الانتفاضة السورية... ثنائية الحرية والخبز

الانتفاضة السورية... ثنائية الحرية والخبز

الانتفاضة السورية... ثنائية الحرية والخبز


31/08/2023

بعيداً عن مقاربات التهوين والتهويل المتبادلة ما بين السلطات السورية والمعارضة، فقد بات من المؤكد أنّ التطورات التي تشهدها الملفات السورية تظهر حقيقة لا مراء فيها؛ وهي: ازدياد انكشافات المشهد السوري وتطوراته الداخلية بعناوين مختلفة، لعلّ أبرزها ما تشهده محافظات السويداء ودرعا في الجنوب السوري من مظاهرات، أصبح واضحاً أنّها بالإضافة إلى ما تحمله من رسائل مباشرة تتجاوز حدود الاحتجاج، فإنّها تتطور باتجاهات تدمج بين كونها شعارات احتجاجية على الأوضاع المعيشية وغلاء الأسعار وانخفاض قيمة الليرة، إلى إعادة إنتاج مطالب قديمة جديدة تتضمن شعارات الثورة مع انطلاقتها الأولى عام 2011، وفي مقدمتها المطالبة بإسقاط النظام، ولعلّ المفارقة أنّها تتزامن مع مظاهرات أخرى في الساحل السوري، معقل النظام بمرجعية طائفية، وهو ما يشي بأنّ تغييرات يتم التأسيس لها بمعزل عن أيّ نهايات لهذه المظاهرات، لا سيّما أنّ المظاهرات تتركز في مناطق أصبحت تُعرف بأنّها موالية للنظام، أو أنّها غير منحازة للمعارضة على الأقل.

الانتفاضة الجديدة في مناطق توصف بالموالاة للنظام يرجح أنّها قابلة للاستمرار والتوسع، بعد تداعيات الأزمة الاقتصادية، وأبرز مظاهرها انخفاض سعر الليرة السورية وانخفاض متوسط الرواتب مع زيادات غير معهودة بالأسعار

مطلب إسقاط النظام هو القاسم المشترك بين بدايات الثورة السورية والمظاهرات التي تشهدها المحافظات الجنوبية وفي الساحل السوري، لكنّ الفرق بينهما أنّ الثورة الأولى انطلقت بمطلب "الحرية ومكافحة الفساد والاستبداد"، فيما تشكّل انهيارات الأوضاع الاقتصادية بعد (12) عاماً على الثورة مرجعية لدى مناطق توصف بأنّها موالية للنظام، وهو ما يعني في حال استمرار تلك المظاهرات أنّ النظام السوري سيتحول إلى نظام معزول فاقد للحواضن الشعبية، تؤيده وتدافع عنه القيادتان؛ الروسية والإيرانية ومجاميع من ميليشيات إيرانية وولاءات، ربما أصبحت موضع شكوك واختبارات عميقة في أوساط المؤسسة العسكرية والأمنية التي تتقاسمها موسكو وطهران.

 

الانتفاضة الجديدة في مناطق توصف بالموالاة للنظام يرجح أنّها قابلة للاستمرار والتوسع، بعد تداعيات الأزمة الاقتصادية، وأبرز مظاهرها انخفاض سعر الليرة السورية إلى (15) ألف ليرة مقابل الدولار، وانخفاض متوسط الرواتب إلى أقلّ من (20) دولاراً، مع زيادات غير معهودة بالأسعار، رغم قرار الحكومة بزيادة الرواتب بنسبة 100%، وقرارات لم تكن موفقة بتحرير الأسعار ووقف الدعم الحكومي لأسعار المحروقات وغيرها من المواد الأساسية، ولعلّ أخطر ما يمكن الإشارة إليه هنا، وفقاً لمعلومات وإحصاءات دولية مستقلة، أنّ متوسط الرواتب في المناطق الواقعة خارج سيطرة الحكومة السورية (3) أضعاف ما هي عليه في مناطق سيطرة النظام، حوالي (60 إلى 70) دولاراً.

وبالتزامن مع الانفصال العملي لمناطق شمال غرب سوريا التي تشمل غالبية مناطق محافظة إدلب على الحدود التركية  وتمتد حتى أرياف حلب، وتسيطر عليها عمليّاً فصائل جهادية مدعومة من تركيا، أبرزها (هيئة تحرير الشام)، إلى جانب تشكيلات عسكرية أخرى منافسة، ومناطق ما يُعرف بشرق الفرات في الجزيرة السورية التي تسيطر عليها (قوات سوريا الديمقراطية) ذات الغالبية الكردية، إلى جانب ميليشيات تابعة لإيران وبقايا تنظيم (داعش)، فإنّ تساؤلات تُطرح حول الديموغرافيا التي تقع تحت سيطرة القيادة السورية، ومدى قدرتها على إنتاج حلول غير عادية "خارج الصندوق" على المستويين السياسي والاقتصادي، لضمان استمرار السيطرة على المناطق التي تحكم قبضتها عليها.

القيادة السورية تدرك حساسية المرحلة، ومخاوفها من توسع المظاهرات وانضمامها إلى مناطق انفصالية، وهو ما يفسر عدم تعاملها بطرق عنيفة "كما جرت العادة" مع أيّ مظاهرات، لكنّها واصلت نهجاً قديماً بفتح قنوات حوار مع بعض المتظاهرين، مع توجيه تحذيرات مبطنة للمؤثرين

القيادة السورية تدرك حساسية المرحلة، ومخاوفها من توسع المظاهرات وانضمامها إلى مناطق انفصالية، وهو ما يفسر عدم تعاملها بطرق عنيفة "كما جرت العادة" مع أيّ مظاهرات، لكنّها واصلت نهجاً قديماً بفتح قنوات حوار مع بعض المتظاهرين، مع توجيه تحذيرات مبطنة للمؤثرين، وبناء روايات مكررة أصبحت من ثوابت الخطاب الرسمي للحكومة السورية، تبدأ بالتهوين من التظاهرات، وأنّها محدودة، ثم التشكيك في أهداف التظاهر، إضافة إلى اتهامات بالعمالة وتنفيذ توجيهات لصالح قوى أجنبية، وصولاً إلى اتهامات بنوايا انفصالية، وهو ما عبّرت عنه منصات موالية للحكومة السورية تربط بين مظاهرات السويداء والتصعيد الأمريكي ومن قبل (داعش) في مناطق شرق الفرات، هدفها ضم السويداء ودرعا لكيان يمتد من الحسكة شمالاً إلى درعا جنوباً.

 

ربما تتعدد سيناريوهات مآلات هذه المظاهرات، لكنّ الواضح أنّها باتساع، ومن المستبعد استمرار "الصمت والليونة " اللذين تمارسهما الحكومة السورية حتى الآن، في حال اتساع رقعة المظاهرات، لا سيّما أنّها أصبحت تزاوج بين كونها ثورة "حرية" وثورة "خبز"، فيما لا يملك السوريون، بمعزل عن تصنيفهم "موالاة أو معارضة"، إلّا رفع الصوت عالياً ضد الاستبداد والفساد والجوع، فالسوري إذا كان يملك شيئاً يخسره عام 2011 حال دون مشاركته بالثورة، فالمؤكد أنّه اليوم لا يخشى ما يمكن خسارته، ويبدو أنّ القيادة السورية لا تستطيع اليوم اتهام المتظاهرين بأنّهم مسلحون أو أعضاء في تنظيمات إرهابية، ولا تستطيع المعارضة التقليدية تصدير مزاعم بتحريك الشارع، خارج بياناتها التضامنية، وهو ما شهدته مناطق في إدلب وشرق الفرات، غير أنّ الأهم في معايير تحديد مستقبل هذه الانتفاضة أنّ القيادة السورية لا تملك فعلياً أيّ حلول تخفف من أعباء الفساد، وما نتج عنه من أزمات حادة، خارج إطار اتهام الأعداء، وهي مقولات لم تعد تقنع الموالين للنظام، فكيف بالمعارضة؟ فالمالية العامة للدولة السورية خاوية ومدينة، إلّا من مداخيل توفرها تجارة المخدرات لنخبة تخوض صراعات فيما بينها ومع محيطها.

مواضيع ذات صلة:

لماذا عاود تنظيم داعش الظهور في الشمال السوري؟

تحركات تنظيم داعش المريبة في سوريا... ورقة تركيا البراغماتية

بعد تسليمهم الشمال لتركيا: إخوان سوريا يدعون لتحرير الجولان




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية