أحمد باشا الجزار... بطل مقاوم أم حاكم عثماني باطش؟

أحمد باشا الجزار... بطل مقاوم أم حاكم عثماني باطش؟


27/08/2020

ارتبط اسمه وخُلّد باعتباره قائداً بطلاً، قاد معركة الدفاع عن عكا، وهَزَم نابليون وأسطوله على أسوارها. إلّا أنّه وللوهلة الأولى، وعند سماع اسمه "الجزّار"، فإنّه يوحي بطبيعة قاسية ومتجبّرة. فأيّهما كان الجزّار؟ البطل، أم الحاكم الباطش؟ أم أنّه جمع بين الطبيعتين والصورتين، ثمّ كان دور الذاكرة التاريخيّة تخليد وتعظيم صورة البطولة على حساب الثانية؟ 

رحلة الترقي إلى رتبة البيك

وُلد أحمد باشا الجزّار في البوسنة، في الجزء الأوروبيّ من أراضي الدولة العثمانيّة، وبعد مشاركته في ارتكاب جريمة فرّ إلى إسطنبول، ومنها انتقل إلى القاهرة. في مصر، كان الجزّار يُعرف باسم "أحمد البوسنويّ"، وهناك اشتغل قاتلاً محترفاً في خدمة الزعماء المماليك، وعمل في خدمة المملوك عبد الله بك، الذي كان يعمل تحت إمرة علي بك الكبير، شيخ البلاد، الحاكم الفعليّ لمصر في حينه. وأثناء احترافه لتلك المهنة نال لقبه "الجزّار"، بعد نصبه كميناً مميتاً لمجموعة من البدو، قتل فيه أكثر من 70 منهم.

فرّ الجزّار من علي بك الكبير خوفاً من اتهامه له بخيانته

خلال تلك الفترة، تعلّم الجزّار مهارات المماليك وتطبّع بعاداتهم وسلوكياتهم. وقد أعجب علي بك الكبير بالجزّار وعيّنه في منصب سنجق بك القاهرة، بحيث يكون مسؤولاً عن حفظ الأمن والنظام فيها، وأصبح يُعرف باسم "أحمد بك الجزّار". وفي عام 1768م، أصدر علي بك تعليمات للجزّار باغتيال صالح باي، أحد المماليك، والذي كان يعتبره تهديداً لسلطته. لكنّ صالح باي كان سيداً سابقاً للجزّار وصديقاً له، فقام بتحذيره من مؤامرة علي بك، إلّا أنّ صالح باي شكّ في تحذيره وذهب إلى علي بك وأخبره بتحذير الجزّار. ولمّا علم الجزّار بذلك أيقن أنّ علي بك سيحكم عليه بالقتل جزاءً للخيانة، فهرب مسرعاً من القاهرة، ووصل إلى الإسكندرية، ومن هناك صعد على متن إحدى السفن وفرّ إلى سوريا.

في مواجهة ظاهر العمر... وتولّي منصب الولاية

ترافق وصول الجزّار إلى سوريا مع بلوغ المواجهة بين الدولة العثمانية وظاهر العمر ذروتها، وفي عام 1772م، وبينما كان الجيش العثماني يُحاصر صيدا، طلب ظاهر العمر من الأسطول الروسي قصف بيروت، لتشتيت انتباه القوات العثمانية. واستباقاً لوصول الروس إلى بيروت. تمّ تكليف الجزّار بأوّل مهمّة عسكرية، وهي تولي الدفاع عن بيروت، وقد نجح في ذلك، وتمّ تثبيت الجزّار حاكماً في بيروت، ولتصبح بذلك أول نقطة انطلاق لمسيرة الجزّار في سوريا العثمانية.

تصوير أحد الرسامين الأوروبيين للجزّار وهو في بلاط حكمه في عكّا

لكنّ ذلك لم يرضِ يوسف الشهابي، حاكم بيروت السابق قبل توليّ الجزّار، فقرّر الانقلاب على العثمانيين، وبمساعدة ظاهر العمر والأسطول الروسي، استطاع استعادة بيروت. فما كان من الجزّار إلّا أنْ هرب عام 1773م إلى الأستانة. وهناك كسب رضا السلطان مصطفى الثالث، وخليفته عبد الحميد الأول. وفي آب (أغسطس) عام 1775م، تمكّن العثمانيون من هزيمة ظاهر العمر وقتله. إثر ذلك، قام السلطان عبد الحميد الأول بتعيين الجزّار والياً على ولاية صيدا، ومنحه رتبة "باشا".

إحكام القبضة على صيدا... والولاية على دمشق

رغم أنّ صيدا كانت عاصمة ولاية صيدا، إلّا أنّ الجزّار اختار عكا لتكون مقراً جديداً لحكم الولاية، وذلك بعدما كان ظاهر العمر قد أبرز المدينة وأظهر أهمية موقعها ومينائها التجاري، وقام ببناء وتحصين أسوارها. وبعدما استقرّ المنصب للجزّار، اتجه نظره مباشرة للسيطرة على جبل لبنان، والذي كان يسيطر عليه حلف من العشائر الدرزية، وهو ما تمّ له. ومن ثمّ اتجه للسيطرة على جبل عامل (جنوب لبنان اليوم) والذي كان يتمتع بنوع من الحكم الذاتي لحلف من العشائر الشيعية الموجودة فيه، وكان يقودها ناصيف نصّار، أحد أبرز حلفاء ظاهر العمر إبّان ثورته على الدولة العثمانية، وكان الجزّار يخشى منه ومن منازعته له في الحكم والنفوذ على مستوى الولاية، وبعد معارك استمرّت طيلة سنوات، تمكّن أخيراً من هزيمة قوّات نصّار، واستطاع إخضاع معاقل الشيعة التي تحصنوا فيها، وكان آخرها قلعة الشقيف. وأصبح الجزّار بذلك الرجل الأقوى بلا منازع على مستوى ولاية صيدا، وبدأت المنافسات تشتد بينه وبين آل العظم، ولاة دمشق، أقوى منافسيه على مستوى بلاد الشام.

في مواجهة تمرّد المماليك

إلّا أنه سرعان ما برز أمامه تحدٍّ تمثل في ثورة المماليك في ولاية صيدا، بعد تمكنهم من السيطرة على مدينة صور وقيامهم بنهبها عام 1789م، ومن ثمّ توجههم لمحاصرة عكا، حيث يقيم الجزّار. وبوجود أعداد قليلة من القوّات في المدينة، قام الجزّار بتسليح العمّال والبنائين في المدينة، ومن ثمّ قام بشنّ غارة ليليّة مباغتة على معسكر المتمرّدين، فهُزم المماليك إثر ذلك وانسحبوا، وكانت تلك الوقعة بمثابة نهاية المماليك كقوّة عسكريّة في مناطق حكم الجزّار.

خان العمدان في عكّا، افتتحه الجزّار عام 1785م ليكون نزلاً للتجار والمبعوثين الأوروبيين

إلّا أنّ هذا التمرّد كان له آثار بالغة على شخصية الجزّار؛ إذ تعزّزت لديه المخاوف والشكوك وانعدام الثقة في كل من حوله، وبات يشعر على الدوام بأنّ هناك من يدبر المكائد له ويريد أن ينقلب عليه ويتخلص منه،    فأطلق حملة تطهير واسعة النطاق، طالت كلّ من شكّ فيه، فسجن وأعدم العديدين، وكما وصفه المؤرخ المعاصر له، حيدر بن أحمد الشهابيّ: "أصبح الجزّار مثل حيوان جامح، يتخيّل أنّ العالم كله ضده"!

والياً على دمشق من جديد... ومواجهته آل العظم

كان الباب العالي يخشى من تولية الجزّار على دمشق، لما قد يتبع ذلك من تعاظم سلطانه، خصوصاً أنه عندما تولاها لفترة قصيرة بين عامي 1785-1786م قام بالضغط لثبيت موالين له على ولايات صيدا وطرابلس، ما عنى للباب العالي في حينه قيام قوة مهمّة شبه مستقلّة على مستوى كامل سوريا العثمانية، وبالتالي سارع الباب العالي إلى عزله حينها. إلّا أنه في عام 1790م، وفي أعقاب ثورة قام بها الإنكشاريون في دمشق، لم يكن هناك بُدٌ من تعيين حاكم قوي قادر على ضبط الأمور كالجزّار، وهو ما كان.

عام 1772م تمّ تكليف الجزار بأوّل مهمّة عسكرية، وهي تولي الدفاع عن بيروت

لم ينتقل الجزّار إلى دمشق، وفضّل مزاولة شؤون حكم الولاية من مقرّه في عكا. وقاد عن بُعد المعركة مع عائلة آل العظم، منافسيه الرئيسيين على السلطة في دمشق. فتحالف مع أغوات حي الميدان الدمشقي، ضد أغوات الأحياء الشمالية الذين كانوا حلفاء آل العظم. وبتوجيهات منه تمّ إعدام المئات من وجهاء المدينة الذين كان يشكّ بولائهم وارتباطهم بآل العظم. وقد تكرّرت هذه الإعدامات طيلة سنوات حكم الجزّار، حتى وفاته عام 1804م.

في مواجهة نابليون

وفي عام 1798م، وفي ظلّ تنافس بريطاني فرنسي، قرّر نابليون تسيير حملة عسكرية إلى مصر، وبعد تعاون عثماني إنجليزي لصدّ حملته، قرّر نابليون غزو السواحل الفلسطينية، وفي عام 1799م فرض حصاراً على عكا، وحينها رفض الجزّار الاستسلام وتصدّى وحامية المدينة للدفاع عن عاصمة حكمه.

كان لتمرّد المماليك آثار بالغة على شخصية الجزّار؛ إذ تعزّزت لديه المخاوف والشكوك في كل من حوله

وبمساعدة من البحرية البريطانية، التي أمدّت الجزّار بالمدافع ودرّبت الحامية على استخدامها، وبعد حصار دام شهرين، أجبِر نابليون على الانسحاب. واعتبر صمود المدينة ودفاع الجزّار الناجح عنها نصراً مؤزراً تحقق على يديه، ما أكسب الجزّار شهرة واسعة وجعله يحظى بمكانة مرموقة في أروقة الدولة العثمانية، وبدأ شعراء عصره بكتابة القصائد التي تتغنى ببطولته ومجده الذي تحقق بعد انتصاره على الأسطول الفرنسي.

لوحة تصوّر حصار نابليون لعكّا

في السنوات اللاحقة، استمرّ الجزّار في تعزيز حكمه على مستوى كامل سوريا، وأحكم قبضته على أجزاء جديدة من فلسطين، إضافة إلى تعزيز نفوذه على مستوى ولاية دمشق، إلى أن توفيَ عام 1804م، وهو الحاكم في حينه لكلّ من ولايتيْ صيدا ودمشق. وخلافاً لظاهر العمر، أو فخر الدين المعنيّ من قبل، لم يختر الجزّار طريق التصادم والثورة على الحكم العثماني، وإنما استمرّ في أداء دور المهادنة والعمل من داخل أروقة الدولة، ولم يكن ليصل إلى ما وصل إليه من قدر إلّا بتوظيف حيلته، وبطشه، فاستطاع بذلك إخضاع الأغوات والأمراء والشيوخ في عموم بلاد الشام.

بتوجيهات من الجزّار، تمّ إعدام المئات من وجهاء دمشق الذين كان يشكّ بارتباطهم بآل العظم

في الذاكرة والأدب الفلسطيني المعاصر لم يتمّ الاحتفاء به، كما تمّ الاحتفاء والاحتضان لظاهر العمر، ربما يعود جانب من أسباب ذلك إلى كون الأخير عربياً مولوداً في الجليل، بينما كان الجزّار بوسنياً، بدأ حكمه كمنفذ لحملات ومهامّ عسكرية عثمانية. لكنّ جانباً آخر من الأسباب أيضاً يعود لما اقترن بالجزّار من سمعة البطش والجبروت، وظلّت صورة بطولته مقترنة بواقعة محددة، وهي دفاعه عن عكا في مواجهة حصار نابليون.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية