الفاشية في رؤوسنا: هل يمكن دمقرطة لغتنا؟

الفاشية في رؤوسنا: هل يمكن دمقرطة لغتنا؟

الفاشية في رؤوسنا: هل يمكن دمقرطة لغتنا؟


04/11/2023

لا تبدأ الممارسة الديمقراطيّة، إلّا إذا تغيّر الكامن فينا، على مستوى الشعور واللاشعور. فإذا كانت اللغة هي أعظم ما يُفصح عن الإنسان؛ بل هي بوابة الإنسان إلى العالَم، فإنّها -أي اللغة- مغموسة بالذي يتضمنه ما هو كامن فينا.

اقرأ أيضاً: الشيوعية والفاشية والنازية: ماذا كانت تريد الشموليات من العالم؟

يكتب ميشيل فوكو: "الفاشية فينا كلّنا، في رؤوسنا وسلوكنا اليوميّ، الفاشية التي جعلتنا نعشقُ السلطة، وأن نرغب في كلّ ما يهيمن ويستغلّنا"، فليس العنف والطائفيّة واللاعدالة مجرّد ممارسة يقوم بها الفاشيون والطغاة، إنما هي فاشية تكمن في الجسد والرأس، ولذلك تحرير اللغة على مستوى النفس؛ هو بداية التحرير الحقيقي للحياة المشتركة واللافاشيّة.

إضفاء الصفة الهوياتيّة على السياسة ولغتنا العموميّة لا ينتج سوى مزيد من إقصاء لغويّ يتحول إلى إقصاء وجودي للغير

إنّ اللغة ليست أداة تواصليّة براغماتية وكفى، بل إنّ ما يصدر من الإنسان من أصوات هو نتاج للنماذج المعرفيّة التي تمثّل الرؤية الكونيّة لديه، ومن ثمّ، فإنّها المعبّر المُخلص عن الكينونة، فكلّ شيءٍ، إذا لم يخضع إلى دلالات جديدة وديمقراطيّة وأكثر قبولاً للآخر دون حرجٍ للذات، كانت لغتنا قاتمة وعدميّة وإقصائيّة، تقوم على "نحن" و"هم"، خاصّة في مشهد عربيّ حافل بالفاشيّة السلطويّة لعقود، ولم تُعرف للممارسة الديمقراطيّة فضاءً فيها، إلّا كان مثقوباً.

وفي ظلّ وعي غير صحيح، يتم تجنيد القواعد الشعبيّة سواء على المستوى العادي أو على المستويات الأيديولوجيّة للأحزاب، ويتمّ رسم التصورات لديهم، بلغةٍ مراوغة تستبدّ بالمخيال بواسطة سلطة الجميل والأقوال البليغة، وذلك من قبل الدولة ومن قبل الأحزاب الديمقراطية شعاراً والفاشية لغة.

اقرأ أيضاً: أولبرايت تحذر من انتعاش الفاشية في كتابها الجديد!

فالدولة تعمل على ترسيمات معيّنة في الذهن، تجاه ما يسمّى "الوطن" و"الدولة" و"الهويّة الوطنيّة"، ...إلخ؛ بل إنّها تعيد تعريف الوطنيّة كمفهوم جامع للانتماء إلى قوّة إقصائيّة للذين يتبنّون سرديّة غير سرديتها عن نفسها، بل إنّ الدولة لتضع "حقوق الإنسان" رهينة بتعريفها للوطنيّة، وهنا نذكر حنّة أرندت، حيث أشارت بشكل جذري وموضّح لطبيعة الدولة الحديثة، إلى أنّه "لا مكان لحقوق الإنسان خارج الدولة القومية، هناك حقوق للمواطنين، لا حقوق للإنسان، وكي تتمتع بالحقوق عليك أن تكون مواطناً"، وهنا نرى كيف أنّ المفاهيم التي يفترض أنّها تجمع الذات والغير تعمل الدولة على تشويهها، لتحوّلها إلى مفاهيم تحريضيّة ضدّ الآخر.

إنّ ممارسة السياسة بمنطق هوياتيّ لا تنتج سوى فاشيات وأيديولوجيات عنيفة وهيمنة معمّمة على المجال العام

كما أنّ هناك نوعاً من الديمقراطيّة الإقصائيّة، وهي التي تقوم بالترويج لها الأحزاب الأيديولوجيّة، سواء من خلال الظنّ بأنّ التاريخ يسير باتجاههم بحتميّة صلبة، ومن ثمّ فإنّ التاريخ سينتصر لهم، أو من خلال دعاية "التمكين" لإقصاء المخالف والمعارض، فينقلون المفاهيم من مستوى متعالٍ إلى مستوى سياسي يتعلّق باليومي والراهن والظرفي.

ليست الأزمة في فتح مجال ديمقراطي حقيقي، بقدر ما تكمن الأزمة في دمقرطة أنفسنا ولغتنا قبل ممارستنا، لقد تمّ الحديث طويلاً عن إمكانية ديمقراطية حقيقيّة في فضائنا، بيد أنّ الديمقراطيّة لا يُمكن أن تُفرض على أحد، إلّا إذا فرضها هو على نفسه، وعلى شعوره ولا شعوره، وذلك بإدراك آخريتنا، وكيف أنّ الهويّة التي نصون جرحها النازف، ليست سوى "هو" كامن في بنيتها اللغوية والوجوديّة.

تعملُ سياسات الهويّة دائماً ضمن معجم معيّن للحديث عن الذات، يُبوّئ الذات منزلة معياريّة لتحديد الآخر، حتى إن كان هذا الآخر هو الذي لا معنى للذات بدونه، كالأنثى مثلاً، ونحن نعلم لغتنا المطعونة بتهميش الأنثى لاشعورياً، وليست هذه دعوة نِسويّة، إنما تحليل لأنماط اللغة وبنيتها الإقصائية التي تترسّخ فينا، فثمّة إقصاء للحديث عن الغير، وفتح النقاش معه لغوياً، وهذا خطير؛ لأنّ ما لا يمكن الحديث عنه يظلّ مبهماً وعنيفاً أيضاً، وإذا تحدثنا عنه مارسنا عنف الذات لنسقطه عليه.

اقرأ أيضاً: كيف تعرف أنك فاشي؟

في السياسة القائمة على الهويّة، والتي تقوم بالضرورة، كما نراها اليوم في أبشع صورها، على فكرة تصوّر هويّة نقيّة، يحاول الغرباء، سواء كانوا خارجيين أو داخليين، تخريبها، يكمن الخطر تحديداً في أنّ ما يُصدَّر باعتباره هويّة أصليّة ما هو سوى عنف لغويّ في لعبة سياسيّة من المفترض أنّها تقوم على التجاذب والتفاوض الهوياتيّ. وبالتالي؛ إضفاء الصفة الهوياتيّة على السياسة ولغتنا العموميّة، لا ينتج سوى مزيد من إقصاء لغويّ، يتحوّل تدريجيّاً إلى إقصاء وجوديّ للغير بما هو كذلك.

إنّ ممارسة السياسة بمنطق هوياتيّ لا تنتج سوى فاشيات، وأيديولوجيات عنيفة، وهيمنة معمّمة على المجال العام؛ ولهذا نلاحظ أنّ الهوياتي لا يريد وحدة سياسيّة للأرض التي يعيش عليها؛ بل هو يعمل دائماً على تقسيمها وتفتيتها. وطبعاً، إنّ الوحدة السياسيّة لا أعني بها صهْر هويّات الأفراد في هويّة متعالية على التاريخ أو لوهم قومي أو تمثيلي، بل الوحدة التي تبتدئ بالاختلاف وتنتهي به؛ أن يسير الجميع ضمن هويات مختلفة، فالإنسان كائن اختلافي أو لا يكون.

اقرأ أيضاً: سيرة مثيرة لصحفية إيطالية اعتبرت الإسلام السياسي فاشياً وعدوانياً

ينظر الفيلسوف الفرنسيّ الشهير، جيل دولوز، بشكل مميز لفكرة الهويّة، فبالنسبة إلى دولوز، الهويّات أصلاً، وهو يتحدّث هنا من موقع فلسفيّ وسياسيّ مهم، ليست سوى اصطناع. نجد عند دولوز في كتابه العمدة "الاختلاف والتكرار": "ليست كلّ الهويات سوى مصطنعة، نتجت بوصفها "أثراً" بصرياً عن لعبة أعمق هي لعبة الاختلاف والتكرار، نريد أن نفكّر بالاختلافَ في ذاته وصلةَ المختلف بالمختلف، بشكل مستقلّ عن أشكال التمثّل التي تعيدهما إلى الـ"عينة"، وتجعلهما يمرّان بالسلب".

لا بدّ من التأكيد على الهويّة التاريخيّة، بمعنى أنّ تعريف الإنسان لنفسه ينبع من كونه داخل التاريخ "ضمن فهم معيّن لنفسه"، إذا استعرنا من فيلسوف الغابة السوداء، أعني هيدغر. إنّ الهويّة تتحدّد من خلال موقعنا من العالم الآن وهنا، وليس من خلال منطق متعال على التاريخ، وبالتالي؛ فإنّ هويّتنا التي نظنّ أنها ثابتة، ونحارب ضدّ من نراه يحاول زعزعتها، هي تاريخيّة، وعندما نموت في حياض التمسّك بها، فإنّنا بمعنى ما ندافع عن تاريخيّة ما لأنفسنا، وليس عن شيء آخر.

لا يمكن بدء المشاركة الثنائيّة إلّا إذا تمّ تحرير أصل الهويّة الواحد فلا بدّ من اعتبار الهويّة منشطرة إلى ذات وآخر

لا يمكن بدء المشاركة الثنائيّة، إلّا إذا تمّ تحرير أصل الهويّة الواحد، فلا بدّ من اعتبار الهويّة منشطرة إلى ذات وآخر، أو كما يختصر علينا بول ريكور: "الذات عينها كآخر". ويحلّل الفيلسوف الاقتصادي، أمرتيا سِن، "عنف الهويّة"، من خلال "وهم القدر"؛ أي إنّ الإنسان يتوهّم أن قدره قد وضعه في هويّة "واحدة"، في حين أنّ الإنسان له روافد كثيرة متشعبة، سواء على المستوى الشخصي، كذات؛ أو على المستوى الجمعي، كفرد ينتمي إلى أمّة وثقافة، فإنّ الأمّة التي ينتمي إليها أصولها مُبلبلة ومشوّش عليها، وهناك عناصر "أجنبيّة"، وهي تسمية إقصائيّة، قامت بصناعة "ذات" تلك الأمة وهذه الثقافة التي نتخيّل أنّ أصولها واحدة.

اقرأ أيضاً: فوكو والثورة الإيرانية

كلّ هذه العوامل الثقافية والتاريخيّة هي ما تنشئ "عنف اللغة" المُمارَس على أنفسنا وعلى الآخرين؛ فالذات هي أوّل من يقع عليها استبدادها قبل الآخر، وذلك بالظنّ أنّها متعالية وتنزل منزلة عليا عن الآخرين، مما يحوّلها لذات عدميّة وملثّمة بالغموض الكثيف، فإنّ حياتنا الملأى بالفاشية هي نتاج تصوراتنا وكلامنا الفاشيَّيْن، والديمقراطية كتداول تشاركي لا تكون إلا بديمقراطيّة لغوية تحرّر اللغة من هويتها ضدّ نفسها والآخرين، ليكون الآخر من بنية الـ"نحن"، ولتغدو الـ"نحن"، كذلك عُرضة لمهبّ الغيرية المتواصلة.

صحيحٌ أنّ الديمقراطيّة نفسها تمتلك، في بعض الأحيان، عنفها الخاصّ، ولغتها الإقصائيّة، والتزاماتها المعياريّة التي تفضي بإزاحة ما؛ لذا، فالدعوة ليست في تثبيت الديمقراطيّة بشكلها المتداول، بقدر ما في دمقرطة الديمقراطيّة نفسها؛ أي تحريرها من قيودها الطبقيّة والتعليميّة التي تفترضها. فكما تقول المنظّرة الكبيرة، غاياتري سبيفاك: إنّ "مستقبل الديمقراطية يكمن في أيادي هؤلاء الناخبين غير المتعلمين الذين لن تشملهم الديمقراطية، حتى وإن كانت الانتخابات نزيهة، ذلك أنّ التعليم يحكمه تمييز طبقيّ".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية