الأطفال الخارقون يحكمون العالم

 الأطفال الخارقون يحكمون العالم

الأطفال الخارقون يحكمون العالم


كاتب ومترجم جزائري
14/09/2022

ترجمة: مدني قصري

أطفال مبكّرو النضج، وتوحّد، ونشاط مفرط، وحساسية زائدة، يبدو أنّ الأجيال الجديدة سترى ظهور المزيد والمزيد من الشخصيات غير النمطية؛ هل هذا هو الحال حقاً؟ ما هي أعراض هذه الشخصيات؟ هل أطفالنا يعيشون طفرة حقيقية؟

في قسم الطب النفسي للأطفال، للدكتور لومبارد، وصل ذات يوم من الأيام صبيّ جيّد في المدرسة، لكنّه لا يهتم بأيّ شيء على الإطلاق، هذا الدكتور الذي تلقّى تكوينه في التحليل النفسي اليونجي (نسبة إلى عالم النفس كارل غوستاف يونج)، قدّم لهذا الطفل نحو عشرين سؤالاً وُجودياً.

"جئنا كي نحب"

لماذا أتينا إلى الأرض؟ وما هو معنى الحياة؟ هكذا سأل الدكتور هذا الطفلَ، في البداية بدا الطفل مضطرباً، لكن الدكتور شجّعه قائلاً: "أغمض عينيك، واذهب إلى قاع ذاتك، خذ وقتك، أنت تعرف الإجابة. بعد بضع دقائق، وعيناه مليئتان بالدموع، أجاب الطفل: "أتينا كي نحب". فاسترسل الدكتور لومبارد: "متى تشعر أنّك أسعد إنسان؟" فقال: عندما ألعب كرة السلة، إنّه دليلٌ على الحاجة إلى التشارك"، قال الطبيب الذي أضاف: "إذا دعتك إحدى صديقات أمّك إلى قضاء شهرين في إيطاليا، فهل ستذهب؟ "نعم"، "الآن فوراً"، صاح الطفل.

أطفال يبحثون عن الانسجام

هذا الطفل لا يهتم على الإطلاق بأيّ شيء! اهتماماته، ببساطة، أعلى ممّا تغذّيه به بيئته اليومية.

مفتاح التعامل مع هؤلاء الأطفال هو ألا نحثّ فيهم أيّ شيء وأن نكتفي بالاستماع والتلقّي حتى يشعروا بأنهم مفهومون

بالنسبة إلى الطبيب النفسي، لقد ظلّ هذا الطفل "متصلاً بالذات"؛ أي بنفسيّة كينونته الكاملة، ويقول الطبيب: "في هذا النوع من الشخصية، يكون طعم الاكتشاف أقوى من الحاجة إلى الأمان، هؤلاء الأطفال يبحثون عن الانسجام والمعلومات والوعي".

زيارة غير عادية

عرضَ عليه الدكتور لومبارد زيارة وحدته، قائلاً له: "عيادتي النفسية ترحّب بالشباب في سنّك، ما بين 6 و12 عاماً، البعض يسألون أنفسهم الكثير من الأسئلة، فهم هنا للتفكير والراحة". قبِل الصبيّ الدعوة بحماس، "لم يكن عليه الذهاب إلى العيادة كمريض، لكن كمُعالج!"، قال الدكتور لومبارد مبتسماً. لا بدّ من أن نَحذر العناوين، يكفي أحياناً أن نعيد بناء الصلة، فعندما أشرح لأولئك الأطفال أنّنا ننتمي إلى وعي أعلى، يتوقف عندهم الشعور بأنهم متطفّلون.

شكل من أشكال المسامية

يؤكد هذا الطبيب النفسي، المختص بالأطفال، أنّه ما انفكّ يكتشف، أكثر فأكثر، هذا النمط من الأطفال؛ فهم مفرطو الحساسية، مزوَّدون برؤية شاملة للحالات والأوضاع، وغالباً ما يواجهون صعوبة في فهم العالم الذي وقعوا فيه، ويمكنهم أن يشعروا بسرعة كبيرة بأنهم خارجون عن الخط.

يقول هذا الطبيب: "على مدى عشرة أعوام، أرى هؤلاء الأطفال في كلّ مكان، أكثر فأكثر! فمن بين ستّمئة طفل اشتغلتُ عليهم في نهاية مِهنتي الطويلة في المستشفى، كان هناك ما لا يقلّ عن ستّين منهم من فئة هؤلاء الأطفال، بينما لم يكونوا إلّا ندرةً قبل أربعين عاماً".

كيف نفسر أنهم أكثر وضوحاً للعيان؟

بحكم تعطّشهم للانسجام والتناغم، بإمكانهم عند مواجهة واقع اجتماعي عنيف، غير متسامح وفرداني؛ أن يصبحوا عصبيّين وعدوانيّين وانطوائيين أو مكتئبين، والمثير للدهشة أنهم يتمتعون بنضج لافت، فضلاً عن أنّ مهاراتهم المعرفية جدّ مربكة، ومثيرة للدهشة والفضول، فضلاً عن حِسّهم الحادّ بالواقع، وبالعدالة والانسجام؛ فهم حدسيّون بديهيّون، وسريعو الاستجابة، مما يجعلهم يجيبون عن أسئلة حتى قبل طرحها، ويحلون المشكلات بسهولة، دون وضع كلمات على تفكيرهم؛ فهم سارحون، لكنهم يقبلون على تعلّم الأشياء الجديدة بِنهمٍ، وفي الغالب يشعرون بالملل والسأم في المدرسة، ويواجهون مُعلّميهم بقدر ما يواجهون آباءهم. من هم هؤلاء الأطفال؟ وكيف نفسّر أنهم، أكثر فأكثر، وضوحاً للعيان؟

ذكاء لا نمطي يعتمد على الدماغ الأيمن

بالنسبة إلى الطبيبة النفسية، جان سيود فاكشين، المتخصّصة في الأطفال فائقي المواهب، فإنّ كلّ شيء يأتي من اكتشاف شكلٍ جديد غير عاديّ من الذكاء، منذ خمسة عشر عاماً، وهو ذكاء أكثر تركيزاً على مهارات "الدماغ الأيمن" من تركيز "الدماغ الأيسر". تقول هذه الأخصائية: "تظهر مساهمات علم الأعصاب أنّ بنية ووظيفة أدمغة هؤلاء الأطفال مختلفة"، وقد اتضح وتأكد أنّ كثافة الروابط العصبية لديهم أهم بكثير، سواء في القشرة المُخية قبل الجبهية، وهي أكثر المجالات ذكاءً، أو على مستوى الفصّ الجداري، أي لوحة إعادة توزيع المعلومات في الدماغ؛ "لذا، على الصعيد الفكري، نجد هؤلاء الأطفال يتمتعون بسرعة هائلة في التحليل والفهم والعلاج والحفظ في الذاكرة".

يسمعون كلّ شيء ويشعرون بكلّ شيء

ومن الخصائص الأساسية الأخرى؛ الترابط المفرط بين نصفَي الكرة المخيّة، المرتبط ببنية خاصة في الجسم الثفني (Corpus Callosum) الذي يفصل بينها، لكن أيضاً الالتزام التفضيلي بالفصّ الأيمن من الدماغ، بما في ذلك في المهام التي تعتمد عادةً على الفصّ الأيسر من الدماغ. وتتابع جين سيود-فاكشين قائلة: "من هنا، هناك مقاربة أكثر شمولية وأكثر تصويرياً وأكثر عاطفية، وأكثر تماثلياً للأشياء، تستوعب المعلومات عن طريق الانفعال والتأثر، بكيفية ساطعة وحدسية، فهذا يعطيهم علاقة مع العالم المكثف، فهم يملكون حواساً أكثر حدّة من حواس معظم الناس، وهو ما يجعلهم  يرون كلّ شيء، ويسمعون كلّ شيء، ويشعرون بكل شيء"، تقول الطبيبة النفسية، ويلتقطون إشارات لا يدركها أيّ شخص آخر، الأمر الذي يؤدّي، في بعض الأحيان، إلى تطوير قدرات رؤية مستقبلية، إضافة إلى فهم دقيق، وخفي وحاذق للعالم، وللناس من حولهم.

قدرة فائقة على الإحساس بمشاعر الآخرين

وتؤكّد الطبيبة جان سيود فاكشين؛ أنّهم يتميزون بنفاذية عاطفية، حيث تقول: "لقد ثبت أنّ لديهم حساسية خاصة للتعرض لمرض اللوزة (إحدى لَوزتي الحلق)، هذه المنطقة القابعة في عمق الدماغ القديم، الذي تتمثل وظيفته في فكّ المشاعر". وتكون النتيجة: أنّ ما هو تافه بالنسبة إلى شخص آخر، سرعان ما يثير عندهم زلزالاً عاطفياً. "لديهم أيضاً خلايا مرايا عصبية بكميات أكبر، ومن ثم قدرة أقوى على الإحساس بمشاعر الآخرين".

فجر إنسانية جديدة؟

هؤلاء الأطفال متعاطفون، ومترابطون ارتباطاً فائقاً مع بيئتهم، ولذلك يمكن أن يشعروا بأنّ شيئاً يغزوهم طوال الوقت، وبذلك فهم يزعجون المجتمع الذي يقوم منطقه في الحياة على المعايير التصورية العقلانية والتحليلية والاستنتاجية؛ ما الذي يمكن فعله مع هذه "الطيور الغريبة التي "تعرف" دون القدرة على شرح الكيفية التي تعرف بها، التي تجمع بين حساسية هائلة ووضوح حادّ، وتنشر طاقة نشطة يمكن أن تفسَّر بالغطرسة، والتي تلتقط إشارات لا واعية لا يدركها الآخرون، وتبدو أن لديها إمكانية الوصول إلى المعلومات المخفية؟

ترى المحللة النفسية ماري-فرانسواز نيفو، التي رافقت هذه الفئة من الأطفال لأكثر من ثلاثين عاماً، وتطلق عليهم صفة "الحاليين": أنّه "لتجنب لصق عنوانين أخرى على هذا النمط من الأطفال، فإنه ينبغي الترحيب بهم أوّلاً، كما هُم، بطبيعتهم الحقيقية".

دماغ القلب ينفتح على المقدّس

وتقول هذه الطبيبة النفسية: "لقد أظهرت اكتشافات علمية حديثة وجود شبكة عصبية حول القلب"، فبالنسبة إليها؛ هؤلاء الشباب يجسّدون أعراض ظهور ذكاء عاطفي، يتحرّر "من الازدواجية بين الدماغ الأيمن والدماغ الأيسر، للدخول في شكل من أشكال الوحدة"، من وجهة نظرها: هؤلاء الأطفال هم أيضاً علامة على تطور الإنسانية نحو وعي عالمي أوسع، وأكثر انفتاحاً على المُقدّس، وأكثر حاجة إلى الاحترام والعدالة والمعنى. "ينبغي أن نغيّر نظرتنا إلى هؤلاء الأطفال، فهم ليسوا مختلين وغير متوازنين، بل كلّ ما في الأمر، ببساطة، أنّهم يملكون مهارات خاصة".

بحكم تعطشهم للانسجام والتناغم بإمكانهم عند مواجهة واقع اجتماعي عنيف، غير متسامح أن يصبحوا عصبيّين وعدوانيّين وانطوائيين

هل هؤلاء الأطفال يمتلكون "سلطة خارقة"، لأنّهم مبدعون بشكل لا يصدّق، أو لأنّ لديهم تصورات وحدس غير عاديين؟ تقول الطبيبة النفسية: "نعم، إنهم يتواصلون مع أبعادٍ كونية أخرى. نعم، لديهم نهجٌ أقلّ خطّية للوقت، وأكثر تركيزاً على اللحظة، ما قد يؤدي إلى صعوبات في التحرك. نعم، إنهم في طور التطور الارتجاجي للكون. لكنّ مهمّتنا، ككبار، لا تتمثل في جعلهم مثاليين، لكن تتمثل، ببساطة، في أن نقبل خصوصيتهم، وأن نحاول أن نفهم كيف تشتغل عقولهم، من أجل تقديم دعمٍ أفضل لهم، بالنظر إلى احتياجاتهم".

أعراض الذكاء العاطفي

تؤكّد جان سيود فاكشين: "إذا واجه الطفل صعوبات، يجب علينا تحليلها في ضوء ملامحه الشخصية؛ فلو انطلقنا من افتراض أنّه كسول، وغير متحمّس، وعنيد، ولا يفعل إلا ما يدور في رأسه، وهو ما يسمعه الآباء كثيراً من معلمي أطفالهم، فنحن بذلك سنُسيء معاملته بالتأكيد، فبدلاً من مساعدته؛ فإننا نعمّق انغلاقه، ونمنعه من أن ينفتح ويزدهر، وفي هذه الحالة قد يُصدَم هذا الطفل ويتعطّل، ويرفض مجموعة من القواعد. لكن إذا أدركنا الاختلاف؛ فيمكننا أن نأخذ ذلك بعين الاعتبار لضبط استجابتنا له". إذ تقول الطبيبة النفسية: "إذا شعر أنّ لديه مكاناً، وأنه معترَف به، يمكن لهذا الطفل، هو أيضاً، أن يبذل جهداً للتكيّف مع النظام القائم".

يقول الدكتور لومبارد: "المفتاح في التعامل مع هؤلاء الأطفال؛ هو الحرص على عدم تشكيل شخصية كاذبة عند هؤلاء الأطفال"، يجب ألا نحثّ فيهم أيّ شيء، وأن نكتفي فقط بالاستماع والتلقّي، حتى يشعروا بأنهم مفهومون. كلّ فنّ التعامل معهم يتمثل في وضعهم في حالة علاج ذاتي؛ فعندما يكونون في قلب ذواتهم، يعرف هؤلاء الأطفال، أفضل من أيّ شخص آخر، ما يحتاجون إليه بالفعل. بالطبع، كلّ حالة هي حالة خاصّة ومعقّدة، وكلما تصرفنا عن توقّعٍ وتنبّؤٍ، بدلاً من تصرّفنا بدافع مجرّد ردّة الفعل، وكلّما استطعنا الاعتماد بشكل أكبر على المؤسسات التعليمية التي لا تحاول أن تضع الجميع في القالب نفسه، والاعتماد على المزيد من شبكات الدعم، ونشر المعلومات في اتجاه الآباء، أصبح بالإمكان التقاط وفهم كلّ ما يمكن أن يجلبه هؤلاء الأطفال.

وتخلص جان سيود فاشين إلى القول: "في رأيي، يجب أن ننظر إلى هذه الشخصيات غير النمطية من منظور تطوري"، "إعطاؤهم مساحة أكبر يمكن أن يجعل الإنسانية تتقدّم بشكل هائل وأفضل".

المصادر: arcturius.org و elishean-aufeminin


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية