الفاشية في إثيوبيا

الفاشية في إثيوبيا


02/11/2021

 أحمد هراد

قبل ما يقارب قرنا من الزمان، كانت إثيوبيا واحدة من أبرز ضحايا الأيديولوجية الفاشية التي تبناها النظام الإيطالي بقيادة بنيتو موسوليني الذي غزا إثيوبيا في 1935- 1936م لأسباب متعددة، محدثا أهم شرخ في النظام الدولي المتهالك آنذاك المتمثل في رابطة عصبة الأمم، وعلى إثرها انزلقت الدول الغربية في الحرب العالمية الثانية، التي كان من أهم محطاتها هو تحرير إثيوبيا واستعادة السيادة في 1941م.

اليوم وبعد عقود من تلك الأحداث التي أعطت الدولة الإثيوبية زخما ومادة حيوية في التحرر وفي مناهضتها للفاشية، نجد أن شبح الفاشية يلوح في أفق السياسة في إثيوبيا، التي تعيش أوضاعا غاية في الدقة والصعوبة نتيجة إزاحة نظام وولادة آخر من رحمه مع تولي الدكتور آبي أحمد السلطة في الثاني من أبريل 2018م.

معنى الفاشية

تعددت تعريفات الفاشية بين منظري السياسة بين من عرفها بأنها أيديولوجيا سياسية وبين صنفها كحركة جماهيرية، ولكن أغلب المنظرين أشاروا إلى كونها حركات قومية من أقصى يمين الطيف السياسي تشترك في تبني أفكار الديكتاتورية والشمولية في الحكم، وعسكرة كل نواحي الحياة العامة في السياسة والاقتصاد بالإضافة إلى استخدامها العنف في قمع كل أصوات المعارضة، وتعمل على إعادة تنظيم حيوات المواطنين بما يتوافق مع أهداف النظام.

نشأت الفاشية كفكرة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كردة فعل للثورات الأوروبية التقدمية والرأسمالية التي غيرت وجه الخارطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للشعوب الغربية عموما، فانتشرت أفكار تمجيد الوطن وتبجيل تاريخ الأسلاف القديم وتفوق العرق (الشعب) وسط قطاعات من شعوب شرق ووسط وجنوب أوروبا وصولا إلى الأرجنتين في أميركا الجنوبية، ونجحت الفاشية في الوصول إلى سدة الحكم في إيطاليا من خلال بنيتو موسوليني، وفي ألمانيا بقيادة النازي هتلر، نتيجة خلفية من الظروف والعوامل المتشابكة، أهمها ضعف الديموقراطية وعدم ترسخ تجربتها في المسرح السياسي في تلك البلدان.

الجذور التاريخية للفاشية في إيطاليا

نشئت الأفكار الفاشية في بادئ الأمر في شمال إيطاليا وتحديدا في أوساط التيارات الوطنية والقومية، ثم انفصلت عنها لتمثل تيارا مستقلا بحد ذاته في أقصى اليمين، وكان ظهور الفاشية بسبب تشابك عوامل متعددة ومعقدة مرت بها الدولة الإيطالية الحديثة العهد حيث توحدت الإمارات الإيطالية في 1870م.

كانت أبرز تلك العوامل هي:

1- بحث القوميين عن شرعية تاريخية لدولتهم، فدعوا إلى استعادة الأمجاد القديمة التي كانت لأسلافهم الرومان، واعتبروا أن الدولة الإيطالية هي الوريث الشرعي للإمبراطورية الرومانية.

2- عدم رضى الشعب الإيطالي بنتائج معاهدة فرساي، التي وقعت بعد انتهاء الحرب الأولى، والتي لم يلتزم فيها الحلفاء بوعودهم في دعم إيطاليا ماليا وفي تقاسم الأراضي.

3- ضعف الديموقراطية وهشاشتها وعدم ترسخها في المسرح السياسي في إيطاليا.

4- عدم كفاءة الحكومة في إدارة البلاد.

5- الأزمات الاقتصادية وانتشار السخط والامتعاض في صفوف المواطنين نتيجة الكساد الاقتصادي، وأيضا السخط على الرأسمالية والثورات التي قامت بإعادة تشكيل القارة الأوروبية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وهو ما أنتج ضررا بالغا في قطاعات من الشعب الإيطالي.

لعل المطلع على الظروف التي نشئت فيها الفاشية في إيطاليا سيجد شبها واضحا – وأحيانا تماثلا إلى الحد التطابق – مع الظروف التي تعيشها إثيوبيا منذ بدايات الألفية وحتى هذه اللحظة.

ماذا حدث في إثيوبيا

كان سقوط النظام الشيوعي ووصول جبهة تحرير تيغراي لسدة الحكم في 1991م بمثابة استيلاد دولة إثيوبية تختلف بشكل جذري عن الصورة التقليدية المرسومة لها طوال فترة النظام الملكي أو الشيوعي الذين لم يختلفا في رؤيتهما تجاه العناصر الأساسية لشكل إثيوبيا كالدولة والشعب والتاريخ القديم، وإن كان اختلافهم ظاهريا فقط في شكل النظام الذي يدير دفة البلاد، وفي هذا الاستيلاد حدث تغيير شامل لشكل الدولة، من دولة متشددة في المركزية تعاني من وجود هوة ساحقة بين المركز والأطراف إلى دولة متعددة المراكز من خلال تقوية الأطراف، كما تم استبدال مفهوم الشعب الإثيوبي إلى الشعوب الإثيوبية وإفساح المجال للقوميات والإثنيات لتمثيل وجوه أخرى للعنصر البشري في إثيوبيا، بالإضافة إلى إعادة إحياء التاريخ والمواريث الشعبية للقوميات الإثيوبية وتحرير التاريخ الإثيوبي من هيمنة النمط السابق والأوحد الخاص بالهضبة الإثيوبية.

عملت أيضا الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي TPLF على تغيير شكل إثيوبيا ليس من الناحية الديموغرافية فقط بل حتى من الناحية السياسية، حيث تغيرت الخارطة السياسية للبلاد بعد أن تم انفصال إريتريا في 1993م إثر الاستفتاء الذي أشرفت عليها منظمة الأمم المتحدة، والذي بموجبه أصبحت إثيوبيا دولة حبيسة وبدون منفذ مائي، وكذلك فتحت المجال للقوميات الأخرى لتقرير المصير والانفصال من خلال الدستور.

من ناحية أخرى، لم يكن حكم جبهة تحرير تيغراي من خلال مظلة الائتلاف الحاكم – الجبهة الثورية الديموقراطية لشعوب إثيوبيا EPRDF – مثاليا، فلم تقم الجبهة الحاكمة بممارسة الديموقراطية وإرساء الحريات الأساسية للإثيوبيين، ولم تدعو بشكل عملي وواضح على الأرض إلى إنهاء كافة أشكال العنصرية وعدم المساواة بين الإثيوبيين كما دعت إليه الجبهة في دستورها الذي اعتمدته للبلاد في 1995م ، بل على العكس من تلك الدعاوى البراقة، تغولت الجبهة وازدادت قبضتها الأمنية بشكل كبير على الشعب، بالإضافة إلى فساد الحلقة العليا من زعماء الجبهة الذين لم يجدوا حرجا في نشر الفساد واعتماد المحسوبية في كافة مفاصل الدولة، وهو ما أدى إلى نشوء طبقة سياسية من النخب الإثيوبية، رأت أن الدعوة إلى الديموقراطية في إثيوبيا هي تهديد مباشر لمصالحها الناشئة والمتكونة حديثا، وهو ما تمت ترجمته في العنف والتلاعب والتزوير الذي قامت به السلطات في كافة الانتخابات التي جرت في البلاد، والتي كانت أحداث انتخابات 2005 أبرز تجليات انتهاء وعود تمكين الديموقراطية وسيادة الشعب في إثيوبيا.

هذه التغييرات الجذرية لشكل البلاد الممزوجة بالسلبيات الحادة والواضحة في إدارة الحكم، بالإضافة إلى فقدان الطغمة السابقة للقيمة المادية المباشرة الناتجة عن إزاحة النظام الملكي في 1974م ثم انتزاع القيمة المعنوية منها مع وصول جبهات قومية أخرى من خارج المسرح السياسي المألوف في 1991م، ومزاحمة ما يناهز الثمانين إثنية ومجموعة لغوية لهم بعد عقود من استفرادها في تمثيل إثيوبيا كسردية ولغة وأسلوب حياة، كانت سببا في أن يتم تفسير جميع ما سبق على أنها تهديد وصريح لكيان الدولة الإثيوبية.

لذا قامت بعض الجيوب الاجتماعية بتبني مجموعة من الأفكار الأصولية المتشددة لاستعادة إثيوبيا، كاستحضار التاريخ والأمجاد الإثيوبية وفقا للسردية التي كانت منتشرة قبل 1974م، وشيطنة تجربة حكم الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي بين 1991- 2018م، والدعوة لإحياء الشكل القديم للدولة وإعادة النظام المركزي وإلغاء النظام الفيدرالي الإثني، بالإضافة إلى نشر مفهوم الأثوبة Ethiopianess الذي يقدم شكلا واحدا وتفسيرا واحدا لإثيوبيا.

ولكن من الناحية الأخرى، فإن نشوء هذه الجيوب الاجتماعية كان نتيجة أيضا بسبب ضغوط كبرى تعرضت لها الحاضنة الإثنية التي أتى منها الأباطرة والحكام الإثيوبيين، لعل أبرزها هو العمليات الممنهجة لشيطنة قومية الامهرا وإسقاط كل سلبيات الحقب السابقة على الأبناء، رغم أن الحواضر الأمهرية – قبل وأثناء حكم منليك – لم تكن كتلة واحدة سواء من الناحية الثقافية والدينية أو من ناحية المصالح والأهداف، فالعديد من الحواضر الشمالية كغوندر ووللو وغوجام لم تكن شريكة في النظام الملكي ولا مستفيدة من إرث وثمرات الدولة الإثيوبية الحديثة، بل كان أغلب مواطني قومية الأمهرة يعانون مثل غيرهم من القوميات الإثيوبية الأخرى من القمع والتسلط ويرزحون تحت نير الفقر المدقع، على عكس منطقة شوا – أمهرا التي ساهمت بنصيب الأسد في تأسيس إثيوبيا الحديثة سواء من خلال الفتوحات التي قام بها الإمبراطور منليك الثاني باتجاه الشرق والجنوب أو في توحيده لإمارات الشمال، أو من خلال استفرادهم في الانتفاع بمكتسبات الدولة الحديثة، ولكن هذه الأفكار وجدت أرضية خصبة لاحقا في بقية الحواضر في شمال إثيوبيا، كردة فعل لعمليات الشيطنة التي حدثت عهد الجبهة السابق، وتعليق شماعة فشل الدولة الإثيوبية المزمن عليهم.

تتويج الفاشية

رغم البداية المثالية التي استهل بها آبي أحمد حكمه، والتي كانت محل إعجاب الجميع سواء في الداخل الإثيوبي أو على المستوى الدولى، إلا أنه كان في حقيقة الأمر كان ترجمة فعلية للأفكار المنتشرة والأجواء المحيطة بها في إثيوبيا، فسرعان ما انقلب على عقبيه بطريقة مثيرة للجدل من خلال استخدامه العنف المفرط ضد المواطنين الإثيوبيين سواء في أزمة تيغراي التي وصلت لحد الانتهاكات الجسيمة والمروعة بحق المواطنين في إقليم تيغراي، أو في تصفيته للحراك في أوروميا بنفس طريقة موسوليني في تصفيته للتيارات اليسارية الاشتراكية والعمالية التي تمت عن طريق الاغتيالات وعنف الشوارع المنظم.

كذلك أعاد آبي أحمد استخدام تقنية عبادة الرمز أو تبجيل القائد Cult of Personality، وهي تدابير تتخذها الحكومات الفاشية والديكتاتورية في مجال الإعلام الجماهيري لتكثيف الدعاية حول القائد، وإلى القيام بنشر المعلومات الكاذبة لتعبئة الجماهير وتنظيم المسيرات الجماهيرية، بالإضافة إلى بقمع الأصوات الأخرى التي تقدم خطابا آخر لا يتساير مع الخط المرسوم لتعظيم القائد، أو لأنها تقدم الحقيقة كما هي، والغرض من تلك التدابير هو إبراز إيجابيات الحكومة بشكل مطلق وخلق رأي عام مؤيد لها، وإظهار القائد بمظهر البطل الخارق ” السوبرمان ” والقائد الضرورة.

قام آبي أحمد أيضا بتصفية الصحافة والإعلام الحر رغم الحرية النسبية التي نفحها في وجه العاملين في مجال السلطة الرابعة في بداية حكمه وتخفيفه لقبضة الدولة على الاعلام، إلا أنه سرعان ما انتهت هذه الانفراجة ورجعت إثيوبيا من جديد إلى قائمة الدول المنتهكة لحقوق الصحفيين والإعلاميين، فعمليات قتل الصحفيين واعتقالهم قد تزايدت، وكذلك تضاعفت ظاهرة تهديد الصحفيين من خلال الاستخدام الملتوي للقانون الذي سن في 2020م المتعلق بخطاب الكراهية والمعلومات المضللة.

وعالم الانترنت ليس ببعيد، فالمتابع لمواقع التواصل الاجتماعي سيلاحظ تلك العمليات المنظمة التي تقوم بها الصفحات والمواقع الشخصية لتبجيل شخص آبي أحمد والهجوم على أي صوت معارض بطريقة منظمة ومكثفة، تشبه إلى حد كبير ظاهرة الذباب الإلكتروني التي اخترعتها الأنظمة العربية في فترة الربيع العربي.

أيضا لم يكن آبي أحمد بعيدا عن الشعبوية – بمفهومها المعاصر – والتي تعني ادعاء القائد الكاريزمي أنه ممثل ومجسد لإدارة الشعب لتعزيز سلطته، وذلك من خلال إشاعة الوطنية المتطرفة والتخويف من المؤامرات والبحث عن كبش فداء أو اختلاق عدو وهمي، والمتابع للغة الخطاب والحوار في الساحة الإثيوبية سيجد أنها ملأى بالمشاعر القومية المتطرفة وبالإشارات المتعلقة بالمؤامرات الدولية والعالمية التي تحاك باستمرار لتفتيت كيان الدولة، كما أنها مشحونة بشيطنة الطرف الآخر أيا كان.

الخاتمة

ضعف الديموقراطية وضعف إيمان الشعوب بها، مع تزايد حالة الامتعاض وانتشارها بين المواطنين بسبب الأوضاع الاقتصادية السيئة التي لا تتناسب مطلقا مع حجم البلدان وثرائها بالموارد الطبيعية، عادة ما تخلق الأرضية المناسبة للأفكار الفاشية التي تدعو للخلاص من الحالة الراهنة عن طريق إيجاد – أو استدعاء – قيادة خارقة وحازمة تصل إلى مستوى العنف، والقادة الفاشيون الذين يأتون لاحقا هم تعبير عملي لتلك الأفكار.

ما يحدث في إثيوبيا يشبه إلى حد كبير ما مرت به إيطاليا في بداياتها الفاشية، التي نبتت كفكرة في نهاية القرن التاسع عشر وتبلورت في شخص وحزب قبل نهاية الربع الأول من القرن العشرين، والفاشية في إثيوبيا – إن صح التشخيص – قد بدأت مع الألفية الجديدة، وتم بلورتها في شخص رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد الذي استخدم نفس الأدوات التي استخدمها بنيتو مولوسيني في قمع معارضيه وتصفيتهم، وفي استخدامه لتدابير عبادة الرمز وتبجيل القائد لخلق رأي عام مناصر، وأيضا في خطابه الشعبوي.

 لذلك عندما تتشابه البدايات والظروف والأدوات بين تجربتين، لا يسعنا إلا تخيل نهايات متشابهة بينهما.

لكم أن تتخيلوا!

عن موقع " أحمد هراد"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية