التطرف والعشوائية الاجتماعية والحضرية

التطرف والعشوائية الاجتماعية والحضرية

التطرف والعشوائية الاجتماعية والحضرية


09/11/2023

تتحول اليوم المدن الكبرى والمؤسسات إلى عشوائيات اجتماعية وحضرية، لم تعد السلطات قادرة على إدارتها بالنظام الذي تعودت على استخدامه، ولم يعد الناس قادرين على تنظيم أنفسهم ومدنهم كما كان الحال قبل الدولة الحديثة، وفي ذلك يتشكل واقع مشوّه لا ينتمي إلى دول ومدن "المطبعة" بما هي منظمة ومنضبطة ونمطية، ولا ينتمي إلى مدن ومجتمعات مستقلة وقادرة على إدارة مواردها والولاية على مؤسساتها وأولوياتها واحتياجاتها، وفي هذه المتوالية تنشأ طبقات ومصالح مشوهة، ويتحول الفساد إلى منظومة تملك قواعد اجتماعية وتحالفات سياسية، تجد مصيرها وفرصتها في الدفاع عن الفساد وإدامته والتصدي للإصلاح والطبقات الاجتماعية والاتجاهات السياسية  والاجتماعية المطالبة بالإصلاح.

في أزمة الناس الاجتماعية والثقافية والروحية، والشعور بالغربة وصعوبة الظروف والحياة، تكون الإجابة التلقائية والعملية هي التدين، فيقبل الناس على التدين في بحثهم عن المعنى والجدوى، ولمواجهة الشعور بالضآلة والضياع في هذه المدن العشوائية القاسية، وتنشأ حول التدين والقرابة منظومة اجتماعية وسياسية قوية ومتماسكة، لكنّها منفصلة عن أولويات الناس ومشكلاتهم، وهكذا تستمر متوالية التشوه بلا توقف ولا حدود، وفي المقابل، فإنّ عمليات تنظيم اجتماعي وعمراني ملائمة للناس يمكن أن تحوّل المسار، وتنشئ متوالية تقدُّمٍ وازدهار.

 

تتحول اليوم المدن الكبرى والمؤسسات إلى عشوائيات اجتماعية وحضرية، لم تعد السلطات قادرة على إدارتها بالنظام الذي تعودت على استخدامه، ولم يعد الناس قادرين على تنظيم أنفسهم ومدنهم كما كان الحال قبل الدولة الحديثة

 

شهدت أوروبا صعوداً دينياً شمل حياة الناس ومواردهم بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية (476م)، وتدهور المدن والأسواق وانتشار الجوع والفقر والفوضى. يقول لويس ممفورد في كتابه (المدينة عبر العصور): إنّ التصورات الدينية الجديدة أعطت قيمة إيجابية لألوان الحرمان والفشل التي كانت قد عانتها الشعوب الخاضعة لسلطان روما، ذلك أنّها حوّلت مرض البدن إلى صحة روحية، والجوع قسراً إلى الصيام طواعية، وفقدان متاع الحياة الدنيا إلى اتساع في آفاق الأمل في النجاة في الآخرة، حتى الخطيئة صارت طريقاً إلى النجاة. فالمؤمن بإعراضه عن كلّ ما كان العالم الوثني يشتهيه ويجدّ في سبيله، خطا الخطوات الأولى نحو تشييد مبنى جديد من الأنقاض، لقد أنشأت روما المسيحية عاصمة جديدة، هي المدينة السماوية، ورابطة حضرية جديدة هي زمرة القديسين؛ فهنا كان يوجد النموذج الأصلي الخفي للمدينة الجديدة.  

وصار الناس بتشجيع من المؤسسة الدينية والكهنة يتقبلون الحقائق الكريهة بدلاً من تفاديها أو مواجهتها، وصعدت قيم مساعدة الفقراء والمرضى ومواساتهم باعتبارها وسيلة للمودة وإظهار الحب، وبدلاً من التشبث بالوجود في جموع كبيرة طلباً للأمان والطمأنينة؛ فإنّ المتدينين وأتباعهم رضوا بالتسبيح والعزلة والصمت في أجواء من الصلاة والطمأنينة.

ويمكن أيضاً ملاحظة ذلك في التصوف الإسلامي الذي تحوّل من حركة فلسفية وعلمية إلى طقوس جماعية للإذعان المتستر بالعبادة والتسبيح والزهد.

كانت المباني الرومانية ممقوتة، وأصبح الكثير منها بلا قيمة كالمسرح والحمّام، وأمّا المعابد والقاعات الكبيرة التي تتسع لعدد كبير من الناس، فقد حوّلت إلى كنائس، أصبح معبد أنتونينوس كنيسة القديس لورنزو، ومجلس الشيوخ كنيسة القديس أدريانو. في القرن الـ (14) كان ما يقرب من نصف كنائس روما الـ (1000) ما يزال يدلّ بأسمائه ومبانيه الظاهرة للعيان على أنّه وثني الأصل. وصعدت الأديرة باعتبارها القلعة الجديدة، أي نقطة ارتكاز حالت دون انقلاب الانسحاب إلى هزيمة، إلّا أنّها كانت قلعة للروح. فالدير كان المكان الذي انتقيت فيه الأهداف المثالية للمدينة واستبقيت حية وجددت في النهاية.
وفي الدير نقلت كتب الآداب القديمة من أوراق البردية المتفتتة إلى صفحات الرق المتين، وطورت اللغة اللاتينية باعتبارها لغة العلم والدين، وكرست الأساليب الأكثر تطوراً للزراعة الرومانية والطب الإغريقي، ووقعت الكنيسة في حبائل مسؤوليات دنيوية عندما تولى مقاليدها رجال استهوتهم الرغبة في التوفيق بين المسيحية والمعتقدات والأنظمة السياسية والإدارية. 

في مواجهة الفوضى التي كانت تهدد الأساقفة اضطروا إلى مزاولة السلطة السياسية، بل والقيادة العسكرية، وصار الأساقفة يجمعون بين وظيفتي الكاهن والحاكم على النمط الروماني القديم. تقلصت المدن وبعضها اختفى، كانت الحياة تنحدر نحو مستوى الكفاف، وكان الفرد في سبيل سلامة بدنه لا أكثر يضع نفسه راضياً ومسروراً تحت حماية زعيم يقود جماعات للأتاوات. الحال أنّه عندما وقع الانحلال بالمدينة أخذت أجزاؤها الأصلية المختلفة تعود إلى الظهور. وهكذا فإنّ الزعيم القديم، ومن حوله عصبته الحربية، عاد إلى الظهور في معقله المحصن باسطاً سلطانه على عدد من القرى.

 

في مواجهة الفوضى التي كانت تهدد الأساقفة اضطروا إلى مزاولة السلطة السياسية، بل والقيادة العسكرية، وصار الأساقفة يجمعون بين وظيفتي الكاهن والحاكم على النمط الروماني القديم

 

لكن وفي اتجاه آخر، رمّمت الأسوار القديمة للمدن وبنيت أسوار جديدة لصد الغزاة، وبفضل السور كان يتسنّى لمدينة صغيرة أن تغدو معقلاً، بعد أن كانت عديمة الحيلة أمام قوة مسلحة صغيرة، وصار الناس يتوافدون للإقامة فيها بدلاً من الهروب منها، وفي مدى بضعة قرون استعادت مدن أوروبا كثيراً ممّا كانت قد فقدته في أثناء انحلال الإمبراطورية الرومانية.

في تشكل المدن وتطورها يلاحظ لويس ممفورد أنّها تحولت من ساحة ديمقراطية يلتقي فيها الناس للعبادة والترفيه والتجارة إلى مكان حصين ومغلق، يسيطر عليها الحاكم، ويحتكر أقواتها ومواردها، ولعلّ الدين كما يقول ممفورد قد لعب دوراً أساسياً في إحداث هذا التغيير؛ إذ إنّه بدون مساعدة طبقة رجال الدين الصاعدة ما كان في مقدور الزعيم الصياد أن يحصل على النفوذ الكبير والسلطات الواسعة التي صحبت ارتقاءه إلى الحكم وبسطت نطاق سيطرته. وكثيراً ما كان الكاهن والحاكم يجتمعان في شخص واحد. لم يكن بناء المعابد أو إعادة بنائها مجرد مظهر صوري للورع، بل كان دعماً ضرورياً للحق الشرعي في البقاء والاستمرار، وتكريس الميثاق بين المعبد والقصر.

كان المعبد يقوم بدور أجلّ قدراً ممّا يؤديه الحصن والحرس المسلح. وما الحاجة إلى القوة والإكراه إذا كانت الطاعة تأتي في يسر، وإذا كان وجود إله حي بين الناس يكفل لهم الوفرة والطمأنينة والأمن والنظام والعدل في هذه الدنيا والخلود في الآخرة؟ وكان أشدّ ما في تاريخ المدينة موجباً للأسف، وما يزال عارها مقيماً بيننا، مهما بلغ من شأن الخدمات الجليلة التي نهضت بها المدينة، فمنها قامت كذلك خلال الجانب الأكبر من تاريخها بأداء دور وعاء للعنف المنظم ودور ناقل للحروب، والحضارات القليلة التي تجنبت ذلك إلى حين هي تلك التي احتفظت بأساسها القروي، واستسلمت دون استخدام للقوة إلى قيادة مركزية رحيمة في مظهرها. 

قد نستطيع الذهاب إلى أبعد من ذلك، فإنّ المدينة ذات الأسوار لم تقف عند حدّ أنّها وفرت لمطالب الحكام وأوهامهم كياناً جماعيّاً دائماً، وبذلك زادت الريبة والعداء وعدم التعاون، بل إنّ إيغالها في تقسيم العمل والتفرقة بين الطبقات جعل الفصام أمراً عاديّاً، على حين أنّ إمعانها في فرض أعمال إجبارية على جانب كبير من سكانها المستعبدين وفّر عوامل تكوّن العصاب القهري.

وهكذا؛ فإنّ المدينة القديمة، بحكم تكوينها ذاته، عملت على أن تنقل للأجيال التالية كيان شخصية جماعية، تعتبر الآن مظاهرها المتطرفة أعراضاً مرضية إذا ظهرت في الأفراد، وما نزال نرى هذا الكيان في عصرنا.

مواضيع ذات صلة:

التطرف بما هو أعراض جانبية للوهم

لماذا يتصرف الناس بقسوة وهم يعلمون أنّها خطأ أخلاقي؟

من أين تأتي المعتقدات؟




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية