أي مستقبل لتجربة المسرح الصحراوي عند العرب؟

أي مستقبل لتجربة المسرح الصحراوي عند العرب؟


27/02/2020

يطرح 4 أكاديميين عرب عدة أسئلة تخصّ تجربة المسرح الصحراوي، بعد أن ظلّ المسرح العربي لقرون مقترناً بالساحات والشوارع والقاعات المغلقة، وبروز نماذج ما تزال تحاول ربط المسرح بالصحراء، واستثمار أدب البوادي لتوسيع علاقة أبي الفنون بالمتلقّين.

يلتقي المسرحيون عند حتمية استثمار الفرجات الشعبية العديدة التي يمكنها لعب دور الرابط بين المسرح والأدب


ومن موريتانيا إلى الإمارات، يجتهد صنّاع المسرح في استلهام المنجز الأدبي الصحراوي؛ كالروايات والأمثال والأساطير، وسواها من الأنماط الفنية، التي أبدعها الإنسان الصحراوي؛ في بناء وتشكيل مضامين وأشكال وفضاءات عروضهم المسرحية، فإلى أيّ مدى يمكن لذلك أن يطبع تجاربهم، ويميزها بهويَّة جماليَّة مغايرة، أو كيف ينسجم (أو يختلف) ذلك مع ما ترسَّخ من قواعد وتقاليد إنشاء ومشاهدة العروض المسرحيَّة؟

يرى الباحث المغربي، الدكتور عبد الرحمن بن إبراهيم؛ أنّ الحديث عن "مسرح صحراوي" يقتضي ضبط المصطلح، مشيراً إلى أنّ "المسرح الصحراوي" يقترن بدلالة المكان، تبعاً لكونه فضاءً مفتوحاً بحكم مجاله المُشْرَع، ودلالة الحمولة الثقافية بامتداداتها الموغلة في الزمان.

"المسرح الصحراوي" يقترن بدلالة المكان

ويتصور بن إبراهيم؛ أنّ توصيف "الصحراوي" يستدعي، معرفيّاً، النبش في الخلفية المؤطرة لخصوصية ممارسة مسرحية على مستويات: النصّ الدرامي- المسرحي، والإخراج المسرحي، والأداء الرُّكْحي، التلقي الجمالي، ويقتضي – منهجيّاً – رسم معالم أفقه الفني من خلال التماس أجوبة لأسئلة التأسيس لفعل مسرحي حداثي بحكم جدّته من حيث الفكرة، وتميزه في هندسة الشكل، وتفرده في توظيف الفضاء.

اقرأ أيضاً: بين المسرح والشاشة: حوار مع المخرج الإيراني أصغر فرهادي

ويسجّل بن إبراهيم أنّ المسرح الصحراوي يتعلق بممارسة حكائية- أدائية، أعلنت نفسها باعتبارها نشاطاً ثقافياً اتخذ من فضاء الصحراء مجالاً، وباعتبارها شكلاً جمالياً قائم الذات، يستمدّ مقوماته من رصيد مسامرات الليالي العربية العريقة في التراث الشعبي الشفاهي العربي الأصيل، ومن الموروث الثقافي المتمثل في أشعار وتقاليد واحتفاليات وجماليات البادية العربية الراسخة في المكان مادة وموضوعاً.

ويحيل المسرح الصحراوي على رصيد هائل من الحكي الذي تراكم على مدى سنين وعقود وقرون، مجاله المسامرات، ووقوده الخيال الشعبي اللامتناهي، الذي يمتلك قوة تخييل ذاتية، تتوقف عند نقطة مشوّقة، من أجل حبك خيوط حكاية جديدة، ولم يكن مخزون شهرزاد من الحكايات هو الذي نفِذَ في الليلة الثانية بعد الألف، ولا شكّ أنّ شهرزاد كانت قادرة على إنتاج مزيد من الكلام المباح.

اقرأ أيضاً: الشارقة تواصل احتفاءها بالمسرح العربي للعام التاسع والعشرين

ويشير صاحب البحث الشائق: "أيمكن للمسرح أن يكون صحراوياً؟" إلا أنّ التوظيف الفني للرصيد الثقافي العربي من المأثورات الشعبية المتوارثة، من شأنه أن يمارس دوره في الإشعاع المعرفي والتنوير الجمالي، على غرار ما فعل المسرحي المشهور، الطيب الصديقي، باستثماره المقامات درامياً، والإمتاع والمؤانسة وألف حكاية وحكاية من ألف عكاظ، وأبي العلاء المعري عربياً، وسيدي قدور العلمي، وسيدي عبد الرحمن المجذوب، والحرّاز مغربيّاً.
سؤال الهوية 
يطرح بن إبراهيم سؤال الهويّة في المسرح العربي المعاصر؛ ففي الوقت الذي يجوز فيه الحديث عن هوية المسرح الإنجليزي، باعتباره "مسرح الممثل"، والمسرح الفرنسي باعتباره "مسرح النص"، والمسرح الألماني باعتباره "مسرح المخرج"، فأيّ نعت أو صفة يجوز أو تجوز في حقّ المسرح العربي؟

اقرأ أيضاً: المسرح بوصفه هادماً للشرور ومفككاً للنفس الإنسانية

ويلاحظ بن إبراهيم أنّ تجربة "المسرح الصحراوي" أجابت عن سؤال الهوية، عبر تبنّيها شكلاً مسرحياً يتجاوز "نموذج" الشكل المسرحي الغربي، إلى شكل مسرحي عربي أصيل، يستمدّ مقوماته من مثاقفة محلية عمودية داخل الثقافة واللغة الواحدة، ويستوحي مادته من الموروث الحكائي والأدائي العربي الأصيل، واستلهامها مسرحياً لتستقيم عرضاً فرجوياً يتم إسقاطه على الواقع الراهن.    
وفي منظور بن إبراهيم؛ فإنّ تجربة المسرح الصحراوي تدخل في إطار الفورة الثقافية العامة التي ترنو إلى ترسيخ ثقافة المشاهدة، وابتداع صيغة جمالية للمتعة البصرية، محدّداً خصوصية الهوية الثقافية للمسرح الصحراوي على مستوى المسامرات، وما تستوعبه من حكايات وأمثال وأساطير وروايات وأشعار وبطولات وأيام، ومستوى ثان يخصّ الفنون الأدائية، من غناء وتعبير جسدي ورقصات طقوسية.

"المسرح الصحراوي" أجابت عن سؤال الهوية، عبر تبنّيها شكلاً مسرحياً يتجاوز "نموذج" الشكل المسرحي الغربي
ويضيف الأكاديمي المغربي: "الصحراء ليست عالماً ساكناً، ولا هو ثابت؛ لأنّ منطق الوجود هو الحركة والتفاعل والتغيير، لذلك كان السعي إلى الجديد، والتَّوْقُ إلى التجديد هاجس الإنسان في تفاعله مع الزمان والمكان، وعندما يكتب الفنان الصحراوي عن المكان فهو لا يحاكي الثابت، وإنما يعيد خلقه وإعادة صياغته في قالب جديد، وحين يكتب نصّه المسرحي، ويبني معمار عرضه المشهدي؛ فإنّه يبدع عالماً تخيلياً محتملاً يحاكي من خلاله التغيير، ويتجاوز ما هو مخلوق إلى عالم الخلق". 
وينوّه بن إبراهيم إلى أنّ المسرح الصحراوي يكرّس بعداً ثقافياً عميقاً عبر حمايته للتراث الشعبي من الاندثار، وبعثه معرفياً من خلال تجميعه وتوثقيه وتحقيقه ودراسته على المستوى الأكاديمي، وإحيائه إبداعياً، وصياغته عرضاً مشهدياً جمالياً في إطار شكل مسرحي محلي، وبلغة مسرحية بصرية بليغة التعبير.
وبناءً على بحث حديث، يخلص بن إبراهيم إلى أنّ المسرح الصحراوي، مسرح تجريبي يتمتع بمبررات الوقائع الاجتماعية وبشرعية الظروف التاريخية، اعتباراً لامتلاكه نسقاً متكاملاً ووثيقاً بمحيطه وبمتغيرات الفضاء الصحراوي وبمتغيرات الزمان، ونسقاً فنياً إبداعياً تخيلياً مرتبطاً بالتقنيات المحلية الأصيلة الموظفة في بناء العرض، ومهمة الناقد في هذا الصدد بناء منظومة نقدية متكاملة على أساس أنّ الفعل الإبداعي لا يتحقق اكتماله إلا بفعل نقدي واعٍ موازٍ، قادرٍ على تفكيك الأنساق التركيبية والدلالية للفعل المسرحي نصّاً وعرضاً وتلقياً.
أدوار واستلهام يتجاوز الفردانية
يلفت الأكاديمي الجزائري، د حميد علاوي، إلى حاجة العرب إلى "المسرح المستلهم لأدب الصحراء"، في "ممارسة ينبغي أن تحوّل القراء، وهم (أصحاب أمزجة خاصة فردانيين) إلى متلقين جماعيين، مثل ظاهرة كرة القدم، والحلّ في الثقافة والفرجات الشعبية".

اقرأ أيضاً: فرقة بانوراما البرشا لمسرح الشارع: العلاج النفسي بالدراما

ويُبرز عميد كلية الآداب والفنون في جامعة الجزائر، حالة الصحراء الجزائرية، وما تكتنزه مواسمها وأسواقها من وقفات فنية، يختلط فيها الشعر بالغناء، وتعانق النكتة الجدل والحذلقة في القول، وتعلو لحظات الأداء الرفيع، فيتحول المداح الشعبي إلى ممثل متأهب أو يقوم بذلك مقلّد (ممثل) عجيب ينظر إلى الناس في لمح البصر، فيستقرئ عيونهم وقلوبهم وأفكارهم.

هذا الاستقطاب الأدائي استوقف المخرج البريطاني، بيتر بروك (94 عاماً)، حين زار بادية ورقلة الجزائرية، التي تختزل زخم احتفاليات الصحراء، العميق الساكن المتنوّع الفارغ، لكنّه فراغ موحٍ بليغ مؤثّث بمساحات من التعبير الطبيعي المكثف بالدلالات، والديكور المؤثث برموز طبيعية دالة تتضوع بعبق الحياة وعمق الوجود الإنساني.

اقرأ أيضاً: مسرحيات "الساحرة والحكيم" تواجه التطرف بالاعتدال، والجهل بالعلم

ويحيل علاوي إلى أنّ الرمل والنخل والخيام والمرابع والنجوم المضيئة والقمر المنير كلّها مكونات لمشهدية المسرح الصحراوي، وهي تفرض تحويلاً درامياً وسينوغرافياً وإخراجياً، حتى يتمّ إرساء التقاليد المسرحية الصحراوية والتعامل بالإيجابية المطلوبة مع المكان والفضاء الصحراوي.

 تعامل الكثيرين مع الفضاء الصحراوي بتجزيء وتقطيع وتراتبية ملغومة

وطرح بروك تجربة الينابيع التي استخرجها من رحلته إلى الصحراء الأفريقية والأدغال الأسترالية، والتي بلورها عبر ما سماه المسرح الأنثروبولوجي القائم في ماهيته على الفضاء المفتوح الذي لا تحدّه قيود ولا حدود، وتتلاقى فيه الثقافات عبر طاقة درامية وأخرى سينوغرافية، يزيدها بهاءً اللباس الفضاض الذي يرتديه الإنسان الصحراوي وعصاه وخيمته متعددة الدلالات والاستخدامات.

المديوني: الصحراء ليست مثاراً للتنفير والترهيب؛ بل هي دعوة للنظر في الإنسان وفحص ما هو جوهري

من جانبه، يقدّر الأكاديمي والكاتب والمخرج التونسي، د. محمد المديوني، أنّ منظومة الصحراء بتخييلاتها، تستوجب أن تصاغ أدباً وفنّاً، داعياً إلى تأصيل المسرح الصحراوي بكلّ تجلياته مع اشتراط تحقيق العمق المفقود والانغراس في الناس والعصر.

ويسجّل المديوني أنّ المقاربة القائمة على توظيف التراث؛ تطرح أكثر من إشكال، بينها ثنائية التحوّل والحركة، لذا لا بدّ من الغوص في تجارب جديدة وحميمة، واقتداء مسرحيي الصحراء بتجارب الأدباء ونقلها بصدق، موقناً أنّ الصحراء ليست مثاراً للتنفير والترهيب؛ بل هي دعوة للنظر في الإنسان وفحص ما هو جوهري. 

لا للتجزيء والتراتبية الملغومة
ينتقد الباحث المغربي، د. حسن البحراوي، المتخصص في الثقافة الشعبية، تعامل الكثيرين مع الفضاء الصحراوي بتجزيء وتقطيع وتراتبية ملغومة، وتركيزهم على الأجساد والوجوه، بينما الثقافة الشعبية تتعاطى الشمولية.
ويضيف البحراوي؛ أنّ التحويل إلى نقطة فيزيقية لا يحتاج إلى وسيط وتأويل بما يمنح المسرح الصحراوي نكهته وروحه، مرافعاً لإضفاء المعنى على المبنى وتفكيك الحدود والتخوم؛ والانقلاب المتواصل على الأوضاع والقيم، بما يبعد المسرح الصحراوي عن النمطية، خصوصاً أنّ الصحراء دينامية ألهمت الأدباء والفنانين والرواة والرسامين، ما يفسّر الفرجات المستمرة التي أنجزتها.

انتهاءً؛ يلتقي المسرحيون عند حتمية استثمار الفرجات الشعبية العديدة التي يمكنها لعب دور الرابط بين المسرح والأدب، على نحو يستجيب لتطلعات مؤسسي المسرح العربي الذين كانوا يحلمون بالفضاء المفتوح المشهدي الذي يتطور اليوم، وإقرار بيتر بروك بأنّ "الغربي استنفذ حلوله وجاء يبحث عن الحلّ عند العربي".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية