التطرف بما هو يعكس السلوك الاجتماعي والمعرفي النكوصي والمرتبك

التطرف بما هو يعكس السلوك الاجتماعي والمعرفي النكوصي والمرتبك

التطرف بما هو يعكس السلوك الاجتماعي والمعرفي النكوصي والمرتبك


05/02/2024

تنظر كاثلين تايلور أستاذ علم الأعصاب في جامعة اكسفورد إلى السلوك الاستهلاكي القائم في المولات اليوم بأنه استحضار ذاكرة قديمة وراسخة في مجتمعات الصيد وجمع الثمار يعكس الخوف والقلق، وتبدو الظاهرة نفسها اليوم في المؤسسات التعليمية والمعرفية والدينية. فمستويات المعرفة والعمل فيها، سواء في التعليم والبحث والتأليف والكتابة والآداب والفنون أو في الأعمال والمهن والصناعات والإنتاج تراوح فيها المجتمعات والجامعات والمدارس والكتاب والباحثون والأساتذة والشركات والمؤسسات والأسواق والحكومات بين جمعها وصيدها ورعيها وإنتاجها وتطويرها، وليس سرًّا ولا جلدًا للذات (ربما) أن المعرفة لدينا في الجامعات والمدارس والصحافة والثقافة والصناعات والأعمال يغلب عليها الطابع البدائي، جمعها أو سرقتها، وليس يدعو إلى الفرح والاعتزاز نسبة الإضافة المعرفية أو التحليل أو التصنيع والإنتاج أو الإبداع في المعرفة لدينا، وهذا على أي حال ما يمكن فهمه بالإضافة إلى واقع الحال الظاهر من تصريح وزير أسبق للتعليم العالي في الأردن بأن الأبحاث العلمية الأردنية قليلة وسطحية وغير تطبيقية ولا تحقق الطموحات. فإن مستوى الإنجاز من بين مئة بحث اعتمدت كما يقول مصدر في صندوق البحث العلمي لم يتجاوز بحثًا واحدًا

إذا كان أسلوب جمع الموارد يشكل أيضًا أسلوب الحياة والعلاقات الاجتماعية ومستوى الرقي والثقافة، ففي جمع الثمار يغلب سلوك البقاء والخوف بكل ما يجعل غير ذلك ممكنًا ولا بأس به، من السرقة والاعتداء، ولا يتيح أيضًا مجالًا لارتقاء بالحياة والثقافة، ما الموسيقى والفنون والرياضة وحتى اللباس والطهو في مجتمعات جمع الثمار والصيد والرعي؟! تقول غرفة الصناعة في الأردن إن مجموعة عوامل الابتكار والتطوير هي الأكثر تراجعًا في مؤشرات التنافسية.

يلاحظ في سوق العمل أن عمال المياومة هم الأقل التزامًا واهتمامًا بالإنجاز لأسباب واضحة ومعلومة متعلقة بمستوى وطبيعة العقود والالتزامات المتبادلة والآفاق المستقبلية في العمل، وليست أخلاقية أو طبقية كما يحب البعض القول.

ليس لدينا في ظل عدم اليقين المهيمن على المشهد سوى أن نبحث عن وسائل مواجهة نرجح أنها ملائمة وأن ننشئ مؤسسات جديدة ونغيّر في المؤسسات القائمة على النحو الذي يخدم التقديرات والترجيحات الممكنة في المواجهة

هل نعرف ما لدينا من موارد معرفية؟ وهل يعبر استهلاك المعرفة السائد لدينا في المدارس والجامعات والنشر والإعلام والعمل والمؤسسات والمهن عما لدينا من موارد، وعما نحتاجه بالفعل، وأين ما لدينا من معرفة في الخريطة العالمية للمعرفة؟ من يتابع الإنتاج المعرفي لدينا، يلاحظ أن ثمة ابتعادًا عن المحركات الحقيقية لإنتاج المعرفة واستهلاكها، فما ينشر وينتج يغلب عليه التكرار والاقتباس بل والسرقة من غير إضافة، وهذا يصيب موارد المعرفة نفسها بالإهمال والتكلس؛ لأن المعرفة لا تتحصل إلا بمجهود كبير، وإذا لم يكن العمل المعرفي قائمًا على الإضافة والإبداع، فإنه يصبح عبئًا على نفسه وعلى المستهلك.

عندما تدرج في "غوغل" قضية من القضايا اليومية أو المعرفية الكبرى وتنظر في الإنتاج الفكري والإعلامي حولها، ستجد حجمًا كبيرًا من الكتابة والنشر، ولكنها في التقييم النهائي يغلب عليها أنها تكرار (وغالبًا بلا نزاهة) لمعرفة ضئيلة أنتجها عدد قليل من الناس!

هذا الكم الهائل من النشر والمؤتمرات والندوات والكتب والرسائل الجامعية والمحاضرات، وهي تنتج بعدد كبير جدًّا يفوق قدرة أنشط المتابعين وأكثرهم قدرة على الاستيعاب، لكن محاولة النظر في أصالتها وأثرها ومدى الاستشهاد بها يدل على الخوف والقلق أكثر مما يدل على الإنتاج والمعرفة.

ربما كانت المجتمعات والأنظمة السياسية والاجتماعية والثقافية المتشكلة أو التي سوف تتشكل حول اقتصاد المعرفة بحاجة أكثر من أية فترة ماضية إلى فئة من الناس يمكنهم أن يلاحظوا الفوضى والعيوب في ما هو سائد، أو أولئك الذين وصفهم كولن ويلسون بـ"اللامنتمي"، وهو ذلك الشخص الذي يدرك ما تنهض عليه الحياة الإنسانية من أساس واهي، وهو الذي يشعر أن الاضطراب والفوضوية أكثر عمقًا وتجذرًا من النظام الذي يؤمن بهِ قومه، إنه ليس مجنونًا، هو فقط أكثر حساسية من الأشخاص المتفائلين صحيحي العقول. واللامنتمي هذا كان ضرورة لتشكيل حالة القلق والشعور بالخطل في الحضارة والمجتمعات الصناعية، كان بمثابة النذير الذي يدلنا على العيب والنقص في حياتنا، وكان في قلقه مصدرًا للإبداع. لكنه اليوم، يكاد يكون خبيرًا أساسيًا يقدم المهارات الضرورية في حالة الفوضى والأسئلة والتوقعات التي تتواصل وتتوالى حول الأعمال والموارد والقوة والنفوذ. فهل سنرى على سبيل المثال بحوثًا دينية فقهية حول أداء الحج والعمرة من خلال شبكة الإنترنت؟

لا تزال المواجهة مع التطرف، خصوصًا والأزمات السياسية بعامة، تحكمها سياسات وأدوات آفلة لم تعد تصلح للإدارة والمواجهة، ففي حين تنتمي الأزمات القائمة إلى عصر الشبكية بما تعنيه من تغير في دور الدول والموارد والفرص ومفهوم الصراع وطبيعته، تنتمي المواجهة إلى عصر المواجهة بين الدول والجيوش، وتنشأ بسبب ذلك متوالية من الشرور والأزمات؛ إذ ليس ثمة عدو محدد فيزيائيا يمكن أن يصب عليه عدوه الآخر غضبه ويحشد ضده الجيوش والإعلام، وفي ذلك لم يعد واضحا من العدو ومن الصديق، وتتآكل بطبيعة الحال عمليات المواجهة والاستعداء والتعبئة والحشد، ولم نعد نعرف من نقاتل، ولا نعرف جدوى أو معنى للسياسات والصراعات والحروب والقوانين والعلاقات والمنظمات الدولية، كأنها عمليات مواجهة في الظلام بين عملاق قوي مسلح وأقزام ضئيلة لدرجة يعجز العملاق عن رؤيتها أو استخدام قوته وسلاحه ضدها. وتنشأ بطبيعة الحال مواجهات وصراعات طويلة لكن أحدًا لا يجزم اليوم بأنها مواجهة تضعف بالفعل الإرهاب والتطرف أو تزيدهما، بل من المؤكد أن الإرهاب والتطرف يكسبان كل يوم مؤيدين جددًا، والأكثر تعقيدًا وإرباكًا أن فئات اجتماعية جديدة تتحالف اليوم مع الإرهاب الأيديولوجي؛ ما يزيده صلابة وتماسكًا وقدرة على البقاء والتماهي.

الحال أنه ليس لدينا في ظل عدم اليقين المهيمن على المشهد سوى أن نبحث عن وسائل مواجهة نرجح أنها ملائمة وأن ننشئ مؤسسات جديدة ونغيّر في المؤسسات القائمة على النحو الذي يخدم التقديرات والترجيحات الممكنة في المواجهة، فمن المرجح إن لم يكن مؤكدًا أن ثقافة الحياة قادرة على أن تواجه ثقافة الموت، وأن الازدهار والعدالة والحريات أقدر على مواجهة الكراهية والشعور بالظلم والإقصاء والتهميش، وأن تشبيك العلاقات والمصالح بين الدول والطبقات والمجتمعات والأفراد يقلل من قدرة الأعداء والإرهابيين على جذب المؤيدين والأنصار، وأن الاعتماد على المشاركة والقيم السامية والإنسانية العليا ينمي الولاء والانتماء أكثر من الاعتماد على المحفزات البدائية للإنسان مثل الخوف والقهر والجوع، بل العكس فإن مواصلة الاستعلاء على فئات من المجتمعات والناس وتهميشهم يزيد العداء والكراهية.
ليس ثمة أفق لمواجهة التطرف سوى عمليات صعبة ومعقدة من الازدهار الاقتصادي والإصلاح السياسي والاجتماعي والثقافي، وما من مواجهة مباشرة أو فاعلة مع التطرف سوى التقدم والتنمية الإنسانية. ولم يعد ممكنًا أو مجديًّا أو ذا معنى مواجهة التطرف والكراهية بصراعات سياسية وأمنية وعسكرية مباشرة سوى في حالات وحوادث محددة تكفي القوانين السائدة والمتبعة والمؤسسات الأمنية والقضائية للتعامل معها ولا يمكن الزيادة على ما هو موجود من ذلك بالفعل.

مواضيع ذات صلة:

التطرف بما هو رد فعل معاكس لما بعد الحداثة

يزدهر التطرف حين يكون مفيداً

التطرف حين لا تعود المدن ملاذاً اجتماعياً وروحياً




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية