استياء دمشق من زيارة وفد الخارجية الفرنسية لشمال سوريا... أوهام الحل وفرص انتهاء الأزمة الضائعة

استياء دمشق من زيارة وفد الخارجية الفرنسية لشمال سوريا... أوهام الحل وفرص انتهاء الأزمة الضائعة

استياء دمشق من زيارة وفد الخارجية الفرنسية لشمال سوريا... أوهام الحل وفرص انتهاء الأزمة الضائعة


24/07/2023

بينما تحاول الحكومة في دمشق استعادة كامل شرعيتها، والقفز على العديد من الاعتبارات القائمة، سياسياً وميدانياً، بل عمدت، بشكل غير مباشر، إلى تفجير جميع مسارات ودعوات ومبادرات الحوار لحل الأزمة السورية مع الأطراف الأخرى، بما في ذلك "الإدارة الذاتية" لشمال وشرق سوريا، فإنّها تعلن عن امتعاضها لمجرد وجود طرف دولي يسعى لتقديم منفذ أو طرف خيط واقعي لتسوية الأزمة في البلاد، الممتدة لنحو عقد من الزمان، بما يتوافق مع القرارات الأممية، ومنها القرار رقم (2254)، بشأن التوصل إلى تسوية سياسية كاملة للوضع في سوريا.

وقد فجّرت زيارة وفد من وزارة الخارجية الفرنسية لمناطق "الإدارة الذاتية" في شمال وشرق سوريا غضب دمشق بشدّة، وشنت هجوماً عنيفاً عبر بيان رسمي على فرنسا، واصفة تلك الزيارة بأنّها انتهاك صارخ للقوانين والأعراف الدولية، وأنّ فرنسا تدعم المنظمات الانفصالية والانعزالية، في إشارة إلى "الإدارة الذاتية"، على الرغم من نفي الأخيرة مراراً وتكراراً هذا الاتهام، وتأكيدها على عدم تبنيها أيّ مشاريع انفصالية، ووقوفها مع مبدأ وحدة الجغرافيا السياسية للبلاد، وتمثيل كافة المواطنين سياسياً واجتماعياً؛ من خلال هيئات منتخبة وديمقراطية وعلى أسس مدنية ودستورية، بل قدمت العديد من الدعوات والمبادرات للحوار مع دمشق، بحيث تحفظ وتضمن حقوق مكونات المنطقة ككل.

دلالات غضب دمشق

مطلع تموز (يوليو) الجاري زار وفد فرنسي برئاسة ستيفان روماتيه، رئيس مركز الأزمات والطوارئ في وزارة الخارجية، شمال وشرق سوريا، والتقى قيادات كُردية. وكان من بين الوفد الكاتب الفرنسي والخبير في الشؤون الكُردية والدولية باتريس فرانشيسكي، والكاتب الفرنسي فرانسوا هنري دوزارابل.

وكانت الزيارة تتعلق بشكل رئيسي بملف إعادة حاملي الجنسية الفرنسية من عائلات مقاتلي تنظيم (داعش) الإرهابي، الذين تم أسرهم أو قتلهم، علماً أنّ فرنسا أعادت نحو (169) طفلاً و(57) امرأة من بين هؤلاء منذ العام 2019. كما ناقش الوفد آلية دعم المجتمعات المحلية في شمال شرقي سوريا، والظروف الأمنية في المخيمات التي تضم الآلاف من عائلات (داعش) من مختلف الجنسيات، الأمر الذي شكّل عبئاً ثقيلاً تتحمله الإدارات المحلية.

وذكر بيان لـ "لإدارة الذاتية" أنّ "الوفد أكد دعمه للإدارة الذاتية في مشروعها الديمقراطي الذي يهدف إلى التعايش المشترك بين جميع المكونات"، إضافة إلى مواصلة الدعم في سبيل مواجهة الإرهاب لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة.

كانت الزيارة تتعلق بشكل رئيسي بملف إعادة حاملي الجنسية الفرنسية من عائلات مقاتلي تنظيم (داعش) الإرهابي

وتباحث الوفد الفرنسي مع الرئاسة المشتركة للمجلس التنفيذي الصعوبات والتحديات التي تواجه "الإدارة الذاتية" في المنطقة بشكل عام، إضافة إلى المبادرة التي أطلقتها "الإدارة الذاتية" مؤخراً لحل الأزمة السورية، والأصداء الإيجابية التي حققتها، وفق البيان.

إلّا أنّ هذا الأمر لم يرُق للحكومة السورية، إذ أدانت هذه الزيارة قبل نحو أسبوع، واعتبرت دخول وفد من الخارجية الفرنسية أمراً غير مشروع. وذكرت الوكالة السورية الرسمية للأنباء (سانا)، نقلاً عن مصدر في وزارة الخارجية السورية، لم تكشف عن هويته، أنّ هذه الخطوة تعتبر "انتهاكاً للأعراف والقوانين الدولية".

المصدر الرسمي في وزارة الخارجية نفسه زعم أنّ لقاء الوفد الفرنسي لـ "التنظيمات الانفصالية الانعزالية"، حسب وصفه، إنّما "يشكّل انتهاكاً سافراً لسيادة ووحدة الأراضي السورية، ويظهر مجدداً الدور التخريبي والعداء الفرنسي المستحكم لسوريا، وشراكة فرنسا الكاملة في العدوان على سوريا؛ من خلال دعمها للمجموعات الإرهابية والميليشيات الانفصالية، بحسب بيان وزارة الخارجية السورية.

تباحث الوفد الفرنسي مع الرئاسة المشتركة للمجلس التنفيذي الصعوبات والتحديات التي تواجه "الإدارة الذاتية" في المنطقة بشكل عام، إضافة إلى المبادرة التي أطلقتها "الإدارة الذاتية" مؤخراً

المصدر أشار إلى أنّ سوريا "تذكّر الحكومة الفرنسية بأنّ مكافحة الإرهاب تكون بالتعاون مع الدولة السورية التي واجهت هذا الإرهاب، وليس بالتعاون مع التنظيمات الانفصالية التي شكلت غطاءً للحكومة الفرنسية، ويجمعها معها هدف واحد؛ هو العداء لسوريا وشعبها، وانتهاك سيادتها والمسّ بوحدة أراضيها"، وطالبت دمشق المجتمع الدولي بإدانة سلوكيات الحكومة الفرنسية ووصفتها بـ "الرعناء".

ولا تُعدّ زيارة الوفد الفرنسي التابع للخارجية الفرنسية لشمال وشرق سوريا حدثاً استثنائياً، سواء على مستوى فرنسا أو أوروبا، وتحديداً في هذه المنطقة الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية وأهميتها الجيواسترتيجية، فثمّة زيارات عديدة أخرى تمّت من قبل مسؤولين دبلوماسيين فرنسيين وألمان وبريطانيين وأمريكان، كما أنّ لدى فرنسا عدة شركاء ومؤسسات في مناطق "الإدارة الذاتية"، والعلاقات لم تنقطع على مرّ  الأعوام الماضية.

النظام السوري اعتبر دخول الوفد الفرنسي إلى شمال وشرق سوريا بأنّه انتهاك لما يسمّيه سيادة ووحدة الأراضي السورية، في "محاولة فاشلة وجديدة من قبل نظام قتل وشرد شعبه، بزعم حماية وحدة الأراضي السورية، في حين أنّ مؤسسات وأركان نظام "الأسد" نفسه تقوم ببيع الممتلكات وتسليمها للميليشيات الإيرانية والروسية على الأراضي السورية"، حسبما يقول الكاتب الكُردي السوري المقيم في فرنسا شيار خليل.

دمشق تحاول تعويم نفسها فقط

ووفق تقدير خليل لـ (حفريات)، فإنّ النظام السوري خلال الفترة الماضية، وبعد محاولات تعويمه نوعاً ما، يسعى لجلب الاعتراف الدولي مجدداً به، محاولاً فرض سيطرته ولو سياسياً ودبلوماسياً على كامل الأراضي السورية الخارجة عن سلطته، وذلك بالتزامن مع محاولات أخرى يقودها الإعلام البعثي بوصف دائم لـ "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) بأنّها قوات إرهابية وانفصالية.

فضلاً عن أنّ النظام السوري يعتقد أنّ (قسد) تسعى لاقتطاع جزء من الأراضي السورية بمساعدة القوات الأمريكية، في حين أنّ الحقيقة غير ذلك تماماً، وفق تحليل خليل. الذي يضيف: "المحاولات الأمريكية والأوروبية جادة في خلق قاعدة عسكرية سورية موحدة من كل أهالي المنطقة بمكوناتها المختلفة، لجهة إدارة المناطق الجغرافية الواقعة تحت سيطرتهم بالتشارك، وهو ما يحاول النظام السوري والأتراك عرقلته وشلّ كل نتائجه".

تأتي هذه الزيارة بالتزامن مع زيارة وزير الدفاع الفرنسي للمنطقة في إقليم كُردستان العراق، ومن ثمّ، تسعى المؤسسات الفرنسية الحكومية لتفعيل ملف شمال وشرق سوريا مجدداً؛ بدعم خطوات القوات المحلية تجاه محاربة الإرهاب، وخلق فرص تنمية للمؤسسات المحلية العاملة في الشأن التنموي والزراعي والاجتماعي، على حدّ قول الكاتب الكردي السوري شيار خليل.

شيار خليل: النظام السوري يعتقد أنّ (قسد) تسعى لاقتطاع جزء من الأراضي السورية بمساعدة القوات الأمريكية

الزيارة الفرنسية ليست الوحيدة التي أغضبت حكومة دمشق، ففي مطلع آذار (مارس) الماضي تكرر الأمر ذاته مع زيارة رئيس "هيئة الأركان الأمريكية المشتركة" الجنرال مارك ميلي، لأوّل مرة، لشمال وشرق سوريا، وذلك لتفقد قوات بلاده في المنطقة، ليكون ميلي الرتبة العسكرية الأعلى التي تزور سوريا منذ انتشار القوات الأمريكية فيها.

وآنذاك أثارت زيارة ميلي غضب دمشق، التي أدانتها عبر بيان رسمي من وزارة خارجيتها، ووصفت الزيارة بـ "غير الشرعية". ونقلت (سانا) عن مصدر رسمي في وزارة الخارجية قوله: إنّ "سوريا تدين بشدة الزيارة غير الشرعية لرئيس هيئة الأركان الأمريكي، إلى قاعدة عسكرية أمريكية غير شرعية في شمال وشرق سوريا، وتؤكد أنّها تمثل انتهاكاً صارخاً لسيادة وحرمة أراضيها ووحدتها".

المصدر ذاته أردف أنّ سوريا "تطالب الإدارة الأمريكية بالتوقف فوراً عن انتهاكاتها الممنهجة والمستمرة للقانون الدولي، ووقف دعمها لميليشيات مسلحة انفصالية، وأنّ سوريا تتوجه إلى الدول التي تنشد الأمن والاستقرار في منطقتنا والعالم لإدانة هذه الانتهاكات الأمريكية ووقفها".

فرنسا تدعم الحقوق والحريات

من جانب آخر، لا يخفى على أحد أنّ فرنسا من أولى الدول الداعمة للقرارات الخاصّة بالإفراج عن المعتقلين في سوريا، كما أنّها تلاحق قضائياً عناصر سورية، وقيادات رسمية بالحكومة متورطة في "جرائم حرب"، وهم رهن التحقيق والمسار القضائي في فرنسا. وتُعدّ باريس من بين الدول الداعمة لإيجاد حل ديمقراطي شامل وفق القرار الأممي (2254)، وبمشاركة كل القوى السورية الوطنية، وهو ما دعا إليه عدة مرات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بجانب القرارات والتصريحات الرسمية التي خرجت من مندوب فرنسا في الأمم المتحدة، أو مجلس الأمن الدولي، أو المحافل الدولية بشكل عام، بحسب خليل.

شيار خليل: فرنسا عملت منذ الأعوام الأولى على دعم الحراك السوري ضدّ النظام السوري، ودخلت الأراضي السورية كداعم عسكري وسياسي وتنموي

أواخر آذار (مارس) الماضي، أكد نائب رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي بيير لورانت ضرورة تطوير العلاقة بين بلاده و"الإدارة الذاتية" في شمال وشرق سوريا، من أجل مواجهة الإرهاب وإيجاد حل ديمقراطي للأزمة السورية، وذلك على إثر زيارة لوفد من "الإدارة الذاتية" إلى مجلس الشيوخ الفرنسي في مبنى المجلس بالعاصمة الفرنسية باريس آنذاك.

اللافت أنّه في 30 تمّوز (يوليو) الماضي وقّع (102) من النواب الفرنسيين على مذكرة أدانوا بها خطط الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتنفيذ هجوم عسكري على مناطق شمال وشرق سوريا، وفق مقال منشور بصحيفة (لو جورنال دو ديمانش) الفرنسية.

ودعا نواب مجلسي النواب والشيوخ الفرنسي في المذكرة الحكومة الفرنسية إلى منع تنفيذ أيّ عملية عسكرية تركية على شمال وشرق سوريا، وذلك عن طريق نقل هذا الملف إلى مجلس الأمن الدولي، من أجل اتخاذ قرار من قبل المجلس بإنشاء منطقة حظر الطيران على المنطقة، وحماية أبناء المنطقة وفقاً للقانون الدولي، فضلاً عن الاعتراف بـ "الإدارة الذاتية" لشمال وشرق سوريا.

فرنسا من الدول القليلة التي أصدرت أمراً بمحاكمة المسؤولين في حكومة دمشق، أمام محكمة الجنايات، بتهمة قتل مواطنين سوريين يحملان الجنسية الفرنسية تحت التعذيب، هما مازن دباغ ونجله باتريك، كانا قد اعتقلا في دمشق العام 2013.

فرنسا من الدول القليلة التي أصدرت أمراً بمحاكمة المسؤولين في حكومة دمشق

هذا القرار الصادر في 29 آذار (مارس) الماضي، ولأول مرة في فرنسا، يمهد لمحاكمة مسؤولين كبار في النظام السوري، هم: مدير مكتب "الأمن الوطني" علي مملوك، والرئيس السابق للمخابرات الجوية السورية جميل حسن، بالإضافة إلى المسؤول عن فرع التحقيق في المخابرات الجوية بمطار (المزة) العسكري بدمشق، عبد السلام محمود.

بالعودة إلى شيار خليل، يرى أنّ فرنسا عملت منذ الأعوام الأولى على دعم الحراك السوري ضدّ نظام دمشق، ودخلت الأراضي السورية كداعم عسكري وسياسي وتنموي، وهي على تواصل مباشر مع كل المنصات السياسية والعسكرية السورية على كامل الأراضي السورية، ولم تتراجع يوماً عن قراراتها السياسية حول سوريا، كما أنّ وزارة العدل الفرنسية والمؤسسات الحقوقية الفرنسية عملت خلال الأعوام الماضية على تفعيل ملف التقاضي تجاه مجرمي الحرب السوريين الفارين من العدالة، وفتحت محاكم عديدة وملفات مختلفة حول تلك الجرائم، التي يقوم به النظام السوري والمعارضة المسلحة والعسكرية بحق السوريين، ويضاف لذلك جهودها الحالية اليوم في شمال وشرق سوريا، التي تصب في السياسات القديمة نفسها.

التغاضي عن مشاركة أيّ طرف من الأطراف السورية في المبادرات والمباحثات التي تناقش على طاولة السياسة، سيجعل الأزمة الممتدة لنحو (12) عاماً لا تراوح حيز النقاش

يبدو جلياً أنّ التحركات الأجنبية، بما فيها الفرنسية نحو مناطق "الإدارة الذاتية"، كلها مجمعة، تقول: إنّه لن يكون هناك حل سياسي شامل في سوريا إلّا بمشاركة كافة الأطراف السورية، خاصّة أنّ المبادرة العربية تجاه النظام السوري وإعادة مقعد سوريا لجامعة الدول العربية، لم تحقق حتى الآن أيّ نتائج ملموسة. بالتالي، فإنّ كل المبادرات والأطر السياسية تحتاج إلى توافق من القوى السورية، وبرعاية وضمانات دولية.

ويمكن القول: إنّ "الإدارة الذاتية" لشمال وشرق سوريا كانت مستثناة من المشاركة في المسارات السورية، مثل مسار جنيف، ومساري أستانا وسوتشي لحل الأزمة السورية، وذلك بضغط من عدة أطراف، أبزها الحكومة التركية، الأمر الذي ثبت إخفاقه. ومن ثمّ، فإنّ التغاضي عن مشاركة أيّ طرف من الأطراف السورية في المبادرات والمباحثات التي تناقش على طاولة السياسة، سيجعل الأزمة الممتدة لنحو (12) عاماً لا تراوح حيز النقاش، تاركين سوريا معلقة بين أوهام الحلّ وفرص انتهاء الأزمة الضائعة.

مواضيع ذات صلة:

سياقات زيارة وزير الخارجية الأردني إلى دمشق

زيارة الرئيس الإيراني إلى دمشق بين البحث عن الدور وقبض الثمن

"دبلوماسية الزلازل" تكسر الجمود في علاقات القاهرة بدمشق



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية