ما هو "التطرف" الذي تريد الحكومة البريطانية محاربته؟

ما هو "التطرف" الذي تريد الحكومة البريطانية محاربته؟

ما هو "التطرف" الذي تريد الحكومة البريطانية محاربته؟


28/03/2024

ترجمة محمد الدخاخني

باري غولدووتر، مرشح الحزب الجمهوري للرئاسة في الولايات المتحدة عام 1964، له مقولة لا تُنسى: "التطرف في الدفاع عن الحرية ليس رذيلة". ليندون جونسون هزمَ غولدووتر، لكنّ هذا الاقتباس يتردَّد صداه في واشنطن حتى اليوم.

المشكلة هي ما الذي تعنيه كلمة "التطرف"؟ لقد حاول رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير تعريفها بعد التفجيرات الإرهابية التي شهدتها لندن عام 2005، لكنّه فشل. ووعد ديفيد كاميرون، أحد خلفائه، بحظر التطرف، ولكن - مرة أخرى - من دون تعريف قانوني، كان ذلك مجرد خطاب سياسي وليس سياسة مُحكَمة من الناحية القانونية.

تكرِّر بريطانيا هذه الممارسة مرة أخرى من دون جدوى. فالحكومة الحالية، التي كشفت مؤخَّراً عن تعريف مُحدَّث، تشعر بالقلق إزاء ما تعتبره "زيادة" في التطرف. لكن في حين أنّ الأعمال الإرهابية التي يرتكبها المتطرفون تقع تحت طائلة القانون، فإنّ تعريف التطرف في حدّ ذاته يؤدي إلى إحياء هذه المشكلة طويلة الأمد.

الوزير المعني، مايكل غوف، مجتهدٌ وماهِر. وهو حَذِر أيضاً، حيث أشار إلى أنّ جماعات مختلفة، بما في ذلك تلك الموجودة في أقصى اليمين، تخالف التعريف الجديد. ومع ذلك، فقد ركَّز قدر كبير من النقاش على سلوك حفنة من المتظاهرين في المسيرات المؤيدة للفلسطينيين وهم يرددون كلمات يجدها البعض مُسيئة نتيجة للكارثة الإنسانية في غزة.

لكن هل كونك "مُسيئاً" في نظر بعض الناس يعني أيضاً كونك "متطرفاً"؟

شَهِدنا في مختلف أنحاء العالم مناقشات محتدمة حول ما هو مشروع وما هو غير مشروع في الاحتجاجات حول غزة بعد الهجوم على إسرائيل في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. ويُعدُّ هذا بمثابة برميل نفط سياسي. تدَّعي جماعات مختلفة أنّ الجماعات الأخرى التي لا يحبونها "متطرفة"، وهذا بدوره ينفي إمكانية أيّ نقاش قائم على المنطق.

نشطاء مؤيدون لفلسطين قاموا بمسيرة في لندن

بل إنّ الخلافات الساخنة وصلت حفل توزيع جوائز الأوسكار. فيلم "منطقة الاهتمام" يُعدُّ أحد أفضل الأفلام التي شاهدتها منذ أعوام، وهو يحكي قصة عائلة قائد "معسكر أوشفيتز" الذي كان يشرف على فظائع المحرقة.

تكمن عبقرية الفيلم في التّأكُّد من أنك لا ترى الأهوال بشكل مباشر، على الرغم من أنّ الموسيقى التصويرية تضمن لك معرفة ما يجري. يركز المخرج جوناثان غليزر (وهو يهودي) على التفاهات الرتيبة للحياة المنزلية في عائلة القائد. وإذا أردنا استخدام عبارة ثاقبة للمثقفة الألمانية حنا أرندت، فإنّ "منطقة الاهتمام" يُسلِّط الضوء على "تفاهة الشر".

المشكلة هي ما الذي تعنيه كلمة "التطرف"؟ لقد حاول رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير تعريفها بعد التفجيرات الإرهابية التي شهدتها لندن عام 2005، لكنّه فشل

ومع ذلك، عند حصوله على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم دولي، ألقى غليزر خطاباً انتقدته بعض الجماعات اليهودية ووصفته بأنّه "لا يمكن الدفاع عنه أخلاقياً" و"مُستهجَن". قال غليزر: إنّ "فيلمنا يُظهِر إلى أين يؤدي التجريد من الإنسانية في أسوأ حالاته". لكنّه أضاف بعد ذلك: "في الوقت الحالي، نقف هنا كرجال يرفضون اختطاف يهوديتهم والمحرقة من قِبل احتلال أدى إلى خلق حالة صراع للعديد من الأبرياء. وسواء كانوا ضحايا 7 تشرين الأول (أكتوبر) في إسرائيل، أو ضحايا الهجوم المستمر على غزة، فإنّهم جميعاً ضحايا هذا التجريد من الإنسانية".

بالنسبة إلى بعض مراقبي حفل توزيع جوائز الأوسكار، كان هذا أمراً منطقياً. بالنسبة إلى آخرين كان الأمر غير حساس بشكل مروِّع. واستخدمت صحيفة (جويش كرونيكل) البريطانية لغة لاذعة، مشيرة إلى أنّ العديد من اليهود يشعرون بالخوف من تزايد معاداة السامية، وما يسمعونه من هتافات وشعارات وأنشطة "متطرفة". وربما يعتقد آخرون أنّ إسرائيل مجرد دولة ديمقراطية تمارس "تطرف غولدووتر في الدفاع عن الحرية" ضد حركة حماس.

سواء كنت تتفق أو تختلف مع غليزر، فمن غير العادي أن يصبح المخرج الموهوب الحائز على جائزة الأوسكار لواحد من أكثر الأفلام المؤثرة (والكاشفة) عن المحرقة - والذي هو نفسه يهودي - الآن جزءاً من هذا النقاش الاستقطابي.

هل لدى غليزر آراء مُسيئة؟ هل يقدِّم هذا دعماً "للتطرف"؟ من المؤكد أنّه لا يدعو إلى العنف. هل لدى بعض منتقديه وجهات نظر قد يراها الآخرون "متطرفة"؟ ليس لديّ أيّ فكرة، لكنّ الكثير من الأشخاص البعيدين عن التطرف انتقدوا تصريحات غليزر، بما في ذلك المؤرخ البريطاني الذي يحظى باحترام كبير سيمون شاما.

تعليق فرانك هيستر على النائبة البريطانية ديان أبوت كان مسيئا، لكن هل كان جريمة؟

المشكلة في تعريف "التطرف" هي أنّه مثل القبح أو الجمال، فهو في عين النَّاظِر. إن وصف شيء ما بأنّه "تطرف"، فقد يعتمد على الحقائق، ولكن أيضاً على الرأي والفروق الدقيقة. السياق هو كل شيء عند تقييم الكلمات، والهتافات، والتعليقات الارتجالية.

أصبح فرانك هيستر، رجل الأعمال البريطاني المليونير والمتبرِّع لحزب المحافظين، يتصدَّر عناوين الأخبار في بريطانيا الآن بعد تصريحات مسيئة للغاية زُعم أنّه أدلى بها بشأن ديان أبوت، النائبة العمالية السوداء: "إنّ الأمر أشبه بأن تحاول ألّا تكون عنصرياً، ثم ترى ديان أبوت على شاشة التلفزيون، وحينها تريد أن تكره كل النساء السود. وأنا لا أكره كل النساء السود على الإطلاق، ولكن أعتقد أنّه يجب إطلاق النار عليها".

المشكلة في تعريف "التطرف" هي أنّه مثل القبح أو الجمال، فهو في عين النَّاظِر. إن وصف شيء ما بأنّه "تطرف"، فقد يعتمد على الحقائق، ولكن أيضاً على الرأي والفروق الدقيقة

من المؤكد أنّ هذه تعليقات مُسيئة، بالإضافة إلى أنّها غير حكيمة إلى حد كبير ومزعجة للغاية في وقت قُتل فيه أعضاء بالبرلمان البريطاني مؤخراً وتعرضوا للتهديد على يد أشخاص عنيفين حقاً. لكنّ قول أشياء غبية وحتى فظيعة لا يُعَدُّ جريمة في بريطانيا بشكل عام. وربما يكون مصير الحكومة، التي تسعى لتحديد التطرف بمصطلحات مُحكَمة، الفشل كما فشلت حكومات عدة من قبل.

من الممكن أن يكون لدينا جميعاً آراء حول غليزر وهيستر - وهما رجلان ناجحان للغاية في مهنتين مختلفتين تماماً - لكنّ إطلاق كلمة التطرف لمجرد أنك لا تحب ما يقوله الناس هو أمر أحمق.

وبما أنّ غوف ليس بالأحمق، فربما يعلم أنّ إعلان حكومته الأخير مجرد إلهاء آخر عن المشاكل الحقيقية التي تواجهها البلاد. كان من الممكن أن يكون الاستخدام الأفضل لوقته هو مشاهدة "منطقة الاهتمام"، فنحن جميعاً بحاجة إلى تعلُّم كيف يمكن أن يكون الشرّ تافهاً.

المصدر:

غافين إيسلر، ذي ناشيونال نيوز، 19 آذار (مارس) 2024




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية