إلى أي مدى استفدنا من جهود اليابانيين في دراسة القرآن الكريم؟

إلى أي مدى استفدنا من جهود اليابانيين في دراسة القرآن الكريم؟


03/07/2019

في ذكرى مرور خمسين عاماً على بداية الدراسات القرآنية في اليابان حول البنية الأساسية لعالم الأفكار القرآنية، ورؤية القرآن الكريم للعالم التي شهدها معهد الدراسات الثقافية واللغوية بجامعة كيو بطوكيو، ثمة حاجة لأن نسأل أنفسنا ماذا نعرف عن جهود اليابانيين في دراسة القرآن الكريم؟ وهل استفدنا من المقاربة اليابانية للإسلام؟

اقرأ أيضاً: لماذا ينشغل المسلمون بغيبيات سكت عنها القرآن الكريم؟

تسعى المدرسة اليابانية بالدراسة العلمية اللغوية للقرآن الكريم إلى فهم جديد للإسلام، على حدّ تعبير توشيهيكو إيزوتسو Toshihiko Izutsu (1914-1993) رائد الدراسات القرآنية في اليابان، غاية ما نريد هو "الإسهام بشيء جديد في سبيل فَهْم أفضل لرسالة القرآن لدى أهل عصره الأوّل ولدينا نحن كذلك"، فعلى الرغم من أنّ كثيراً من العلماء المتمكنين قد درسوا القرآن الكريم من زوايا عديدة، منها اللاهوتي والفقهي والنحويّ والتفسيريّ، إلّا أنّ القرآن الكريم ما يزال قابلاً لأن يُقارب من زوايا أخرى متنوعة، فلم يُقارب القرآن الكريم دلاليّاً في ضوء منهجيات علم اللغة الحديث، لذا اختارت الدراسات العربية في اليابان هذا الجانب، "فكشفت على نحو علمي التحوّل الجذري الذي أحدثه القرآن الكريم في حياة العرب والمسلمين بوصفه نظاماً مفهومياً جديداً أعاد صياغة المفاهيم السابقة، وأضاف إليها مفاهيم جديدة، وربط في ما بينها بعلاقات معقدة، فأنتج رؤية للعالم مختلفة تمتاز بمعمار مفهومي عظيم من حيث تماسكه ومرونته وتنظيمه".

مضى نصف قرن على محاولة اليابانيين بناء تصور حول الرؤية القرآنية للعالم في ضوء المنهجية الدلالية في ظل قصور الدراسات العربية

وفي إطار بحث المدرسة اليابانية عن رسالة القرآن الكريم لعصرنا الحالي انتهت إلى أنّ رسالته أخلاقية، فصدر عن معهد كيو للدّراسات الثقافيّة واللّغويّة في طوكيو عام 1959 دراسة لإيزوتسو بعنوان "بنية المصطلحات الأخلاقية في القرآن" The Structure of the Ethical Terms in the" Koran"، تم فيها تحري منهج علمي يعتمد التجريب والاستقراء؛ لتحليل البنية الأساسية للحقل الدلالي للتعابير الأخلاقية، ولتحقيقِ علمية التناول، تفادى إيزوتسو التأثّر بالأحكام القبْلية لأيّ موقف نظري للفلسفة الأخلاقية، وقد أعاد نشر الدراسة عام 1966 بعد أن أدخل عليها تعديلات، مستفيداً من إجاباته على الأسئلة الجدلية التي أثارتها الدراسة في الأروقة العلمية داخل معهد كيو، ومعهد الدّراسات الإسلاميّة في جامعة مكل، وحمل الإصدار الجديد عنوان "المفاهيم الأخلاقية الدينية في القرآن" "Ethico- Religious Concepts in the Qur'an".

اقرأ أيضاً: "دنيا القرآن".. قصة مخطوط يدفع عن طه حسين تهمة نقد القرآن الكريم

أصدر إيزوتسو" كتابه الثاني بالإنكليزية عام 1964 بعنوان: "الله والإنسان في القرآن: دراسة دلالية لنظرة القرآن إلى العالم"، "  GOD AND MAN IN THE KORAN: Semantics of the koranic weltanschauung"، طبعه معهد جامعة كيو للدراسات الثقافية واللغوية بطوكيو، الذي أصدر كتابه الثالث عام 1965، "مفهوم الإيمان في عِلم الكلام الإسلاميّ ـ تحليل دلاليّ للإيمان والإسلام THE CONCEPT OF BELIEF IN ISLAMIC THEOLOGY – A SEMANTIC ANALYSIS OF IMĀN AND ISLAM ، الذي أثار هو الآخر جدلاً علمياً تبعه تنقيح لمضمونه وإعادة نشره في نسخة جديدة عام 1966، وهذا ما أثنى عليه "إيزوتسو" بقوله: "أسهموا في جعلي أستوضح أفكاري أكثر بأسئلتهم الحيوية وتعليقاتهم القيّمة"، وهذا يُؤكد أنّ دراسات "إيزوتسو" لا تُعبّر عن رُؤية بحثية فردية، وإنما تعكس تصوّراً بحثياً جمعياً.

من أهم ما يُميّز دراسات المدرسة اليابانية للقرآن هو اعتمادها المباشر على اللغة العربية في دراسة المفاهيم القرآنية

ولا تدخل جهود الباحثين اليابانيين في إطار الدراسات الاستشراقية بما يحمله بعضُها من مواقف سلبية، فالمستعربون اليابانيون أنفسهم لا يُفضلون نعت دراساتهم بالدراسات الاستشراقية، ويستبدلون بها مصطلح "الدراسات العربية في اليابان"، وينظرون إلى نتاجهم الفكري بوصفه قراءة شرقية مستقلة ومنفصلة عن القراءة الغربية الاستشراقية، كما تُؤكد المدرسة اليابانية احترامها لمصادر التراث الإسلامي سيما كتب التفاسير المعتمدة، وتُشيد باللغة العربية كإحدى اللغات المعروفة عالمياً، التي تمتلك معاجم لغوية ونظاماً نحوياً دقيقاً استفادت منه في درسها الدلالي، إلا أنّها لا ترى خصوصية وتميزاً للغة العربية؛ إذ اعتبرت مجيء القرآن الكريم بها يرجع إلى كونه أنزل على العرب.

اقرأ أيضاً: كيف وظفت السلفية الجهادية مفهوم الطاغوت في القرآن الكريم؟

اعتمدت الدراسات العربية في اليابان على تطبيق منهج التحليل الدلالي أو المفهومي لمواد مستمدة من المعجم القرآني، فعملها له وجه منهجي يُمثّله علم الدلالة، ووجه تطبيقي ميدانه القرآن الكريم، بعبارة أخرى عملُها دراسة دلالية للقرآن الكريم تقوم على تحليل للمفاهيم المفتاحية في القرآن الكريم، وهي عدد معيّن من الكلمات ذات الأهمية الخاصة، فالكلمات ليست ذات قيمة متساوية في تشكيل البنية الأساسية للتصور الأونطولوجي ليس من الناحية اللغوية فحسب، بل من جهة التاريخ الثقافي للعرب، فمثلاً كلمة قرطاس لا تُسهم في تمييز الرؤية القرآنية الكلية للكون إذا قُورنت بكلمة شاعر، وستُصبح كلمة شاعر ذات أهمية ضئيلة إذا قُورنت بكلمة "نبي"، فكلمات مثل "الله"، "إسلام"، "إيمان"، "كافر"، "نبي"، "رسول" تُؤدي دوراً حاسماً وحقيقياً في تشكيل البنية المفهومية للرؤية القرآنية للعالم، وهذا ما يجعلها كلمات ذات مفاهيم مفتاحية في القرآن الكريم، تُقدّم مقاربة لمسألة العلاقة الشخصية بين الله تعالى والإنسان في الرؤية القرآنية للعالم.

اعتمدت الدراسات العربية في اليابان على تطبيق منهج التحليل الدلالي أو المفهومي لمواد مستمدة من المعجم القرآني

والتحليل الدلالي من منظور اليابانيين ليس تحليلاً آلياً للكلمات المفتاحية، معزولة من حيث هي وحدات جامدة، بل يتعرف على استمعالها الحيّ ومعناها السياقي كما استعملها القرآن الكريم، وجاءت في لغة العرب قبل الإسلام؛ فالكلمة في حقيقتها ظاهرة اجتماعية ثقافية معقّدة، "فكل الكلمات، وبلا استثناء، تتلون قليلاً أو كثيراً بطابع مميز خاص يتأتّي من البنية الخاصة للوسط الذي تُوجد فيه".


ومن أهم ما يُميّز دراسات المدرسة اليابانية للقرآن الكريم هو اعتمادها المباشر على اللغة العربية في دراسة المفاهيم القرآنية، ودقة وعلمية لغة التناول، والعقلانية والموضوعية والابتعاد عن التعقيد في العرض، والتركيز على دور اللغة في تشكيل رؤية الإنسان لعالمه من خلال إعادة تنظيم المفاهيم القديمة والمستحدثة وإدخالها في أنساق جديدة يترتب عليها فهم جديد للعالم، ودور الإنسان فيه، وتعاطيها مع الثقافة العربية الإسلامية كوِحْدة مُتماسكة متشعبة في التفسير وعلم الكلام والفلسفة الإسلامية واللغة العربية والأدب العربي القديم، وتحليل مظاهر الحضارة العربية والإسلامية ودراستها بعناية، وكذلك التفاعل مع منهجيات الثقافة الغربية الحديثة دون أن تجمد عندها، فاستفادت من مناهجها العلمية المتنوعة، بعد أن عدّلتها وطوّرت منها بخلافنا، فما نزال ما بين منبهر متجمد أمام المنهجية الغربية، ومتجمد عاجز عن الانفصال عن مناهج القدامى ينظر إلى القرآن بعيونهم، ووفق مناهجهم فحسب.

اقرأ أيضاً: قاض بريطاني يطلب من إرهابي دراسة القرآن الكريم وتعاليم الإسلام

فممّا يُؤسف له أنّ الدراسات اليابانية حول القرآن الكريم لم تلقَ اهتماماً لدى المسلمين إلا متأخراً فنشرت مؤسسة "الكتاب الإسلامي في ماليزيا" "Islamic Book Trust" ثلاثة منها باللغة الإنجليزية 2002، وتأخرت الجامعات والمراكز العربية في ترجمة الدراسات اليابانية أربعين عاماً فترجم منها الدكتور عيسى علي العاكوب ثلاثة كتب من الإنجليزية إلى العربية، خلال عامي 2007، 2008 صدرت تباعاً عن دار المُلتقى، وصدرت ترجمة ثانية لكتاب "الله والإنسان في القرآن، علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم" عن المنظمة العربية للترجمة عام 2007، أعدّها الدكتور هلال محمد الجهاد، لكن هذا لا ينفي أن بعض المفكرين البارزين تواصلوا معها في نسختها الإنجليزية مثل د.نصر حامد أبو زيد الذي تأثّر في دراسته "العالم بوصفه علامة" التي نشرها في منتصف التسعينات بمنهجية "إيزوتسو".

رغم أهمية ما قدمته المدرسة اليابانية إلا أنّها بدايات منهجية لرؤية علمية قابلة للتطوير والتمهيد لدراسات قرآنية دلالية أكثر عمقاً

مضى نصف قرن على محاولة اليابانيين بناء تصور حول الرؤية القرآنية للعالم في ضوء المنهجية الدلالية وما تزال الدراسات العربية تُواجه قصوراً في هذا الجانب، فمن المؤسف أنّ علاقة العقل العربي بالمنهجية اليابانية في دراسة القرآن الكريم اقتصرت على مواقف الإعجاب والتقدير أو الانتقاص والتحذير دون التعمق في دراستها والاستفادة من آلياتها، أضف إلى ذلك واقع الدراسات التي كتبت حول علم الدلالة، فكثير منها يفتقر إلى الدقة والاتساق والتناغم، ولعلّ ذلك يعود إلى "الطبيعة المعقّدة لعلم الدلالة التي تجعل من الصعب تماماً على غير المختص إن لم يكن مستحيلاً أن يأخذ ولو فكرة عامّة عن ماهيته. وهذا يعود بشكل عام إلى حقيقة أنّ "علم الدلالة" (Semantics) كما يُوحي الأصل الاشتقاقي الدقيق للمصطلح، علم يُعنى بظاهرة "المعنى" بأوسع معاني الكلمة، وهو واسع في الحقيقة إلى درجة أنّ كلّ شيء تقريباً مما يُمكن اعتباره ذا معنى - أيّ معنى، سيكون مؤهلاً تماماً لأن يُصبح موضوعاً لعلم الدلالة".

اقرأ أيضاً: القرآن الكريم والوجدان...والمضامين التاريخية المعطِّلة

أخيراً دراسات اليابانيين حول القرآن الكريم أثارت أسئلة كثيرة، وفتحت الأعين على منجزات علم اللغة الحديث بكل فروعه ومنهجياته التي سيؤدي حتماً تطبيقها على القرآن الكريم؛ إلى نتائج مُثمرة، فما قدّمه اليابانيون يحتاج إلى استجابات من الباحثين العرب المهتمين بتطبيق مناهج الدَرْس اللُّغوي الحديث في دراسة القرآن الكريم، فرغم أهمية ما قدمته المدرسة اليابانية إلا أنّها بدايات منهجية لرؤية علمية قابلة للتنمية والتطوير والتمهيد لدراسات قرآنية دلالية أكثر عمقاً.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية