر حرب، وعُرض على الخبراء النفسيين الذين أخضعوه لاختبارات جاءت نتائجها متضاربة، وعلى الأرجح أنّه أعطي عقاقير غير مناسبة تسبّبت في تدهور سلامته العقلية.

وفي 17 أيار (مايو)؛ كتب تشرشل إلى الرئيس الأمريكي، فرانكلين روزفلت: "يبدو  أنّ هس يتمتّع بصحة جيدة: لا يظهر عليه التهوّر، ولا تظهر عليه الأعراض المعتادة المصاحبة للجنون"، وفق مذكّرات تشرشل.

ردّة فعل هتلر

تسلّم هتلر صبيحة يوم 11، بمنزله في برجهوف، مظروفاً نحيلاً، سلّمه إياه مساعد هس، داخل هذا المظروف كانت توجد وريقتان، حين قرأهما هتلر صاح منفعلًا "يا إلهي! لقد طار نحو إنجلترا".

كان هس (الثاني من اليسار ، بعد هاينريش هيملر) من أوائل أعضاء الحزب النازي

قبلها بيوم، في 10 من ذلك الشهر، كان هتلر قد تلقّى خطاباً لكنّه لم يفتحه، لاحقاً عثر على رسالة طويلة من هس يشرح فيها دوافع تصرّفه، قال هس إنّه حلّق إلى إسكتلندا كي يلتقي دوق هاملتون، في محاولة لتحقيق السلام مع إنجلترا قبل بدء الحرب ضدّ الاتحاد السوفييتي، كما تعهّد بألّا يكشف للبريطانيين خطط غزو الأراضي السوفييتية.

اقرأ أيضاً: أردوغان ينشئ "شرطة بديلة".. ما علاقة هتلر؟

أصيب هتلر بحالة من العصبية والارتباك، كان يعي تماماً العواقب الكارثية التي قد تلحق بالرايخ إذا سقط هس أسيراً، كانت أكبر مخاوفه من أن يُعطى هس مخدّراً ويُجبر على قول أيّ شيء.

لذا، فقد فتح تحقيقاً فورياً، وتبيّن أنّ الطائرة التي استخدمها نائب الفوهرر، جاءت من طرف المصنّع نفسه، فيلي ميسرشميت، وأنّ هس استعان في رحلته بنظام الملاحة نفسه المستخدم في قاذفات القنابل الألمانية، لكن بقيت مسألة نجاحه في الهبوط بإنجلترا موضع شكّ، نظرًا لأنّ البريطانيين التزموا الصمت المطبق.

كان هتلر يخشى أن تخرج لندن لتعلن للعالم أنّ هس جاء عارضاً السلام بشكل منفرد بين ألمانيا وبريطانيا، الأمر الذي من شأنه ضرب وحدة معسكر المحور في مقتل. لذا بثّ الألمان بياناً أكّدوا فيه رسمياً اختفاء هس بسبب "اضطراب عقلي".

كان هتلر يخشى أن تخرج لندن لتعلن للعالم أنّ هس جاء عارضاً السلام بشكل منفرد بين ألمانيا وبريطانيا، الأمر الذي من شأنه ضرب وحدة معسكر المحور في مقتل

لكن بعدها بساعات، كسرت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" حالة الصمت، لتعلن أنّ الوزير الألماني قفز بمظلّة فوق إسكتلندا منذ ليلتين، وهنا تنفّس هتلر الصعداء؛ حيث قال: "في هذه الحالة سأبلغ جوبلز- وزير الدعاية النازية- أنّ الإنجليز أهدروا فرصة سياسية ثمينة عُرضت عليهم وسط الحرب".

من الغريب بالطبع ألّا يستغلّ البريطانيون ما حدث كسلاح نفسي ودعائي ضدّ المحور، رغم المكاسب الهائلة التي كانت لتتحقّق من وراء تصوير رحلة الرجل الثاني في النظام النازي على أنّها انشقاق، لكنّ محاولة هس المتهوّرة كانت مبرّراً لرفض لندن القاطع لأيّ تفاوض، بالتالي، عدم شعور الحلفاء بالقلق.

على الجانب الآخر؛ ما يزال سراً غامضاً موضوع إذا ما كان هتلر مُطلعاً على خطط نائبه، كان هس يجهّز لرحلته منذ أشهر؛ ما يعني استحالة تنفيذها دون موافقة من الفوهرر؛ لذلك فالمؤكّد أنّ الزعيم النازي كان يعلم بأمر المهمّة، لكنّه لم يكن على دراية بموعدها.

نُقل هس، الذي أودع أحد سجون بريطانيا حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية، عقب محاكمته، إلى معتقل شبانداو في برلين؛ حيث ظلّ محبوساً بشكل انفرادي، حتى وفاته في 17 آب (أغسطس) 1987.

أسئلة بلا حصر وأجوبة غير موجودة

أحد أبرز التساؤلات التي تطرحها رحلة هس هي الدوافع وراءها؛ فلا بُدّ من أن الرجل كانت لديه "صلات" بريطانية نافذة بما يكفي لتنفيذ رحلة جوية تقترب من درجة الانتحار ويخاطر بالسقوط "وهو ما حدث" في يد تشرشل، ليُنظر إليه باعتباره مخبولاً أو منشقّاً.

هل كان هناك أحد في إنجلترا ينتظر وصوله؟ لماذا لم تسقط الدفاعات الجوية البريطانية طائرته؟ هل كان يحمل عروض سلام ربما كان البريطانيون ليدرسوها بجدّية؟ أكانت بحوزته وثائق لحظة القبض عليه؟ أين الرسالة التي قدّمها لدوق هاملتون؟

ليس ثمة شكّ في أنّ إنجلترا كانت فيها مجموعة من الشخصيات المهمة، أغلبهم من علية القوم، يؤيّدون التفاهم مع ألمانيا، كان هدفهم إنهاء الحرب التي رأوا أنّها ستقضي على الإمبراطورية البريطانية، وإضافة إلى دوق هاملتون الذي التقاه هس مرتين عامي 1937 و1940، فقد كانت تربط هس بإدوارد علاقة بدوق ويندسور، الذي كان معروفا بتضامنه مع النازية.

رودولف هس في عام 1933

وقد ساهم في بدايات العملية التي انتهت بالرحلة نحو اسكتلندا أشخاصاً مثل أستاذ العلوم الجيوسياسية، كارل هاوسهوفر، الذي يُعدّ أحد ملهمي الفكر النازي، ونجله ألبريخت، الذي يُعتقد أنّه كان صديقاً لدوق هاملتون، ويحظى بحماية شخصية من هس.

اقترح ألبريخت على هس، في سبتمبر (أيلول) 1940، تقوية علاقته بهاملتون من أجل التفاوض حول وقف الأعمال العدائية مع إنجلترا، وقد لاقت هذه الفكرة قبولاً لدى نائب الفوهرر.

اقرأ أيضاً: هل كان هتلر متديناً؟

بعد ذلك بقليل، طرح هس فكرة التواصل مع أحد أصدقاء آل هاوسهوفر في لشبونة، السيدة ماري فيوليت روبرتس، التي كانت ترتبط بصلات وثيقة بالنخبة السياسية البريطانية، وكتبت روبرتس إلى دوق هاملتون عن طريق "آوسلاندأورجانيزاتسيون"- أحد أقسام جهاز الاستخبارات "إس إس" المتخصص في العمليات الخارجية"، لكنّ هاملتون لم يجب، وعلى الأرجح اعترضت أجهزة مكافحة التجسس البريطانية تلك الرسالة.

نتيجة لنفاد صبره بعد تأخّر الردّ، كان يتعيّن على هس إبلاغ هتلر بنواياه، ورغم أنّ الأخير لم يكن واثقاً من جدوى الخطة، لكنّ هس حصل على موافقته.

لذلك أسهم الطيار الخاص لهتلر بالخرائط، كما وضع المصنّع، فيلي ميسرشميت، تحت تصرّف هس أقوى وأسرع طائرات القوات الجوية الألمانية "لوفتفافه"، كي لا تسقط في أيدي الإنجليز، كما أنّ هس قرّر إسقاطها على الأرض والهبوط بمظلّة.

فرضيات موازية

يعتقد بعض المؤرّخين، مثل مارتن آلن، أنّ هس لم يتصرّف من تلقاء نفسه، بل كان ضحية مؤامرة للاستخبارات البريطانية؛ فقد جعلت العملية السرّية التي نفّذتها لندن هتلر يعتقد أنّ هناك جانباً من الحكومة البريطانية يتطلّع للتفاوض من أجل السلام، وقد شارك في هذه الخطة تشرشل وعدد من أبناء العائلة الملكية البريطانية.

هس في زنزانته في سجن لاندسبيرج في نوفمبر 1945 في انتظار المحاكمة

ويذهب آلن إلى ما هو أبعد من ذلك؛ حيث يرى، لكن دون أسانيد كافية، أنّ "طُعم" السلام المحتمل مع البريطانيين كان عاملاً حاسماً دفع هتلر لفتح الحرب على جبهتين، وبدء غزو الاتحاد السوفييتي قبل الانتهاء من الحرب مع بريطانية، على أنّ هذا التفكير ربما يكون طريقة للتخفيف من وقع حقيقة وجود "حزب السلام" بالفعل في إنجلترا، الذي يرفض الحرب مع هتلر ويعارض قرار هتلر بالمضيّ قدماً في الحرب بأيّ ثمن.

مصدر الترجمة عن الإسبانية: https://bit.ly/3jtIwt6

الصفحة الرئيسية