من يحمي العلمانية في فرنسا: القانون أم العدالة الاجتماعية؟

من يحمي العلمانية في فرنسا: القانون أم العدالة الاجتماعية؟


16/12/2020

في الذكرى الخامسة والتّسعين لتطبيق القانون الفرنسيّ العام، الذي أرسى الفصل بين الكنيسة والدّولة في البلاد، لعام 1905، تمّ تعديل 57 نصّاً من القانون الفرنسيّ، تحت عنوان "إرساء مبادئ الجمهوريّة".

اقرأ أيضاً: هل تنجح فرنسا في كف يد أردوغان عن مسلميها؟

أثارت هذه التعديلات غضب شرائح عديدة من المجتمع الفرنسيّ، لكنّ أغلب الهجوم جاء من بين صفوف التيارات الإسلاميّة، التي رأت أّنّ هذه التعديلات هي اضطهاد للإسلام والمسلمين الفرنسيّين، خاصّة من المهاجرين.

أزمة الرّسوم المسيئة

قبل عامين، نشرت صحيفة "يورونيوز" تقريراً عن عزم الرئيس الفرنسيّ إحداث تغييرات في قانون فرنسا العام، بهدف إعادة هيكلة الدّيانة الثانية في فرنسا، وهي الإسلام، والتي يعمل عليها الرئيس منذ توليه زمام السلطة، عام 2017، وأشارت وزيرة العدل آنذاك، نيكول بيلوبي، إلى أنّه من الممكن أن يتمّ تعديل القانون مرّة أخرى، بينما عقّب الإليزيه بأنّ التّفكير جارٍ في التعديلات، لكن مع زيادة التوترات بين الإدارة الفرنسية والمسلمين، يبدو أنّ الرئيس اتخذ القرار أخيراً، والذي يرى بعض الفرنسيين، من غير المسلمين، أنّه لا يقوّض حرّية المسلمين، بل يلهي الجميع عن قانون الأمن الشامل الذي لقي معارضة واسعة، أدّت إلى تظاهرات عارمة في ربوع البلاد.

وتيرة هذا التعديل القانونيّ سرّعتها التوترات الأخيرة التي شهدتها فرنسا، والانقسامات الحادّة حول حرّية الرّأي واحترام معتقدات الآخرين، التي بدأت بعد أزمة الرسوم المسيئة للرسول، عليه السلام، حيث دافع ماكرون عن حقّ مجلة "شارلي إيبدو" الفرنسية الساخرة في إعادة طبع الرسوم الكاريكاتورية، وتحدّث في خطبته المشهورة عن أنّ الدّين الإسلاميّ في أزمة، بعد أحاديث طويلة تجري منذ عام 2018 عن كيفيّة مكافحة ما أسماها الرئيس الفرنسي بـ "الانفصالية الإسلامية"، ومن بين كلّ هذه التراكمات، اندلعت تظاهرات احتجاجيّة، دعت إليها عدّة قوى إسلاموية، في بلدان مختلفة، حيث آل هذا التعصب في النهاية إلى ذبح المعلم الفرنسي، صمويل باتي، على يد إرهابيّ شيشانيّ، كان ردّ الفعل عليه بطعن امرأة فرنسيّة لسيّدتين من المهاجرين، فيما كان السجال السياسيّ والدبلوماسيّ بين أنقرة وباريس على أشدّه؛ حيث دعا الرئيس التركيّ كافة بلدان العالم الإسلاميّ إلى مقاطعة المنتجات الفرنسية، وهو ما زاد من حدّة التوترات والاحتقان بين البلدين، التي ما تزال مستمرّة منذ عدّة أشهر.

ماكرون متهم بمغازلة  اليمين، عن طريق مهاجمة الإسلام نفسه، وإعادة هيكلة "العلمانيّة" الفرنسيّة حتى تصبح هجوماً على الحرّيات الشخصيّة والدينيّة، بدلاً من الدفاع عنها

كان المعلم باتي قد عرض الرسوم المسيئة في فصل دراسيّ، بهدف استكشاف حرّية الفكر، وفق ما يتم تداوله إعلامياً، وفي خطاب تأبينه؛ أوضح الرئيس ماكرون أنّ باتي قُتل لأنّ الإسلاميين يريدون صياغة مستقبل فرنسا وفق أيديولوجيتهم، معلقاً "لن تتخلى فرنسا عن الرسوم الكاريكاتورية حتى لو تراجع الآخرون".

 وبالرغم من أنّ فرنسا دولة لا تدعم سوى قيم العلمانية التي تحضّ على التعايش السلمي بين الجميع، إلّا أنّها أصبحت الآن أكثر دول أوروبا انشغالاً بأزمات الدين والهويّة.

نظرة على العلمانية الفرنسية

عندما  طُبّقت فكرة فصل الكنيسة عن الدولة، للمرة الأولى في القرن التّاسع عشر، ثم تمّت كتابتها عام 1905، كانت الفكرة هي أن يكون هناك تعايش سلمي بين جميع الأديان في ظلّ دولة محايدة، أمّا قبل القانون فكانت الكاثوليكية الرومانية هي دين الدولة الفرنسيّة؛ حيث كان الحاكم الفعليّ هم رجال الدين الأقوياء.

تستمر فرنسا في محاولة إظهار تمسّكها بالعلمانية، وهو  ما بدا في قانون آذار (مارس) 2004، الذي حظر ارتداء جميع الملابس التي تحمل طابعاً دينياً في المدارس، بغضّ النظر عن الدين، وظلّ الحديث عن الحجاب الإسلاميّ، منذ هذا الوقت، داخل دائرة الضوء في السّياسة والإعلام الفرنسي، ورغم صدور القانون وتعميمه على كلّ الأديان، إلّا أنّ منتقديه قالوا إنّ القانون يستهدف المسلمين وحدهم، لأنّ المسيحيين لا يرتدون غطاءً للرأس.

اقرأ أيضاً: ما الذي يجعل زيارة السيسي لفرنسا ذات أهمية استثنائية؟

 وفي ظلّ احتدام النقاش هذه الأيام حول الحضور الديني في فرنسا، علّق بعض نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي الفرنسيين، عبر مجموعة تحمل اسم "اشتراكية أم بربرية"، وكان رأي العديد منهم أنّ فرنسا تمرّ بأزمة هوية، وأنّ العلمانية تستخدم كسلاح رئيس في ذلك.

اقرأ أيضاً: تفاصيل المشروع السري للإخوان بفرنسا.. وما حقيقة الدعم القطري؟

 يقول الباحث في العمارة الإسلاميّة بجامعة تولوز، جوينيل ريتشي، لـ "حفريات": "لطالما تمّ استخدام دعوات العلمانية الفرنسية ضدّ المسلمين، من قبل المحلّلين السياسيّين لحملهم على إزالة العلامات المرئية لدينهم، بينما لا يتماشى هذا مع مبدأ العلمانية، كما ورد في دستور البلاد، فالتعريف القانوني يتطلب الحياد الدينيّ للدولة، وليس الأفراد، طالما أنهم لا يخلّون بالنظام العام، كما يصعب تحقيق تفسير العلمانية بأنّ جميع مواطني الجمهورية يجب أن يكونوا الشيء نفسه في فرنسا الحديثة، ومن الواضح أنّ التمييز بين المجتمعات والأفراد موجود في المجتمع.

الباحث في العمارة الإسلاميّة بجامعة تولوز، جوينيل ريتشي

ومع وجود أغلبية كاثوليكيّة تاريخياً، تضمّ فرنسا الآن أكبر عدد من المسلمين في أوروبا الغربية؛ حيث يقدّر عدد المسلمين بأكثر من 5 ملايين، في دولة يبلغ تعدادها 67 مليون نسمة.

هل هي العلمانيّة حقاً؟

كان الرئيس قد أعلن إجراءات تهدف إلى "تحرير الإسلام في فرنسا من التأثيرات الأجنبيّة"، والتي تشمل قيام الجمعيّات بتوقيع عقد يحترم "قيم الجمهوريّة" من أجل الحصول على إعانات، ووفق مقال نشرته صحيفة "لوموند"، تعقيباً على التعديلات؛ فإنّ الأزمة لن تكون بالنسبة إلى المسلمين المعتدلين، إنّما أصوات المعارضة تأتي من تيارات الإسلام المتطرفة؛ حيث يقول عدد متزايد من المسلمين الشباب إنّهم يعدّون قوانين الدولة الفرنسيّة أقل مخالفة لقوانين الإسلام، أمّا الغالبية العظمى من المسلمين الفرنسيين، (70٪) وفق إحدى الاستطلاعات، هم إما غير متدينين، أو يقبلون بأنّ الدولة العلمانية الفرنسية تحمي حرّيتهم الدّينية، وبأنّ القوانين العلمانيّة لها الأسبقيّة على القانون الدينيّ.

الباحث في العمارة الإسلاميّة بجامعة تولوز، جوينيل ريتشي لـ "حفريات": "لطالما تمّ استخدام دعوات العلمانية الفرنسية ضدّ المسلمين، لحملهم على إزالة العلامات المرئية لدينهم

 وبحسب الكاتب الصحفي الفرنسيّ المستقلّ، وعضو اللّجنة المركزيّة لحزب "نضال عمالي" الشيوعيّ الثوريّ، فيليب شوفالييه؛ فإنّ قيَم العلمانيّة الفرنسيّة لن يحميها القانون بقدر ما ستحميها منظومة من العدالة الاجتماعيّة، وضمان الحياة الكريمة للمهاجرين الذين يتعرّض بعضهم للإقصاء بسبب اللون أو الدين.

ويلفت شوفالييه، في تصريح لـ "حفريات" إلى أنّ "ماكرون اتُّهم في الآونة الأخيرة بمغازلة  اليمين، عن طريق مهاجمة الإسلام نفسه، وإعادة هيكلة "العلمانيّة" الفرنسيّة حتى تصبح هجوماً على الحرّيات الشخصيّة والدينيّة، بدلاً من الدفاع عنها، أمّا فيما يتعلّق بالعلمانيّة، كما ورد في القانون الفرنسيّ؛ فإنّ موقف ماكرون المتشدّد، عندما يتعلّق الأمر بالخلاف الأخير، حول حرية التعبير، هو تجسيد لكيفيّة رفض الدولة الفرنسيّة أن تكون قناة للمطالب الدّينية، وهي تفعل ذلك بشكل أكثر ثباتاً مما تفعله، على سبيل المثال، الولايات المتّحدة؛ حيث الجماعات الدينيّة لها تأثير أكبر في السّياسة الأمريكيّة، أمّا علمانيّة فرنسا فهي أصيلة، وتحظى بتأييد واسع بين اليمين واليسار، لكن كي تحقّق هذه العلمانيّة كما يجب أن تكون، هناك شروط اجتماعيّة بدأت في التلاشي، وأوّلها زيادة الفجوة الطبقيّة، وتعرّض بعض الفئات للاضطهاد والتهميش، وهو ما سيجعل هذه الفئات قنابل موقوتة، تتجه إلى الجانب المضادّ للعلمانيّة".

الصفحة الرئيسية