الضُّمور والتفكُّك: حركة النهضة التونسية في مفترق طُرق

الضُّمور والتفكُّك: حركة النهضة التونسية في مفترق طُرق

الضُّمور والتفكُّك: حركة النهضة التونسية في مفترق طُرق


05/09/2023

أحمد نظيف

فيما تتجه حركة النهضة، كبرى حركات المعارضة السياسية في تونس، إلى عقد مؤتمرها العام الحادي عشر، والذي لم يُعقد منذ سبع سنوات، شهدت خلالها انشقاقات تنظيمية وتفكُّكاً متزايداً لقاعدتها الاجتماعية، انتهى إلى خروجها من السلطة قبل سنتين؛ تعيش الحركة هذه الأيام أزمة عميقة وغير مسبوقة، على جميع المستويات التنظيمية والسياسية والشعبية، في ظل تزايد حدة صراعها مع الرئيس قيس سعيّد ونظامه منذ 25 يوليو 2021.

الوضع الراهن لحركة النهضة: ضمور سياسي وتنظيمي

بعد عقد من الوجود داخل السلطة، وجدت حركة النهضة نفسها فجأةً خارجها، في أعقاب قرارات 25 يوليو 2021، التي غيّر بموجبها الرئيس قيس سعيد قواعد اللعبة السياسية في تونس جذرياً، من خلال إعلان حالة الخطر الداهم، ثم تبديل هيئة النظام السياسية عبر إقرار دستور جديد، وكذلك الحد من قوة الأجسام الوسيطة كالأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، وإعادة فرض قوة الأجهزة البيروقراطية للدولة على المجال العام. شكلت هذه التحولات على مستوى بنية النظام السياسي، نقيضاً للبيئة التي انتعشت فيها الحركة، ذات الجذور الإخوانية، والتي كانت قادرةً من خلال النظام البرلماني على المناورة ضمن مساحات واسعة مع بقية الأطراف السياسية، كما حدث بين 2011 و2021.

لذلك وجدت الحركة نفسها منذ البداية في معارضة جذرية ضد الرئيس سعيّد. وقد تطور الصراع لاحقاً نحو غلق المقر المركزي للحركة، ومنع الاجتماعات في جميع مقرات الحركة، وإغلاق مقر اجتماعات جبهة الخلاص المعارضة، التي تشكل النهضة أحد أكبر المساهمين فيها. ثم وسعت السلطات الحملة نحو اعتقال عدد من قيادات الصف الأول في النهضة بتهم التآمر على أمن الدولة، والتورط في شبكات التسفير إلى بؤر التوتر في ليبيا وسورية والعراق بين 2012 و2015، وكذلك تحت طائلة قضايا تبييض أموال وفساد. لينتهي الأمر إلى اعتقال رئيس الحركة، راشد الغنوشي، في أبريل الماضي. بموازاة سياسات السلطات في مواجهة حركة النهضة، شرعت مجموعة من النواب في البرلمان منذ يوليو الماضي في جمع الإمضاءات على عريضة سياسية من أجل "حلّ الحركة وتصنيفها تنظيماً إرهابياً"، على اعتبار أنها "تضم أشخاصاً في قياداتها العليا والمتوسطة تلاحقهم تهم بتلقي أموال مشبوهة من جهات خارجية، وارتباطات بالجهاز السري للحركة المتورط في قضايا الاغتيالات السياسية وتسفير الشباب لبؤر التوتر"، على حد قولهم. ومن الواضح أن هذه العريضة ستأخذ مسارها داخل البرلمان بعد العطلة النيابية الصيفية.

شكَّلت هذه الضربات الأمنية والقضائية المصدر الأول للضمور السياسي والتنظيمي للحركة، حيث بدا واضحاً عجز التنظيم عن التعبئة الشعبية في المظاهرات والمسيرات التي ينظمها ضد السلطة. لكنها أيضاً مثلت دافعاً أساسياً أمام حالات استقالة وانسحاب متوالية داخل تنظيم الحركة، وكذلك إحجام عن النشاط من طرف قطاع واسع من الأعضاء والأنصار، إذ أصبح الارتباط بالحركة مصدر تحوط أمني، رغم أن قطاعاً أوسع من المنسحبين من الحركة، كان دافعهم في ذلك رفض طريقة إدارة الحزب وفشل عملية الإصلاح داخله. وهذا النوع من الانسحابات، يُعبِّر عن صراع الأجنحة داخل الحركة، وليس مرتبطاً بشكل مباشر بالصراع السياسي مع النظام الحاكم، حيث شكلت هذه الصراعات الداخلية حالةً شبه مستمرة داخل الحركة منذ العام 2016، بين جناح موالٍ لراشد الغنوشي، وجناح مُعارض له.

في المقابل، كشف الضمور التنظيمي والسياسي للحركة عن وجود تهرُّم واضح في الصف القيادي للتنظيم، حيث تراجع بشكل واضح ظهور قيادات من فئة الشباب، فيما يُهمين على القيادة شخصيات عاشت صراعات الثمانينيات والتسعينيات مع الدولة، سواءً تلك القيادات الموجودة حالياً في السجون أو القيادات التي حلتّ محلها بشكل وقتي. كما أن وجود النهضة داخل جبهة الخلاص، التي تضم شخصيات وأحزاب علمانية وإسلامية، منع توسُّع هذه الجبهة بسبب تحفظات أحزاب ليبرالية ويسارية على وجود الإسلاميين داخلها، بوصفهم من يتحمل مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع، نتيجة سوء إدارة المرحلة الانتقالية قبل 2021.

وفي ظل هذا الوضع التنظيمي والسياسي الراهن، المتسمّ بالتفكك والضمور، تتجه الحركة إلى عقد مؤتمرها العام الذي طال انتظاره وأُجِّل منذ مايو 2020 أكثر من مرة، بسبب خلافات داخلية بين الأجنحة المتصارعة. وهو مؤتمر يعقد في ظل وجود رئيس الحركة راشد الغنوشي ونائبيه عليّ العريض ونور الدين البحيري في السجن، حيث من المتوقع أن يُفرِز لأول مرةٍ – في حال انعقاده – قيادة جديدةً بعد أكثر من ثلاثة عقود من وجود الغنوشي على رأس الحركة.

إلى جانب الوهن التنظيمي والتراجع السياسي تعاني حركة النهضة، أكثر من أي وقت مضى، من تفكك قاعدتها الاجتماعية بعد عشر سنوات من السلطة، إذ لم تكن الحركة ضعيفةً على المستوى الشعبي في أي وقت من الأوقات مثل ما هي عليه اليوم. فحتى في ذروة صراعها مع نظام الرئيس الحبيب بورقيبة خلال الثمانينيات، ونظام الرئيس بن علي في تسعينيات القرن الماضي، حافظت الحركة على قدر واسع من التعاطف والشعبية لدى شرائح واسعة من المجتمع بسبب "سردية المظلومية"، إلا أن سنوات السلطة العشر غيَّرت الكثير من هذا التعاطف.

منذ تأسيسها شكلت حركة النهضة قاعدة اجتماعية أساسها الطبقة الوسطى المحافظة، شأنها شأن أغلب الحركات الإخوانية في العالم العربي. وقد نجحت من خلال هذه القاعدة الملتزمة في تحقيق مكاسب انتخابية في أول استحقاق بعد 2011، حيث جاءت في المركز الأول وشكلت حكومة ائتلافية. ومع أن الحركة حافظت على وجودها في السلطة، لكنها كانت تفقد كل عامٍ جزءاً من قاعدتها الاجتماعية، بسبب سياساتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حيث أصبح تنظيمها الحزبي محكوماً من نواة صلبة موالية لرئيسها راشد الغنوشي في مقابل تهميش القواعد الحزبية وقطاع واسع من قيادات الصفوف الأولى. وبات جزءٌ مهم من نفوذها قائماً على كسب ولاء شرائح اجتماعية ضمن الطبقات العليا، ذات النفوذ المالي والإداري والسياسي، لاسيما خلال مرحلة التوافق مع حركة نداء تونس بقيادة الباجي قائد السبسي. وشكل هذا التحول، الذي قاده الغنوشي والجناح الموالي له، بعد المؤتمر العاشر في 2016، كسراً عميقاً للقاعدة الاجتماعية التاريخية للحركة، التي أصبحت غير مبالية بالالتزام الانتخابي تجاه النهضة، وقد ظهر ذلك بوضوح في تراجع الكتلة الانتخابية للحركة بين 2011 و2019. وليس غريباً أن جزءاً واسعاً من هذه القاعدة تحول إلى تأييد الرئيس قيس سعيد، بعد فقدانه الأمل في الأحزاب السياسية. كما أن الخلاف الكبير الذي يشق الحركة منذ مؤتمر العام 2016، بين المجموعة القيادية بزعامة راشد الغنوشي والتيار المعارض له، قد أضعف قدرة التنظيم على التواصل مع القواعد الحزبية.

وقد ظهر هذا التفكك على مستوى القاعدة الاجتماعية بشكل أكثر وضوحاً في أعقاب 25 يوليو 2021، حيث بدت حركة النهضة عاجزةً عن التعبئة الشعبية ضد الرئيس سعيد، وتراجع وجودها الشعبي إلى مستوى ما قبل 2011، حيث لم يبق ملتزماً داخلها سوى العناصر العقائدية، فيما اختفت الفئات التي انضمت للحركة بعد وصولها إلى السلطة، خاصة من الطبقات النافذة مالياً وإدارياً. وهذا التحول يمكن أن يعطينا فكرةً عن طبيعة الحزب المستقبلية ما بعد المؤتمر الحادي عشر، الذي سيعقد في الخريف المقبل، حيث يمكن أن نشهد عودةً إلى شكل الحزب العقائدي الاحتجاجي الضيق، بدلاً من شكل الحزب المفتوح الذي رسخه المؤتمر العاشر. واللافت أن الحركة لم تقدم حتى اليوم أي مراجعات لتجربة الحكم، التي أدت إلى الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد، رغم أن راشد الغنوشي قد أعلن قبل عامين بأن حركته "تلقت رسالة الشعب، وأنها ستعلن نقدها الذاتي بكل شجاعة". 

المسارات المستقبلية المحتملة

تقف حركة النهضة اليوم أمام مفترق طرق، بين الخشية من العودة إلى حالة الشتات ما قبل 2011، وبين المضي إلى الأمام نحو تحولات جذرية فكرية وسياسية في مرحلة ما بعد راشد الغنوشي. إذ إن كل السيناريوهات الممكنة لمسارها المستقبلي توحي بأن وجود الغنوشي على رأسها لم يعد ممكناً لاعتبارات سياسية تتعلق بضرورة إحداث تغيير جذري على مستوى القيادة بعد أكثر من ثلاثة عقود، ونظراً كذلك لوضعه القضائي، وأيضاً لاعتبارات شخصية تتعلق بتقدمه في السنّ (82 عاماً)، إذ عبرّ هو نفسه عن عدم رغبته في الترشُّح لرئاسة الحركة مرةً أخرى. لذلك فإن الحركة اليوم أمام ثلاثة سيناريوهات ممكنة: 

السيناريو الأول: عدم مضي السلطات التونسية إلى مزيد من المواجهة أو نحو حلّ حركة النهضة، بالتوازي مع عقد الحركة مؤتمرها في الخريف المقبل، والذي من المتوقع أن يفرز قيادة جديدةً، تتمثل في القيادة الوقتية الحالية برئاسة منذر الونيسي (56 عاماً). كما يتوقع أن يصدر المؤتمر لائحة مراجعة للسنوات العشر الماضية، ستُحمَّل فيها الحركة جزءاً من المسؤولية لما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية من تدهور، وكذلك جزءاً من مسؤولية فشل الانتقال الديمقراطي من خلال سياسات الحركة طيلة العشر سنوات الماضية، وهو أمرٌ قد يُخفِّف من حدة الصراع بين الحركة والسلطة. كما يمكن أن يفتح الباب أمام عودة فئات من المنسحبين من الحركة.

السيناريو الثاني: مواصلة السلطات التونسية سياسة مواجهة حركة النهضة بنفس الحدة، وصولاً إلى فرض حلّ الحركة، من خلال القضاء، وبدفع من كتل برلمانية. وهذا السيناريو سيجعل عقد مؤتمر الحركة صعباً، من الناحية اللوجستية، لكنه يمكن أن يحصل بطريقة ما (سرية أو رقمية) ويفرز قيادة رسمية، وفي حال وجود استحالة أمنية لذلك قد تُنقل قيادة الحركة إلى الخارج. وفي هذه الحالة سيزداد التنظيم ضيقاً وتصلُّباً، وربما يعود إلى أشكال التنظيم ما قبل 2011، ذات الطبيعة شبه السرية.

السيناريو الثالث: المحافظة على الوضع الراهن من التضييق الجزئي دون المضي نحو حلّ الحزب، حيث من الممكن أن تحافظ السلطات على خيار المحاسبة الفردية لأعضاء الحركة دون الذهاب نحو المحاسبة الجماعية للتنظيم. وبموازاة ذلك، قد لا تمضي الحركة في عقد مؤتمرها العام بذريعة الوضع الاستثنائي الذي تعيشه، أو عجزها عن تنظيم المؤتمر لوجستياً، في تكرار لما حصل سابقاً، حيث كان من المقرر أن تعقد النهضة مؤتمرها في شهر يونيو الماضي، ولكنها أجلته لأسباب تنظيمية. وفي هذه الحالة سيتواصل تفكك القاعدة الاجتماعية للحركة، وضمورها السياسي والتنظيمي.

والمسار الأرجح الذي يمكن أن تواجهه حركة النهضة في المدى المستقبلي القريب، هو سيناريو يمزج بين السيناريوهين الأول والثالث، حيث من المتوقع أن تحافظ السلطات التونسية على نسق متصاعد من التضييق التنظيمي والسياسي في مواجهة الحركة، وفي موازاة ذلك يتوقع أن تمضي النهضة نحو عقد مؤتمرها العام الحادي عشر، وتثبيت القيادة المؤقتة الحالية كقيادة دائمة. مع أن فرضية الحلّ القضائي تبقى قائمةً ورهينة نسق الصراع السياسي بين الحركة والرئيس قيس سعيد أولاً، وكذلك موازين القوى داخل البرلمان. 

عن "مركز الإمارات للسياسات"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية