"ما بعد الإسلاموية" بين آصف وعلي حرب

"ما بعد الإسلاموية" بين آصف وعلي حرب


13/09/2018

فهد سليمان الشقيران

في حوارٍ تلفزيوني حديث أجرته قناة «فرانس 24» مع علي حرب تحدّث عن كتابه: «الجهاد وآخرته – ما بعد الأسلمة» منطلقاً من مطارقه النقدية المعروفة لقرائه، إذ ينهج سبل «المابعد» في التجاوز النقدي والتحليلي، وذلك منذ منتصف التسعينات حيث كتابه «التأويل والحقيقة»، وبلغ ذروة الإنتاج النقدي في أوائل الألفية حيث الكتابات والتعقيبات الجريئة والمتجاوزة لمشاريع الحداثة. ومنذ أحداث 11 سبتمبر (أيلول) وعلي حرب ينخرط في تحليل العنف والتطرف والحالة الأصولية، ولكنه دخول المتسائل والمتأمل أكثر منه إسهام العارف بدهاليز الشريعة وتفاصيل السجال الفقهي على طريقة زملاء له آخرين، ولذلك يأتي مضمون كتابه ليطرح ما بعد الأسلمة، كما طرح (ما بعد الحداثة – ما بعد الحقيقة – ما بعد التفكيك)، فالأسلمة بظواهرها وتياراتها تذروها رياح التغييرات والآفاق الفكرية الجديدة، والعدة المنهجية المتطورة؛ فقط حين يكون الإسلام رأسمالاً رمزياً لشبكة من القيم الجامعة.
وضمن منهجٍ آخر مختلف، أقرب ما يكون للتحليل التاريخي، والاستشراف لتحولات الحركات الإسلامية أشرف آصف بيات على كتابٍ مهم بعنوان «ما بعد الإسلاموية - الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي» وقد طرح بالمكتبات قبل سنتين، والكتاب بمضمونه اتجه نحو إثبات وجود تحوّلات وتغيرات بالحركات الإسلامية. يقول بيات وهو المشرف على الكتاب الذي شارك فيه عشرة باحثين إن تشخيص حالة «ما بعد الإسلاموية» بدأ يتشكل لديه منذ منتصف التسعينات حين «أثارت فترة ما بعد الإسلاموية منذ ظهورها نقاشاتٍ حية بين الباحثين والنشطاء في مجال الإسلام السياسي، ومن المدهش أن هذه النقاشات قد بدأت بأوروبا وتبعتها نقاشات في البلدان ذات الأغلبية المسلمة خاصة تركيا وإندونيسيا وماليزيا والمغرب وإيران»، ثم يشير إلى كتابه الآخر «صناعة الإسلام الديمقراطي - الحركات الاجتماعية والانعطافة ما بعد الإسلاموية».
في الكتاب تناول كل باحثٍ مجاله، فإحسان داغي كتب عن التحوّلات في الحركية التركية، وجيهان توغال عن إعادة تجذير المحافظة التركية، وسامي زمني عن ما بعد الإسلاموية المغربية ودعوى التصاعد بين الحقيقة والخرافة، بينما نور هادي حسن يتناول السياسة ما بعد الإسلاموية بإندونيسيا، وآصف بيات خص بحثاً عن مصر، وجوزيف الآغا عما سماه «انفتاح حزب الله»! وحميراء اقتدار عن الانشقاقات في الحركة الإسلامية بباكستان، وحول حدود ما بعد الإسلاموية في السعودية كتب ستيفان لاكروا، وعبد الوهاب الأفندي عن الإسلاموية بالسودان من قبل ومن بعد، وحول سوريا والإصلاحية الإسلامية كتب توماس بيريه. والكتاب رغم الاختلاف الشديد مع منهاجه ونتائجه غير أنه يستحق أكثر من وقفة؛ وذلك انطلاقاً من بداهات «الانفتاح» و«التحول» و«التغييرات» التي يفرضها الباحثون ضمن اعتسافٍ منهجي غير مبرر، وبخاصة في البحثين المخصصين حول تركيا، إذ بالغ الباحثون بالخلط بين التغييرات الفكرية الآيديولوجية وبين استراتيجيات التمدد وأنماط البراغماتية السياسية المتوغّلة في تاريخ الأحزاب الإسلامية عموماً وفي التجربة التركية على وجه الخصوص.
بالطبع فإن عنوان الكتاب الذي وضعه آصف بيات ينطلق من قناعة وفرضية متأصلة لدى المشرف والمساهم أن تكون الحركات الإسلاموية ضمن مخاضات تغير تتجاوب مع ضغط العالم، وتجبرها على الدخول ضمن العمل المدني المؤسسي، والانخراط بالعصر وبالحداثات وصرعاتها، لكنه في الوقت نفسه يفتح مجالاتٍ لتبرير الموجات الأصولية المحتملة حين يقول في بحثه: «على المرء ألا يستبعد على الأقل على المدى القصير إمكانية صعود ديني تقوده قوى اجتماعية تعرضت للقمع على مدار سنواتٍ طويلة على يد نظم علمانية غير ديمقراطية. وفي الحقيقة فتح إسقاط هذه النظم الديكتاتورية المجال الاجتماعي والسياسي لكل أنواع الأفكار والحركات» وهذا يتعارض مع فكرة ما بعد الإسلاموية التي يطرحها هو، ذلك إنه يتحدث الآن عن حراك مسلح ضد «الديكتاتوريات العلمانية» بينما يشرح هو معنى ما بعد الأسلمة بقوله: «إن ما بعد الإسلاموية تشير إلى عملية العلمنة بمعنى تأييدها لفصل الأمور الدينية عن شؤون الدولة، ولكني بالأحرى أتحدث عما بعد الأسلمة كعملية مركبة للانقطاع عن الأحزمة الآيديولوجية الإسلاموية من خلال الالتزام بمشروع ديني مغاير وأكثر استيعاباً يستمر فيه الإسلام كدين وكمكون للمجال العام».
هنا يخرج بيات من الحديث عن المشروعية النظرية للحراك المسلح بوجه النظم العلمانية الديكتاتورية، لشرح معنى الدولة الإسلامية الحديثة، وهذا أمر ملّ الباحثون من طرحه انطلاقاً من التجربة الماليزية أو حتى التركية باعتبارهما نموذجي افتخار لدى الحركات، لكن الأجدى ببيات ومعه جمع من الباحثين المهمين الدخول لمعنى الدولة الإسلامية نفسه، وأن يشرح محتوى الدولة الإسلامية من حيث القوانين والأنظمة وقبل ذلك الهويّة، إذ إن تجارب ما بعد الإسلاموية تعاني الآن من فشل اقتصادي ذريع، وأخرى تضطرب ضمن موجة أصولية شعبية داخلية وخارجية.
إن الاستعجال باستشراف واقعٍ تنقرض فيه الحالة الإسلاموية لا ينمّ عن تحليلٍ محكم، هذا مع الفرق المنهجي بين ما بعد الأسلمة لدى علي حرب المنطلق من تحليلات فلسفية مفهومية ويخط هذا التحليل ضمن خيطية منهجية بدأها منذ ثلاثين سنة حول «المابعديات» أو كما سماها «أحاديث النهايات»، ولكن آصف بيات يقدم أوراقاً استشرافية لقراءة تغير الآيديولوجيات والاستراتيجيات، وهذا ما أوقع العمل بإحراجات منهجية عديدة مثل «خصخصة الإسلام» ونفي «الإسلام الليبرالي» حيث يرد على كتاب تطرقت إليه من قبل «الإسلام الليبرالي» لتشارلز كورزمان (ص51).
الأوضح أن التيارات تعيد تشكيل نفسها وتتجه لصناعة موجاتٍ خطيرة، وما الحديث عن نهايات تلك المجاميع إلا أضغاث الأحلام.

عن "الشرق الأوسط" اللندنية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية