وائل حلاق وأطروحاته في الشريعة والسياسة والحُكم... لماذا سببت الجدل؟

وائل حلاق وأطروحاته في الشريعة والسياسة والحُكم... لماذا سببت الجدل؟

وائل حلاق وأطروحاته في الشريعة والسياسة والحُكم... لماذا سببت الجدل؟


20/01/2022

عند صدور الترجمة العربية لكتاب وائل حلّاق الأشهر، "الدولة المستحيلة"، في العام 2014، توجّس منه مناصرو تيارات "الإسلام السياسي"، واعتبروا أنّ أطروحات حلّاق تهدف لهدم "المشروع الإسلامي"، وخاصّة أنّه جاء في حينه مع سياق مضاد لمرحلة مشاركتهم في الحكم في عدد من الدول العربية. في حين مال عدد من الكتّاب من التيارات العلمانية للترحيب بأطروحات حلاق، محاولين توظيفها كوسيلة لنقد مشروع مناوئيهم الإسلاميين، ففتحت هذه التجاذبات التساؤلات حول طبيعة وماهيّة وخُلاصات هذا المشروع الذي كان من بين مشاريع قليلة استطاعت تحريك مياه الفكر في الفضاء العربي ـ الإسلامي خلال العقود الأخيرة.

المشروع وإطاره

من أجل استيعاب وفهم أدق لمشروع حلاق ومراميه، فإنّه لا بدّ من إدراك أنّه يبقى بعيداً عن الارتباط بأي من التجاذبات والاشتباكات السياسية المباشرة، إنّه مشروع متكامل جاء في كتب متعددة، صدرت على مدار أكثر من عقدين من الزمن، منها: "تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام"، و"نشأة الفقه الإسلامي وتطوّره"، و"الدولة المستحيلة"، و"قصور الاستشراق"، و"إصلاح الحداثة".

أغلفة عدد من أبرز الكتب الأولى للدكتور وائل حلّاق

ومشروع حلّاق يأتي ضمن مجالات معرفية متعددة ومتقاطعة، تضم تاريخ التشريع والفقه الإسلامي، وأصول الفقه، وفلسفة الأخلاق، والفلسفة السياسية. وبعد أطروحات تحليلية وتحقيقات في تاريخ الفقه وأصول الفقه، بلغ مشروع حلاق، في جانبه النقدي، ذروته مع كتاب "الدولة المستحيلة"، الذي جاء بشكل أساسي في إطار النقد للحداثة والدولة الحديثة، عبر بيان الأفكار والفلسفة التي ترتبط بها وتستند لها. ومن ثمّ، ومن منطلق تفضيل حلّاق للتجربة الإسلامية التاريخية في الحكم، وذلك باعتبارها أكثر أخلاقية وإنسانية، جاء تركيزه على التناقض بين الإسلام والدولة الحديثة، باعتبار ذلك تخليصاً له من مأزق وإشكالات يوجبها هذا الاقتران المنشود لدى الإسلاميين على امتداد الحقبة المعاصرة.

مصطلح متناقض

بالنسبة إلى وائل حلّاق، فإنّ مصطلح 'الدولة الإسلامية" هو مصطلح ينطوي على تناقض بين الكلمتين المكوّنتين له؛ فالدولة كما يبيّن ويجادل، هي منتج وتشكيل جاء ضمن سياق اقتصادي ـ اجتماعي ـ فكري مرتبط بسياقات تكوينه في الغرب، ومن ثمّ جرى تصديره وتعميمه، بفعل آليات الاستعمار والعولمة، إلى سائر أنحاء العالم.

اقرأ أيضاً: كيف جعل المعتزلة العقل قيِّماً على الشريعة؟

الدولة الحديثة، كما يبيّن حلّاق، تتضمن أسساً ومستندات تتنافى تماماً مع ما تدعو إليه المنظومة التشريعية الأخلاقية الإسلامية وتقوم عليه من أسس تستند لمنظومات قيمية وروحانية ومعتقدات تتنافى ولا تتوافق مع ما تنبني عليه وتفترضه الدولة الحديثة اليوم. وبالتالي، فإنّ تركيب الإسلام على هذه الدولة، هو ليس فقط أمراً ممتنعاً بسبب التناقض الجوهري بين المنظومتين، وإنّما هو ظلم وإجحاف بحقّ المنظومة التشريعية والقيمية والأخلاقية الإسلامية، كما يرى حلاق.

كتاب "الدولة المستحيلة" جاء بشكل أساسي في إطار النقد للحداثة والدولة الحديثة

يحرص حلاق على التأكيد في كتاباته باستمرار على أنّ نظام الدولة هو نظام حديث مخالف ومُباين في معاييره لما عرفه البشر عبر العصور الماضية؛ إنّه ينطلق ويتمحور حول ما انبنت عليه الحداثة؛ إذ إنّها بدايةً قد انطلقت من منطلق مفارق ومُحايث للأديان والعقائد، وذلك عبر جعلها المركز هو الإنسان، وليس الله، ومن ثمّ ارتبطت أكثر فأكثر بالانزياح للتمحوُر حول المادة والمكسب المادي، وهو ما ترسخّ وتعزز مع سيادة وطغيان المنظومة الرأسمالية، التي تجعل السلع والاستهلاك والقيمة والربح المادي الأساس في تحديد قيمة الأشياء. إنّ هذه المعايير تتنافى تماماً مع ما تقوم وتتأسس عليه الأديان والمعتقدات من أسس قيمية وأخلاقية، ولذلك فإنّ "الدولة الإسلامية" هي "دولة مستحيلة"، وهذا هو جوهر أطروحة حلاق في كتابه الأبرز: "الدولة المستحيلة".

يوجّه حلّاق نقده بالدرجة الأولى لمفرزات الحداثة، ولكن أيضاً يوجه النقد بدرجة مماثلة لـ "المسلمين الحداثيين"

إنّ حلّاق يوجه نقده بالدرجة الأولى لمفرزات الحداثة، ولكن أيضاً يوجه النقد بدرجة مماثلة لـ "المسلمين الحداثيين"؛ فَهُم ـ كما يرى ـ يعيشون مفارقة ما بين واقع الدولة الحديثة وما تفرضه من قيود، وبين ما يحملونه من أفكار تُوصَف بأنّها "تقليديّة" وتتنافى مع هذا الواقع. إنّها معضلة التوفيق بين المعيار الأخلاقي المتحقق في الشريعة الإسلامية، وبين تشكيل الدولة الحديثة كما نعرفها اليوم.

اقرأ أيضاً: لماذا يعتقد مسلمو فرنسا أنّ الشريعة أهم من القانون؟

يؤكد حلاق أنّ السعي لـ"الإسلامية" (Islamism)، بما هي محاولة لـ"أسلمة" المؤسسات والنظم الحديثة، دون تغيير واستبدال الأسس التي تنبني عليها، هو بالضرورة سعي لـ"المستحيل". وفي حين أنّ مفكري "الإسلام السياسي" المعاصرين يعتبرون "الدولة" مجرّد أداة، يمكن فصلها عمّا يرتبط بها من منظومات وقيم بالضرورة، يبيّن حلاق أنّ هذا الفصل غير ممكن، وأنّ السعي لإقامة الدولة الإسلامية لا يمكن أن ينجح؛ إذ لا يمكن فصل الدولة الحديثة عن المنطلقات الفكرية والأخلاقية الخاصة بها، كمفاهيم السيادة، والشعب، والمواطن.

يرى حلاق أنّ تركيب الإسلام على "الدولة" هو ظلم وإجحاف بحقّ المنظومة التشريعية والقيمية والأخلاقية الإسلامية

ومثال على ذلك مفهوم المواطن، إنّ هذا المفهوم يطرح ذاتاً فرديّة تتنافى مع الذات الإسلامية التي تقوم على أساس وجود يقوم على العبودية والطاعة لله، بينما المواطن في الدولة هو نتاج صنع الدولة، "كأنّه الوجه الآخر للدولة"، فهو يمثلها في مستواها الفردي. كذلك مفهوم "السيادة"، الذي ترتكز عليه الدولة الحديثة، ففي الحكم الإسلامي السيادة هي لله، وليس للأمّة أو للدولة ومؤسساتها وقانونها.

الحكم الإسلامي ودولة الحداثة... اختلافات جذرية

إنّ الدولة الحديثة تصنع سيادتها بناءً على مرجعياتها وإطارها المفاهيمي الخاص، الذي تتكوّن من خلاله مجموعة مجرّدة تُسمى "الأمّة" ـ وهي مفهوم مركزي بالنسبة إلى الدولة الحديثة ـ والتي يتوجّب على كلّ فرد ينتمي إليها طاعتها كما لو كانت إلهاً. وبهذا يخلُص وائل حلاق إلى أنّ "الدولة الحديثة تصوغ فرداً لا يتماشى مع ما يعنيه أن تكون مسلماً"! في حين أنّ الشريعة في الإسلام لا ترتبط بالسلطة التنفيذية وأجهزتها ـ كما هو الحال في الدولة الحديثة ـ وإنّما ترتبط بالمجتمع. في التجربة التاريخية الإسلامية كان الكيان الفقهي والقضائي مدعوماً من خلال المؤسسات المستقلة بذاتها مالياً وإدارياً، فكان القضاء مستقلاً، والتعليم مستقلاً، وكانت الأوقاف مستقلة، والإفتاء مستقلاً.

يرى حلاق أنّ النظم الإسلامية جرى استبدالها مع وصول "الدولة" إلى المجال السياسي الإسلامي مع قدوم الاستعمار

وإذا كان الحاكم المسلم التقليدي يعتبر نفسه خاضعاً للقانون، متخليّاً عن الوظائف القضائية والتشريعية لفائدة سلطة العلماء، فإنّ الدولة الحديثة غيّرت هذا المبدأ، مفترضة أنّ السلطة هي التي تُملي القانون، فضلاً عن أنّها وضعت الأوقاف ومواردها وأصولها تحت إشراف إدارة السلطة المركزية، وكان هذا إيذاناً ببدء عهد جديد أخذ فيه الفقهاء يفقدون السيطرة على مصادر سلطتهم، وصاروا يعتمدون على مخصصات الدولة، ففقد الفقيه المسلم الحديث ـ اللذين يختلفان جذرياً عن نظيرهما التقليدي ـ الإطار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي كان يشتغل ضمنه سلفه الفقيه المسلم التقليدي.

اقرأ أيضاً: "العمل بالشريعة": خديعة أصولية هدفها التهييج والتجييش

إنّ الدولة الحديثة، وفق حلاق، بطبيعتها لا تتحمّل أي اختيار فكري مغاير لمُنطلقاتها؛ فهي نتاج تاريخي في ثقافة معيّنة، هي ثقافة أوروبا وأمريكا الشمالية، ومنبتها النهضة الأوروبية وعصر الأنوار والثورة الصناعية والعقلانية. الدولة الحديثة هي بنت سياق غربي وبنت بيئته الفكرية، ويستحيل أن تتقبل غيرها. يؤكدّ حلاق أنّ مزاعم العقل الغربي التي جاء بها "عصر الأنوار" والحداثة ـ والمتمحورة حول مفاهيم مثل العقلانية والمصلحة ـ تبدو متناقضة تماماً ومُتعارضة إلى حدٍّ بعيد مع الروح الإسلامية.

اقرأ أيضاً: عن الشريعة والدولة

النظم الإسلامية لا يمكن تطبيقها وتنفيذها في عالم اليوم؛ لقد قامت هذه النظم على ما يُسمّيه حلاق "الحكم"، ولم يكن هناك "دولة"، لذلك كان هناك "أحكام سُلطانية" (كما في كتابات الماوردي وأبو المعالي الجويني)، وبالطبع فإنّ الفقهاء والمفكرين في الإسلام لم يصيغوا نظرية عن "الدولة"؛ لأنّه لم يكن هناك "دولة" في الفضاء السياسي الإسلامي.

أمّا وصول "الدولة" ـ بصيغتها الغربية الحديثة ـ إلى المجال السياسي الإسلامي، فقد كان من خلال التحوّلات التي صاحبت السياق الاستعماري، الذي تسبّب في إحداث تغييرات على السياقات الاقتصادية والسياسية التي كانت مرتبطة بالفضاء القضائي والتشريعي التقليدي، وهي تغيّرات ليست على مستوى الأدوات فقط، وإنّما على مستوى النُظُم والقيم؛ وهو ما جعل أيّ صورة من الحكم الإسلامي مستحيلة التحقق ضمن هذا السياق الحداثيّ. وبتعبير حلاق: "لا يمكن استدعاء الشريعة بصرف النظر عن السوسيولوجيا المقترنة بها"؛ أيّ دون السياق الاجتماعي-السياسي الذي تقتضيه، والذي هو مناقض لما تتأسّس عليه الدولة الحديثة وتنبني عليه. ومن ثم استمرت هذه القطيعة مع إنشاء ما عُرف بـ "الدولة الوطنية"، أو "ما بعد الاستعمارية"، في "العالم الإسلامي"، والتي خرجت من رحم التجربة الاستعمارية؛ لتولد في زمن تسيطر عليه آليات العولمة السياسية والاقتصادية.

مفاتيح للحلّ... الدعوة إلى الإبداع

وبما أنّ السياق الحديث مختلف جذرياً عن الفضاء التاريخي والمعرفي والاجتماعي الذي نشأت فيه وتطورت وازدهرت معه الشريعة الإسلامية، فإنّ حدوث الصِدام أمر لازم بين المرجعيتين المختلفتين، وبما أنّ نموذج الحكم الإسلامي ليس له أيّ قيمة بدون حكم الشريعة، كما يرى حلاق، ومن هنا فإنّه يُطلق الدعوة للمسلمين من أجل إعادة النظر بمجمل منظومة القيم في الدولة الحديثة، ليخرج المسلم من استلابه لذات المواطن الحداثي، وهو المواطن الذي يرى حلّاق أنّه قد انتزعت منه ذاتيته الوجودية، وأعدمت قيمته الإنسانية لحساب سلطة الدولة.

الباحث معتز الزيتاوي: أفضت دراسة حلّاق لتاريخ الفقه الإسلامي وأصوله إلى اكتشاف الأصل الأخلاقي للتشريع

ومن ثمّ، فهو يدعو بعد ذلك إلى إعادة الاعتبار بشكل إبداعي لقيم الشريعة الإسلامية، وتقديم الشريعة كنموذج قيميّ يفوق ما وصلت إليه الدولة الحديثة، وبحيث يتمثّل مهمّة استعادة الأسس الأخلاقية مشروعاً حداثياً إسلامياً جديداً، يأتي ضمن سياق "ما بعد الحداثة".

اقرأ أيضاً: لماذا يميل الأندونيسيون لتطبيق الشريعة الإسلامية؟

الأكاديمي والباحث الأردني في الدراسات الإسلامية، أستاذ اللغة العربية في جامعة البحر الأسود في طرابزون (تركيا)، الأستاذ معتز الزيتاوي، في توضيح منه لـ "حفريات" عن السياقات التي يمكن أن نضع فيها مشروع وائل حلاق، وهل نعتبره بمثابة ناقد أخلاقي وقيمي للحداثة بالدرجة الأولى أم "مجدداً" على مستوى أصول الفقه؟ يقول الزيتاوي: "اشتغل حلاق على محورين متداخلين، أفضى به الأول إلى الثاني؛ حيث أفضت دراسته لتاريخ الفقه الإسلامي وأصوله (المحور الأول) في مقاصده ووسائله وحيويته وفعاليته الممتدة لقرون متطاولة، والتي صنعت أنماطاً من العيش الأخلاقي المتَّزن عند الكثير من المجتمعات المسلمة تفوق في صلاحها ونجاحها وتخلُّقها الكثيرَ من غيرها من الأنماط، بل تفوقت على الأنماط المعاصرة في العيش الحداثي اليوم، إلى اكتشاف الأصل الأخلاقي للتشريع (المحور الثاني)، فلم يكن تبيُّن هذا التفوق الحضاري للتشريع الإسلامي وأنماط العيش المترتبة عليه ليتكشَّف له جليّاً لولا أنّه استطاع أن يبصر بحق وعمق المعيار الأصيل الذي نُسِج منه تاريخ الفقه الإسلامي وأصوله وفقهه، حيث مثَّل ذلك المعيار الذي هو "الأصل الأخلاقي الراسخ" اشتغال حلّاق الثاني بقوة، واستطاع بتوظيفه لهذا المعيار النظري وتطبيقاته في الشريعة الإسلامية العملية أن يؤسّس لآلية نقدية يُقيِّم من خلالها الواقع الحداثي؛ سواء بمنطلقاته أو وسائله أو غاياته".

يؤكد حلاق أنّ محاولة "أسلمة" المؤسسات والنظم الحديثة، دون تغيير واستبدال الأسس التي تنبني عليها، هو بالضرورة سعي لـ "المستحيل"

ويتابع الزيتاوي: "إنّ أخلاقية الشريعة الإسلامية هي التي وجَّهت حلاق إلى أن يكون ناقداً ثقافياً أخلاقياً، فقد بيَّنت له الشريعة أنّ هناك تجربة حقيقية كانت ماثلة في الحياة، وما زال بعض أثرها ينبض حيّاً في عالمنا العلماني المغاير لها، وما زال معيارها قابلاً للحضور بقوة لو أُخذ على وجهه، وتوفرت له بيئة أكثر إنسانية. ومن خلال نصوصها المدونة تجلّى لحلاق كذلك آليات تخليق القول والفعل و"التَّقنين" كخطاب مكتوب انعكس في حقيقة التاريخ وحركة موجوداته".

إنّ أهمّ ما يتمحور حوله نقد حلاق ودعوته التجديدية هو التركيز على القيم والأخلاق بالأساس، ويرى أنّ الحداثة والدولة الحديثة، بتركيزها على المادة وقيم الربح والكسب المادي والسيطرة والاستغلال والتملك والاستهلاك، قد تخلّت عنها، وهو ما يحتاجه اليوم، وتبرز الدعوة له ضمن سياق ما يُعرف بـ "ما بعد الحداثة"، وهو السياق الذي يمكن إنجاز المشروع الحداثي الإسلامي (الإبداعي، لا المقلّد) ضمنه.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية