محمد الظريف: الصبغة الفسيفسائية للبرلمان التونسي عرقلت المشهد السياسي

محمد الظريف: الصبغة الفسيفسائية للبرلمان التونسي عرقلت المشهد السياسي


22/04/2021

أجرى الحوار: رامي شفيق

قال الأكاديمي التونسي، بكليّة العلوم القانونية والسياسيّة والاجتماعيّة، محمد عطيّل الظريّف، إنّ "التوافقات السياسية الظرفية في البرلمان التونسي، أربكت المشهد السياسي، وعطّلت عملية التحول الديموقراطي، بشكل كبير"، مؤكداً في حواره مع "حفريات" "صعوبة التوافق، في ظل الأزمات المتتالية، التي عصفت بالمشهد التونسي، منذ انطلاق الحدث الثوري، وإلى الآن".

بعض الاختيارات الثّوريّة ذات الطّابع أو التوجّه أو النفس الدّيمقراطيّ قد تكون خاطئة أحياناً

وأضاف الأستاذ المختص في القانون الدّستوري والقانون البرلماني، والمدرب في مجال ورقات السيّاسات العامّة، أنّ "التيار الإسلامي، وضع بعض البنود في الدستور التونسي، في العام 2014، تحت مسمى الحفاظ على الهوية، تتناقض بدورها مع النصوص الضامنة لحرية الضمير والعقيدة، وأنّ المحكمة الدستورية، في حال تكوينها، سوف تكون أمام أزمة حقيقية، لتأويل النصوص المتضاربة".

وأوضح أنّ "غياب أغلبيّة مريحة، ومعارضة واضحة بين حزبين، أو كتلتين، أو توجُهين واضحين، عسّر عمل مجلس نوّاب الشّعب، والحكومات المتعاقبة، وعطّل مسار الانتقال الديمقراطيّ"، وأنّ "التوافق كحلّ للتشّتت، لعب دوراً في حسم بعض المسائل، ولكنّه في المقابل (وفي غياب من يحكم ومن يُعارض) بدّد المسؤولية السياسيّة".

وهنا نص الحوار:

أصل الأزمة السياسية

برأيكم ما أصل الأزمة السياسية، ومأزق المحكمة الدستورية التي تمر بها تونس اليوم؟

بعض الاختيارات الثّوريّة، ذات الطّابع أو التوجّه أو النفس الدّيمقراطيّ، قد تكون خاطئة أحياناً،  وتضع المسار برّمته في أزمات أو مطّبات، لعدم تلاؤمها مع المرحلة المعنيّة. فلئن كان اعتماد طريقة الاقتراع بالتّمثيل النّسبي، مع أكبر البقايا خلال انتخابات أعضاء المجلس الوطني التّأسيسي، اختياراً صائباً عموماً، لكونه سمح بتمثيل أوسع طيف ممكن (رغم بعض التشّتت)، فإنّه لم يسمح عند انتخاب مجلس نوّاب الشّعب في العام 2014 وفي العام 2019 بضمان الاستقرار السيّاسي للمؤسّسات.

فغياب أغلبيّة مريحة، ومعارضة واضحة بين حزبين، أو كتلتين، أو توجُهين واضحين، عسّر عمل مجلس نوّاب الشّعب، والحكومات المتعاقبة، وعطّل مسار الانتقال الديمقراطيّ (رغم بعض الانجازات).

الشرعية الدستورية

هل يعني ذلك أنّ الصبغة التعدديّة لمجلس النواب، كانت سلاحاً ذا حدين؟

الصبغة الفسيفسائيّة للبرلمان، وإن كانت مُحقّقة لثراء المشهد، وتنّوع الأفكار، وتعدّد التّمثيل، فهي من جهة أخرى مُكبّلّة ومُعرقلة للمشهد، لأنّها تقوم على تحالفات ظرفيّة، أو هشّة، أو على توافقات صعب الوصول إليها، وبنتائج وخيمة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، من جهة، وعلى تنزيل الدّستور من جهة أخرى، وتحديداً إرساء المحكمة الدّستوريّة، حيث يتطلّب ثلث أعضائها (4 من 12) انتخابهم بأغلبية معزّزة من قبل البرلمان (ثلثي أعضاء المجلس أي 145 صوتاً من مجموع 217 نائباً) وهي أغلبيّة صعبة التّحقيق، في ظلّ التشرذم، وغياب تحالفات واسعة ومستقرّة.

وماذا عن التوافق السياسي بين الفرقاء، كحل للأزمات المحتملة؟

التوافق كحلّ للتشّتت، لعب دوراً في حسم بعض المسائل، ولكنّه في المقابل (وفي غياب من يحكم ومن يُعارض) بدّد المسؤولية السياسيّة، ووزّعها على عدّة أطراف، ولم يعُد المواطن والنّاخب، قادرين على  تحديد من يفعل ماذا؟ ولماذا؟ ومن المسؤول الذّي يمكن محاسبته، فتشتُّت الحّكم بين الجميع، أدّى إلى تشتّت المسؤوليّة السياسيّة، وتاه النّاخب في ذلك الغموض.

هل كان تعدد حكومات التكنوقراط، نوعاً من السعي تجاه هذا التوافق؟

 نادراً ما كان الوضع الحكومي طبيعيّاً، فبحكم عدم حصول أيّ حزب على الأغلبيّة، لاحظنا نزعة أو توجّهاً نحو اختيار رؤساء حكومات، من خارج الحزب (تكنوقراط) أو من داخله، ولكن من الصفّ الرّابع أو الخامس (يتمّ الدّفع بهم، في حين أنّهم غير معروفين) ويُحمّلون المسؤوليّة في أشخاصهم، وتقصى بذلك الأطراف السياسيّة الحاكمة، التّي من المفروض أن تكون هي المسؤولة سياسيّاً، وعلى قدر تلك المسؤوليّة، فالوضع الطّبيعي في الديمقراطيات التقليديّة، يستدعي أن يترأّس رئيس الحزب، أو قائده، أو أمينه العام الفريق الحكومي، لا البحث عن شخص في الظّل.

وماذا عن الشرعية الدستورية؟

على الرّغم من كلّ هذه الصعوبات، بقي التمسّك بالاعتماد على الشّرعيّة الدّستورية والقانونيّة، الخطّ المتواصل وشبه الثّابت، في أغلب المراحل التّي مرّت بها تجرية الانتقال الدّيمقراطي في تونس، (فترة الثورة/ الفترات المُؤقتّة/ الفترات الدائمة المُستقرّة). ففي أصعب الفترات وأحلكها وأعقدها، كان البحث دائماً عن سند شرعيّ، يُبقي القرارات المُتّخذة، أو المُراد اتّخاذها، تحت غطاء الدّستور؛ بالانطلاق منه والعودة إليه، وتطبيقه؛ لفضّ المشاكل (التّفويض لرئيس الجمهوريّة لاتّخاذ مراسيم/ التّنظيم المُؤقّت للسّلط العموميّة...)، رغم وجود بعض الاستثناءات التّي تمليها أحياناً الظّروف، والحقيقة الميدانيّة، والاستحالة الماديّة، والمطالب الشّعبيّة (كاعتصام القصبة، الذّي أدّى إلى تعليق العمل بالدّستور، أو اعتصام الرّحيل، أو مقتل بعض المعارضين، أو تغيّر في موازين القُوى).

تأثير الأزمات السياسية

إلى أيّ حد أثرت الأحداث والأزمات السياسية على مخرجات دستور 2014؟

في 06/02/2013 اغتيل زعيم المعارضة البارز، شكري بلعيد، ممّا أثار احتجاجات دامية، وأزمة سياسيّة، وفي  25/07/2013  تمّ اغتيال محمّد البراهمي (بأربع عشرة طلقة ناريّة أمام منزله)، وهو سياسيّ تونسي، وعضو المجلس الوطني التأسيسي، عن حزب التيّار الشّعبيّ، والمنّسق العامّ للحزب، والأمين العامّ السّابق لحزب حركة الشّعب، وينتمي للتيّار النّاصري، ما أشعل مظاهرات، دعت الحكومة إلى الاستقالة، وإعلان إضراب عام.

الاقتراع بالتّمثيل النّسبي سمح بتمثيل أوسع طيف على حساب انتخابات تضمن الاستقرار السيّاسي للمؤسّسات

وفي اليوم التالي، نفّذت المعارضة اعتصاماً سُميّ بـ"اعتصام "الرّحيل"، في ساحة باردو (أمام مقر المجلس، وبالتوازي في عدّة مدن تونسية أخرى أبرزها سوسة وصفاقس). وانسحب 60 نائباً من المعارضة، احتجاجاً على قتل أحدهم (النّائب محمّد البراهمي بعد تصفية شكري بلعيد) واعترافاً منهم بعدم إمكانية التوصل إلى اتفاق نهائي، بشأن نص الدستور داخل المجلس الوطني التأسيسي، حتى بعد صياغة النسخة الرابعة، ودام الاعتصام ما يقرُب من ثلاثة أسابيع، والتحق بالمعتصمين الآلاف من المحتّجين، مطالبين بحلّ المجلس الوطنيّ التأسيسي، واستقالة حكومة علي العريض والرئاسة، وهو ما اعتبرته الترويكا "خطّاً من الخطوط الحمراء"، غير قابلة للتفاوض.

وماذا عن رد فعل حركة النهضة، باعتبارها المكون الرئيس في حكومة الترويكا آنذاك؟ وكذا الحركات الشبابية الثورية؟

نظّمت النّهضة اعتصاماً مُوازياً في باردو، مع قبولها "من حيث المبدأ" للتّفاوض، وأطلقت النهضة "الائتلاف الوطني لنجاح الانتقال الديمقراطي"، الذّي يتكوّن من اثني عشر حزباً.

وقد نادت حركة تمرّد، بالاعتصام (أُسوة بحركة تمرّد في مصر) ودعا له عقب تصفية البراهمي، ائتلاف الجبهة الشّعبيّة، وأحزاب أخرى، والاتّحاد العام التونسي للشّغل، وشارك في الاعتصام مُنتمون للأحزاب، وآخرون غير متحزبين، وأعضاء مستقيلون من المجلس الوطني التأسيسي. وأصدرت الحركات الشبابية: "خنقتونا"، و"عُدنا"، وحركة "تمرد"، وكش مات"، و"الحركة الثقافية الثورية"، ومجموعة من الشباب المستقل؛ بياناً في 26 تموز (يوليو)، دعت فيه للعصيان الشّامل، ومواصلة تأليف اللّجان الشّعبية المحليّة، بُغية تكوين المجلس الشّعبي الثّوريّ، وذلك بهدف حلّ المجلس التّأسيسي، وإسقاط الحكومة.

رغم كلّ الصعوبات بقي التمسّك بالاعتماد على الشّرعيّة الدّستورية والقانونيّة، الخطّ المتواصل وشبه الثّابت

وقد تنقل عدد كبير من مشّيعي جنازة محمّد البراهمي، لمقر المجلس الوطني التأسيسي، واعتقلت قوات الأمن، التي توجهت هناك لتفريق المتظاهرين، العشرات من معارضي الحكومة، وقد شاركت عديد الوجوه المعروفة في الاعتصام.

وفي 10 آب (أغسطس) 2013، دخل خمسة أعضاء من حركة تمرّد في إضراب جوع مفتوح، عقب محاولة رفع خيام اعتصامهم بالقوة، من قبل موالين للحكومة، ليلاً. وفي 12 آب (أغسطس)، دخل اثنان من "شبكة حقي"، في إضراب جوع مفتوح، مساندة لإضراب جوع أفراد من حركة تمرد. والتأمت مسيرة سلمية في مدينة أريانة، في 12 آب (أغسطس)، دعماً لاعتصام الرحيل في باردو.

الحوار الوطني

بالنسبة إلى الحوار الوطني، أين ذهبت مبادرات التوافق؟

في 30/07/2013 تقدّم الاتّحاد العام التونسي للشغل، بمبادرة الحوار الوطنيّ؛ للخروج من الوضع المتأزّم الذّي تعيشه البلاد، وكان الهدف الاساسيّ من تنظيم هذا الحوار الوطنيّ، تجنّب التّصعيد والعنف، المنذر بالانفجار السياسيّ والاجتماعيّ، والمهدّد بنسف ما تبقّى من استقرار، ونفس ثوريّ، وبوادر انتقال ديمقراطيّ (كانت بسبب الأزمة في طريقها إلى الاجهاض). وسينطلق الحوار رسميّاً بعد 3 أشهر.

في الأثناء بدأت فعلاً مفاوضات غير رسمية، بين مختلف الفرقاء السياسييّن، تحت رعاية الرباعي الراعي له: الاتحاد العام التونسي للشغل، منظمة الأعراف، عمادة المحامين، والرّابطة التّونسية للدّفاع عن حقوق الإنسان.

الدّستور لم يجعل اختيار أعضاء المحكمة الدستورية بيد سلطة واحدة بل أرسى توازناً في جهات التّعيين

لم يكن اختيار هذه المنظمّات الأربع من قبيل الصدفة، حيث تحظى المنظمّتان الرّئيسيّتان، اتّحاد الشّغل ومنظمة الأعراف، بشرعية تاريخية؛ لمساهمتها في التّحرير الوطني، وتأسيس دولة ما بعد الاستقلال. كما أنّ المنتمين لعمادة المحامين، هم من النخب الوطنية التاريخية؛ أما الرابطة، أول منظمة لحقوق الإنسان في العالم العربي (1978)، فهي رمز نضال النخب الديمقراطية. ولم يكن للرباعي سلطة اتخاذ القرار، بل انحصر دوره في التحكيم، وتقريب وجهات النظر.

انطلق الحوار الوطنيّ رسميّاً (بعد تأجيل ذلك عدّة مرّات، وبعد 10 أيّام من الموعد المقرر، للاحتفال الرّسمي بانطلاقه). وقد وقع تعليقه، ثم استئنافه مجدّداً، بعد فضّ بعض الاشكاليّات، في منهجيّته ومواضيعه وأهدافه.

ماذا عن المرّات التي تعثر فيها الحوار؟

شهدت الثّلاث أشهر الأولى، تعثّر الحوار في رسم خريطة طريق، يجب تنفيذها خلال فترة محدّدة، أقصاها ثلاثة أسابيع، وتم اختيار الأطراف، على أساس قاعدة مزدوجة: التمثيليّة والمساواة. فإلى جانب اللّجنة الرباعيّة، تّم اختيار الجهات الفاعلة، على أساس العضويّة في المجلس الوطني التأسيسيّ؛ ممثل عن كل حزب في المجلس التّأسيسي، مهما كان وزنه الانتخابي وهكذا، لم يشارك من أعضاء التحالفات السياسيّة (الجبهة الشعبية، والاتحاد من أجل تونس، وجبهة الإنقاذ الوطني) إلاّ من كان له تمثيل بالمجلس. في المقابل، اعتبر المؤتمر من أجل الجمهورية، حزب رئيس الجمهورية، الحوار الوطني "انقلاباً" على الشرعية الانتخابية.

هل نجح الحوار الوطني في رسم خريطة طريق للخروج من الأزمة؟

كان هدف الحوار الوطنيّ، إخراج المسار من المأزق؛ لذلك رسم خريطة الطريق؛ لوضع حد لأسباب الجمود السياسيّ: أولاً استقالة الحكومة لصالح حكومة مؤقتة غير مسيّسة، ثانياً، الإسراع في الانتهاء من كتابة الدستور، ثالثاً، سنّ قانون الانتخابات، واستكمال انتخاب هيئة الانتخابات، ومن ثمّ تحديد موعدها في أسرع وقت، ولهذه الغاية، شُكّلت ثلاث لجان للإشراف على خارطة الطريق.

كان الغرض من هذا الجدول الزّمني هو تسريع الخروج من المرحلة الانتقالية، إلا أنّ النّهضة اشترطت، إنهاء مهام المجلس الوطني التأسيسي، بالتوازي مع استقالة الحكومة، مطالبة بتزامن المسارات، أما المعارضة فلم ترَ موجباً لهذا التزامن، وطالبت باستقالة علي العريض، في غضون ثلاثة أسابيع، وهو ما فعله في رسالة بعث بها إلى اللجنة الرباعية، يوم 24 تشرين الأول (أكتوبر)، ولكن التأخير في اختيار رئيس الحكومة البديل، أعاد إلى الطاولة، مسألة التزامن بصفة فعليّة.

الانسداد السياسي

لكن في كل مرة، كنا نواجه حالة من الانسداد السياسي، فما الأسباب؟

 في الواقع، وصل الحوار الوطني عدّة مرّات إلى طريق مسدود. أولاً، لم يتمّ التوّصل إلى اختيار رئيس الوزراء، لعدم وجود توافق بشأن اسم مستقل، إلى جانب العدد الكبير من المرشحين المحتملين. فبعد أن امتنعت في البداية عن تقديم مرشح، رفضت النهضة أي مرشح آخر، ما عدا أحمد المستيري، بدعم من أربعة أحزاب، ضد 14 لمحمد ناصر، و2 لجلول عياد، حسب التصويت في هيئة الحوار. أخّر هذا التّكتيك تكليف رئيس الحكومة.

 أما هيئة الانتخابات فقد توقّف مسار انتخاب أعضائها عدّة مرّات، نظراً لإلغاء أوّل فرز من قبل المحكمة الإدارية، ثم أعاد المجلس الوطني التأسيسي على هذا الأساس، انتخاب 36 مترشحاً.

وألغت المحكمة الإدارية من جديد في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 إجراءات التّصويت، الذّي لم يتّم الاحترام فيه، مقياس تقييم المرشحين حسب القانون. وأخيراً، ما عرقل عملية استكمال الدّستور، هو عجز المجلس الوطني التأسيسي، عن صياغة دستور توافقي، بعد فشل المفاوضات، ضمن "لجنة التوافقات"، مع العلم أنّ لجنة التّوافقات داخل المجلس، حدّدت 16 نقطة خلافية.

وكيف جرت في نهاية الأمر عملية المصادقة على مشروع دستور الجمهورية التونسية؟

تحت ضغط الحوار الوطني، عدّلت اللّجنة البند الثاني من الفصل 48 حول القيود على الحقوق والحريات، وحذفت البند الثالث من الفصل 76 الذي يحدد الحدّ الأدنى لسن الترشح للانتخابات الرئاسية، حيث كانت الترويكا تريد استبعاد ترشح الباجي قائد السبسي، وعمره 84 سنة، للانتخابات الرئاسيّة.

في آخر المطاف صدّق المجلس الوطني التّأسيسي، على مشروع الدستور، بأغلبية كبيرة شبه توافقيّة بـ200 صوت من 216، مع اعتراض 12 نائباً، واحتفاظ 4 آخرين بأصواتهم.

وكان من المقرّر أن ينتهي المجلس التأسيسي، من وضع مسوّدة الدّستور خلال عام بعد انتخابات 2011، لكنه تأخر بسبب الخلافات والتجاذبات، والصراعات السياسية والأيديولوجية الحادّة، والاستقطاب الثنائي في البلاد.

ورغم التشّنج الذي خيّم على مُعظم جلسات التّصويت، التّي عقدها المجلس الوطني التأسيسي، بشكل ماراثوني، في سباق واضح مع الزّمن، الذّي فرضته روزنامة الاستحقاقات الدّستورية، التي تضمنتها خريطة الطريق، إلا أنّ رؤساء الكتل نجحوا في تحقيق الحدّ الأدنى من التوافق، حول مضامين معظم فصول الدستور، رغم التناقضات القائمة بين مرجعياته، والأجندات الحزبية والانتخابية، التي ما انفكت تلقي بظلالها على مواقفهم، فكان الدستور مرآة المخاض الذي صاحب ولادته، فكان دستوراً توافقياً، بين رؤى متناقضة للدولة وللمجتمع، وهو يُعتبر من الدساتير الطويلة، نظراً للإسهاب في إبراز بعض التفاصيل القانونية، ويخشى أن تمثل هذه التفاصيل، مطبات حقيقية ساعة تطبيق الدّستور، وهذا ما كان سبباً في جزء كبير منه، في تعطيل إرساء بعض المؤسسات، كالمحكمة الدّستورية، وباقي الهيئات الدستوريّة المستقلّة.

ينسب لراشد الغنوشي قوله إنّ التغيير التدريجي لقوانين الأحوال الشخصية بتونس قد يصبح ممكناً مستقبلاً "لأنّ الذي يضع القانون ليس الدستور، فالقانون يفسّره القوي"، الى أيّ حد كأستاذ للقانون الدستوري، ترى إمكانية حدوث ذلك؟

يمكن تقديم إجابة عامّة، متعلّقة بالدّور الذّي ستلعبه المحكمة الدّستوريّة مستقبلاً، إن كُتب لها الظهور، في ظلّ تكريس قيمتين تبدوان متعارضتين في الدّستور، وهما من جهة مدنية الدّولة (الفصل 2 منه) وما تبعها من حقوق مواطنيّة، على غرار حريّة المعتقد والضمير، اللّتين تكفلهما الدّولة (الفصل 6 وما نصّ عليه كذلك، بخصوص ضمان الدّولة لحياد المساجد، ودور العبادة، عن التّوظيف الحزبي، والتزامها بنشر قيم الاعتدال والتسامح ومنع دعوات التّكفير...)، ومن جهة أخرى (التّنصيص على الإسلام دينها، واشتراط أن يكون دين المترشّح لمنصب رئيس الجمهوريّة الإسلام، وفق الفصل 72 من الدّستور). فكيف سيقع تأويل الدّستور، من قبل المحكمة الدّستوريّة على ضوء هذه المعطيات؟

هل نحن إذن بصدد دستور أشبه بحقل ألغام؟

المحكمة ستكون مُطالبة بالقيام بفض الاشتباك، في كنف احترام الفصل 146، والقاضي بأن "تُفسّر أحكام الدّستور، ويُؤوّلُ بعضها البعض، كوحدة منسجمة"؛ فالمحكمة ستبحث عند تأويلها على هذا الانسجام، وستواجه في عدّة حالات مسألة التعارض المذكورة، بين البعدين المدني والديني، المكرّسين بطرق مختلفة، ودرجات متفاوتة في الدّستور.

معضلة تشكيل المحكمة الدستورية

ولماذا التأخير في تشكيل المحكمة الدستورية كل هذا الوقت؟

لعلّ التّأخير الحاصل، والمأزق الحاصل منذ 5 سنوات تقريباً، والمتمثل في عدم نجاح مجلس نوّاب الشعب، في استكمال حصّته من أعضائها، يُعزى إلى التخوّف من هيمنة شقّ على آخر في تركيبتها؛ فالمحافظون أو على الأقل جزء منهم، لا يرغبون في سيطرة التقدميّين والحداثيين على تركيبة المحكمة الدّستوريّة، خوفاً من تأويل الدّستور في اتّجاه معيّن، والعكس بالعكس.

كيف ستكون تركيبة المحكمة الدّستوريّة؟ وهل ستكون فعلاً متكوّنة من أعضاء لهم من الاستقلاليّة ما يسمح لهم الاضطلاع بأدوارهم؟

 الدّستور لم يجعل اختيار أعضاء المحكمة في يد سلطة واحدة، بل أرسى توازناً في جهات التّعيين، وتساوياً بين السلطات الثلاث، حيث ينتخب البرلمان 4 أعضاء، وكذلك نفس الشيء بالنسبة إلى المجلس الأعلى للقضاء، ويعيّن رئيس الجمهوريّة 4 أعضاء.

السيد رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، له رأي قبل تقلده منصبه الرئيس، أنّه "كما وضع دستور 1959 على المقاس، وضع الدستور الجديد على مقاس أكثر من طرف"، كيف تفسر ذلك؟

رئيس الجمهوريّة لا زال يعتقد إلى اليوم، أنّ الدّستور التّونسي كغيره من الدّساتير، وهذا أمر منطقيّ، تضمّن جملة من الأحكام، التّي نجدها في أغلب دساتير العالم، كالتّنصيص على الحقوق والحريّات وضمانها، كما تضمّن الدستور فعلاً جملة من الأحكام الهامّة، التّي أُدرجت لأوّل مرّة في الدّستور التّونسي، كعدد من الحقوق والحرّيات (الحقّ في الماء مثلاً) وإحداث المحكمة الدّستورية، كهيئة قضائيّة مستقلّة، مختصّة في عدد من المجالات؛ كمراقبة دستوريّة مشاريع القوانين، وغيرها من الاختصاصات، وإحداث عدد من الهيئات الدستوريّة المستقلّة واعتماد المقاربة التشاركيّة في ممارسة الحكم، وهي تُعدُّ دون أدنى شك مكتسبات هامّة لتونس.

ولكن الرئيس يرى كذلك أنّ بعض الأحكام الأخرى، وليدة التنازلات والتجاذبات، كانت على المقاس، إلى درجة ربّما جعل الدّستور في بعض جوانبه السياسيّة، مقفلاً أو غير ناجع بسبب عدّة نقائص وثغرات، وما تعيشه تونس اليوم من أزمة سياسيّة خانقة، في مستوى أداء الحكومة لليمين أو إرساء المحكمة الدّستوريّة أو إدانة رئيس الجمهوريّة. فحسب رأيه، كان الدّستور ثمرة لتطلّعات عدد من الأطراف، يحاول كلّ واحد منها أن يتموقع بطريقة أو بأخرى، بفصول دستوريّة قد لا تجد طريقها إلى التّطبيق.

الرئيس قيس سعيّد، له تصريح شهير يقول فيه: "ما أجمل نصوصنا الدستورية ولكن ما أبعد الممارسة عن النصوص، التي يفترض أنّها تنظمها"، برأيك هل يفسر ذلك الأزمة السياسية في تونس؟

نعم، بصفة نسبيّة يمكن تفسير جانب من الأزمة السياسيّة في تونس، بالهوّة بين النّصوص الجميلة الحالمة، والممارسة العويصة الظالمة للدّستور وفلسفته. وعليه نلاحظ التفاوت بين النص والواقع.

وعلى الصعيد السياسي، بقيت بعض الفصول حبراً على ورق، بسبب الوضع السياسي الخانق والمشتّت، حيث كثرت الأزمات، وغابت بعض المؤسسات؛ كالمحكمة الدستوريّة، حيث غلبت الحسابات السياسيّة على الرّوح الدّستوريّة، واستغلّت الأطراف الفاعلة تلك الثغرات الدستوريّة، مؤولة إيّاها أو موجهّة معانيها لمصالحها، حسب الوضع، وتغيّر التوازنات الحزبية، ممّا أثّر سلباً على العناوين الكبرى للسياسات العامة، من مقاومة الفساد، وتحسين المستوى المعيشي للمواطن التونسي، والارتقاء بالبنية التحتيّة، والتنمية الجهويّة والمحليّة، وغيرها.

هل يمكن القول، إنّ بعض نصوص الدستور ولدت ميتة، كما يرى بعض المراقبين؟

الدّستور تضمّن، بحكم التنازلات المذكورة، بعض النصوص التّي ولدت ربمّا ميّتة، لغياب الإرادة الحقيقيّة لتطبيقها، كالمحكمة الدستوريّة، أو صعوبة تحقيقها في ظرف سياسي متأزّم، واقتصادي خانق، واجتماعي متأجج.

ويتواصل الوضع إلى اليوم، فرئيس الحكومة لا يريد الاستقالة، رغم تعطّل تسمية عدد كبير من أعضاء حكومته، ورئيس الجمهوريّة أعاد نص القانون المتعلّق بتنقيح قانون المحكمة الدستوريّة، لقراءة ثانية للبرلمان، وملوّحاً بإمكانيّة عدم ختمه، حتى في حالة التّصويت عليه بالأغلبية المعززة، المنصوص عليها في الدّستور.

ومن جهته يعيش البرلمان أحلك فتراته، نظراً للانقسامات والمشاجرات والاختلافات، وتغيير التوازنات، في ظل نظام داخلي عاجز عن وضع حدّ لتلك الممارسات.

كما أنّ بعض الكتل والنوّاب، ألمحوا بدورهم، في مواجهة الفيتو الرئاسي على قانون المحكمة، عزمهم، في حال دخول قانون المحكمة حيّز النّفاذ، بالانطلاق في إجراءات إعفاء رئيس الجمهوريّة؛ لخرق الدّستور، وعرض ذلك على المحكمة الدّستوريّة، لطلب إدانة الرئيس، في المقابل، اعتبر الرئيس أنّ الإسراع بتكوين المحكمة الآن، هو ردّة فعل، ولا ينمّ عن رغبة حقيقيّة في  إرسائها.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية